القول في تأويل قوله تعالى:فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه من رسلنا، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قُصِد في نفسه وأهله بسوء، (وجاءته البشرى ) ، بإسحاق، ظلّ، ( يجادلنا في قوم لوط) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18331- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة،قوله:(فلما ذهب عن إبراهيم الروع) يقول:ذهب عنه الخوف، (وجاءته البشرى)، بإسحاق.
18332- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، بإسحاق، ويعقوب ولد من صلب إسحاق، وأمن مما كان يخاف ، قال:الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ، [سورة إبراهيم:39].
* * *
وقد قيل معنى ذلك:وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون.
*ذكر من قال ذلك:
18333- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:(وجاءته البشرى) ، قال:حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون. (6)
* * *
وقال آخرون:بشّر بإسحاق.
* * *
وأما "الروع ":فهو الخوف، يقال منه:"راعني كذا يَرُوعني روعًا "إذا خافه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل:"كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن "؟ ومنه قول عنترة:
مَــا رَاعَنــي إلا حَمُوَلُــة أَهْلِهَـا
وَسْـطَ الدِّيـارِ تَسَـفُّ حَـبَّ الخِمْخِمِ (7)
بمعمى:ما أفزعني.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
18334- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الروع "، الفَرَق.
18335- حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
18336-. . . . قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:(فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال:الفَرَق.
18337- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:(فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال:الفَرَق.
18338- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:(فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال:ذهب عنه الخوف.
* * *
وقوله:(يجادلنا في قوم لوط) ، يقول:يخاصمنا. كما:-
18339- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(يجادلنا) ، يخاصمنا. (8)
18340- حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله:(يجادلنا) يكلمنا.وقال:لأن إبراهيم لا يجادل الله ، إنما يسأله ويطلب إليه. (9)
* * *
قال أبو جعفر:وهذا من الكلام جهلٌ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط ، فقول القائل:"إبراهيم لا يجادل "، موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله:(يجادلنا) ، يخاصمنا، أن إبراهيم كان يخاصم ربَّه ، جهلٌ من الكلام، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك:"وجاءته البشرى يجادل رسلنا "، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف "الرسل ".
* * *
وكان جدالُه إيَّاهُم ، كما:-
18341- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي قال ، حدثنا جعفر، عن سعيد:(يجادلنا في قوم لوط) ، قال:لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم:إنَّا مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين:قال لهم إبراهيم:أتهلكون قريةً فيها أربع مائة مؤمن؟ قالوا:لا! قال:أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن؟ قالوا:لا! قال:أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا:لا! قال:أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا:لا! قال:أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا:لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه .
18342- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، قال الملك لإبراهيم:إن كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب.
18343- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:(يجادلنا في قوم لوط)، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم:أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا:لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا:لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد.
18344- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:(يجادلنا في قوم لوط)، قال:بلغنا أنه قال لهم يومئذ:أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا:إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال:أربعون؟ قالوا:وأربعون! قال:ثلاثون؟ قالوا:ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا:وإن كان فيهم عشرة! قال:ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير،قال ابن عبد الأعلى، قال محمد بن ثور، قال معمر:بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك.
18345- حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي، (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، قال:ما خطبُكم أيها المرسلون ؟ قالوا:إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فجادلهم في قوم لوط قال، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا:لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا:لا نعذبهم ، إن كان فيهم عشرة من المسلمين، ثم قالوا:"يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين "هو لوط وأهل بيته، وهو قول الله تعالى ذكره:(يجادلنا في قوم لوط) . فقالت الملائكة:يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ.
18346- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، يعني:إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب قال:فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حينجادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم العذاب، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به:أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا:، لا! قال:أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا:لا! قال:أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا:لا! قال:أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا:لا! قال:أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا لا! قال:أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال:أفرأيتم إن كان رجلا واحدًا مسلمًا؟ قالوا:لا! قال:فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنًا واحدًا ،قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا، يدفع به عنهم العذاب، قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ[ سورة العنكبوت:32] ، قالوايَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ.
18347- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال إبراهيم:أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبَط إلى خمسة. قال:وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف.
18348- حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا(لما ذهب عن إبراهيم الروع)، إلى آخر الآية قال إبراهيم:أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا، فيهم مائة رجل؟ قال:لا وعزتي ، ولا خمسين ! قال:فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال:لا ! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني ! قال الله عز وجل:فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ[سورة الذاريات:36] ، أي لوطًا وابنتيه ، قال:فحلّ بهم من العذاب، قال الله عز وجل:وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ[سورة الذاريات:37] ، وقال:(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط). (10)
* * *
والعرب لا تكاد تَتَلقَّى "لمَّا "إذا وليها فعل ماض إلا بماض، يقولون:"لما قام قمت "، ولا يكادون يقولون:"لما قام أقوم ". وقد يجوز فيما كان من الفعل له تَطَاول مثل "الجدال ""والخصومة "والقتال، فيقولون في ذلك:"لما لقيته أقاتله "، بمعنى:جعلت أقاتله.
---------------------------
الهوامش:
(6) بعد هذا الأثر ما نصه:"قال حدثنا محمد بن ثور ، قال حدثنا معمر ، وقال آخرون . . . "فحذفت هذه الزيادة ، لأنها سبق نظر من الناسخ ، لأنه نقل من أول السطر الذي فوقه ، ثم عاد إلى السياق ولم يتم النقل .
(7) ديوانه:123 ، من معلقته المشهورة ، وقبله:
إنْ كُــنْتِ أَزْمْعـتِ الفِـرَاقَ , فإنَّمـا
زُمَّــتْ رِكــابُكُمْ بِيَــوْمٍ مُظْلِــمِ
"الخمخم"، بقلة لها حب أسود . وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع، فلما يبس البقل ، سفت حب الخمخم ، فكان ذلك نذيرًا بوشك فراقهم .
(8) انظر تفسير "المجادلة "فيما سلف ص:303 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك
(9) في المطبوعة:"ويطلب منه "، لم يحسن قراءة المخطوطة لدقة كتابة الكلمة في تجويف باء "يطلب "، إذ كانت في آخر السطر .
(10) الأثر:18348 - "محمد بن عوف بن سفيان الطائي"، شيخ الطبري ، مضى مرارًا ، منها:13108 .
و"أبو المغيرة "، هو:"عبد القدوس بن الحجاج الخولاني "، مضى مرارا ، منها:13108 .
و"صفوان "هو:"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، مضى مرارًا ، منها:13108 .
"وأبو المثني "كأنه يعني:مسلم بن المثني الكوفي المؤذن "، روى عن ابن عمر ، مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 1 / 256 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 195 . وأما "أبو الحبيل الأشجعي "، فلست أجد من يسمى هكذا ، وظني أنه قد وقع في هذا الإسناد خطأ ، فصوابه عندي:"قال حدثنا أبو المثني مسلم ، والحسيل الأشجعي".
"والحسيل الأشجعي "، فيما أرجح:"الحسيل بن عبد الرحمن الأشجعي "، ويقال أيضًا:"حسين "، روى عن سعد بن أبي وقاص ، مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 58 . هذا ، وفي النفس شيء من حقيقة هذا الإسناد ، والله أعلم .