قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ، رُوي عن ابن عباس وقتادة : " أنه مَثَلٌ ضُرب للكافر الذي لا خير عنده ، والمؤمن الذي يكتسب الخير " . وقال الحسن ومجاهد : " هو مَثَلٌ ضُرب لعبادتهم الأوثان التي لا تملك شيئاً ، والعدول عن عبادة الله الذي يملك كل شيء " .
قال أبو بكر : قد حوت هذه الآية ضروباً من الدلالة على أن العبد لا يملك ، أحدها : قوله : { عَبْداً مَمْلُوكاً } ، نكرةً ، فهو شائع في جنس العبيد ، كقول القائل : لا تكلم عبداً وأعْطِ هذا عبداً ، أن ذلك ينتظم كل من يسمَّى بهذا الاسم ، وكذلك قوله : { يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة } [ البلد : 15 و 16 ] ، فكلّ من لحقه هذا الاسم قد انتظمه الحكم إذْ كان لفظاً منكوراً ، كذلك قوله : { عبداً مملوكاً } ، قد انتظم سائر العبيد . ثم قال : { لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ، لا يخلو من أن يكون المراد : نَفْيَ القدرة ، أو نَفْيَ الملك ، أو نفيهما ، ومعلوم أنه لم يُرِدْ به نفي القدرة إذ كان العبد والحرّ لا يختلفان في القدرة من حيث اختلفا في الرقّ والحرية ؛ لأن العبد قد يكون أقدر من الحرّ ، فعلمنا أنه لم يُرِدْ به نفي القدرة ، فثبت أنه أراد نفي الملك ، فدل على أن العبد لا يملك . ووجه آخر : وهو أنه تعالى جعله مثلاً للأصنام فشبهها بالعبيد المملوكين في نفي الملك ، ومعلوم أن الأصنام لا تملك شيئاً ، فوجب أن يكون من ضُرِبَ المثل به لا يملك شيئاً ، وإلا زالت فائدة ضَرْبِ المثل به ، وكان يكون حينئذ ضَرْبُ المثل بالعبد والحر سواءً . وأيضاً : لو أراد عبداً بعينه لا يملك شيئاً ، وجاز أن يكون من العبيد من يملك لقال : ضرب الله مثلاً رجلاً لا يقدر على شيء ، فلما خصَّ العبد بذلك ، دلّ على أن : وجه تخصيصه أنه ليس ممن يملك .
فإن قيل : رَوَى إبراهيم ، عن عكرمة ، عن يَعْلَى بن مُنْيَة ، عن ابن عباس في هذه الآية : أنها نزلت في رجل من قريش وعبده ثم أسلما ، فنزلت الأخرى في رجلين : أحدهما : أبكم لا يقدر على شيء إلى قوله { صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، قال : كان مَوْلًى لعثمان ، كان عثمان يكفله وينفق عليه ، فعثمان الذي ينفق بالعدل ، وهو على صراط مستقيم ، والآخر أبكم ؛ وهذا يوجب أن يكون في عبد بعينه ، وقد يجوز أن يكون في العبيد من لا يملك شيئاً ، كما يكون في الأحرار من لا يملك . قيل له : هذه الرواية ضعيفة عن ابن عباس ، وظاهر اللفظ ينفيها ؛ لأنه لو أراد عبداً بعينه لعرَّفه بالألف واللام ولم يذكره بلفظ منكور . وأيضاً : معلوم أن الخطاب في ذكر عَبَدَةِ الأوثان والاحتجاج عليهم ، ألا ترى إلى قوله : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فلا تَضْرِبُوا لله الأَمْثَالَ } ، ثم قال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ، فأخبر أن مثل ما يعبدون ، مثل العبيد المماليك الذين لا يملكون شيئاً ولا يستطيعون أن يملكوا ، تأكيداً لنفي أملاكهم ، ولو كان المراد عبداً بعينه ، وكان ذلك العبد ممن يجوز أن يملك ، ما كان بينه وبين الحرّ فرقٌ ، وكان تخصيصه العبد بالذكر لَغْواً ؛ فثبت أن المعنى فيه نَفْيُ ملك العبيد رأساً .
فإن قيل : فقد قال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ } ، ولم يدلّ على أن الأبكم لا يملك شيئاً . قيل له : إنما أراد عبداً أبْكَمَ ، ألا ترى إلى قوله : { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ } ، فذِكْرُ المولى وتوجيهه ، يدلّ على أن المراد : العبد ، كأنه ذكر أولاً عبداً غير أبكم ، وجعله مثلاً للصنم في نفي الملك ، ثم زاده نقصاً بقوله : { أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ } ، فدل على أنه أراد عبداً أبكم ، مبالغةً في وصف الأصنام بالنقص وقلة الخير ، وأنه مملوك متصرف فيه .
فإن قيل : أراد بقوله : { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ } ، ابنَ عمه ؛ لأن ابن العم يسمَّى مولى . قيل له : هذا خطأ ؛ لأن ابن العم لا تلزمه نفقة ابن عمه ، ولا أن يكون كَلاًّ عليه ، وليس له توجيهه في أموره ، فلما ذكر الله تعالى هذين المعنيين للأبكم ، علمنا أنه لم يُرِدْ بِه الحرَّ الذي له ابن عم ، وأنه أراد عبداً مملوكاً أبكم ؛ وعلى أنه لا معنى لذكر ابن العم ههنا ؛ لأن الأب والأخ والعمّ أقرب إليه من ابن العم وأوْلى به ، فحَمْلُهُ على ابن العم يزيل فائدته . وأيضاً : فإن المولى إذا أطلق يقتضي : مولى الرقّ ، أو مولى النعمة ، ولا يُصرف إلى ابن العم إلا بدلالة .
فإن قيل : لا يجوز أن يكون المراد الأصنام ؛ لأنه قال عبداً مملوكاً ، ولا يقال ذلك للصنم . قيل له : قد أغفلتَ موضع الدلالة ؛ لأنه إنما ذكر عبداً مملوكاً لنا ، وجعله مثلاً للأصنام التي كانوا يعبدونها ، وأخبر أنها بمنزلة مماليكنا الذين لا يملكون شيئاً ، فكما أن الصنم لا يملك بحال كذلك العبد ، وعلى أن الله تعالى قد سمَّى الأصنام عباداً بقوله : { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } [ الأعراف : 194 ] .
وقد اختلف الفقهاء في ملك العبد ، فقال أصحابنا والشافعي : " العبد لا يملك ، ولا يتسرَّى " . وقال مالك : " يملك ، ويتسرَّى " . وقد روى أبو حنيفة قال : حدثنا إسماعيل بن أمية المكي ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن ابن عمر قال : " لا يحل فَرْجُ المملوك إلا لمن إن باع أو وهب أو تصدق أو أعتق جاز " يعني بذلك : المملوك ؛ وكذلك رَوَى يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر . ورُوي عن إبراهيم وابن سيرين والحكم : " أن العبد لا يتسرَّى " . ورُوي عن ابن عباس : " أن العبد يتسرَّى " ، وروى يعمر عن نافع عن ابن عمر : " أنه كان يرى بعض رَقِيقِهِ يتخذ السرية فلا ينكر عليه " . وقال الحسن والشعبي : " يتسرَّى العبد بإذن سيده " . وروى أبو يوسف ، عن العلاء بن كثير ، عن مكحول ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العَبْدُ لا يَتَسَرَّى " ؛ وهذا يدل على أنه لا يملك ؛ لأنه لو ملك لجاز له التسرِّي بقوله : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 5 و 6 ] . ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ بَاعَ عَبْداً ولَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ " ؛ وذلك لأنه لما أن جعله للبائع أو للمشتري أخرج العبد منه صِفْراً بلا شيء . ويدل عليه أن للمولى أخْذُ ما في يده ، وهو أوْلى به منه لأجل ملكه لرقبته ، فلو كان العبد ممن يملك لما كان له أخذ ما في يده ؛ لأن ما بان به العبد عن مولاه فلا سبيل للمولى عليه فيه ، ألا ترى أن العبد لما ملك طلاق امرأته ، ووَطْءَ زوجته ، فهي أَمَةٌ للمولى لم يملكه المولى ؟ وكذلك سائر ما يملكه العبد من نفسه لم يملكه المولى منه ، فلو ملك العبد المال لما كان للمولى أخذه منه لأجل ملكه له ، كما لم يملك طلاق امرأته لأجل ملكه .
فإن قيل : جواز أخْذِ المولى مَالَهُ لا يدل على أنه غير مالك ؛ لأن للغريم أن يأخذ ما في يد المدين بدينه ، ولم يدلّ على أن المدين غير مالك . قيل له : لأنه يأخذه لا لأنه مالك للمدين ، بل لأجل دينه الذي عليه ، والمولى يستحقه لأجل ملكه لرقبته ، فلو كان العبد مالكاً لم يستحق المولى لأجل ملكه لرقبته ، كما لم يملك طلاق امرأته لأجل ملكه لرقبته ، وفي ذلك دليل على أن العبد لا يملك . ودليل آخر : وهو أنه لا خلاف أن من كاتَبَ عبده على مال فأدّاه ، أنه يُعتق ويكون الولاء للمولى ، وأنه معتق على ملك مولاه ، فلو كان ممن يملك ، لملك رقبته بالمال الذي أدّاه ، ولا ينتقل إليه كما ينتقل إلى غيره ، لو أمره بأن يعتقه عنه على مال ، ولو ملك رقبته لعتق على نفسه ، لكان لا يكون الولاء للمولى بل كان يكون ولاؤه لنفسه ، فلما لم يصحَّ انتقال ملك رقبته إليه بالمال وعتق على ملك المولى ، دلَّ ذلك على أنه لا يملك ؛ لأنه لو كان ممن يملك ، لكان بملك رقبته أولى ، إذْ كانت رقبته مما يجوز فيه التمليك .
فإن قيل : قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ بَاعَ عَبْداً وَلَهُ مَالٌ فَمالُهُ للبَائِعِ " ، يدلّ على أن العبد يملك ، لإضافته المال إليه . قيل له : قد أثبت النبيُّ صلى الله عليه وسلم المال للبائع في حال البيع ، ومعلوم أنه لا يجوز أن يكون ملكاً للمولى وملكاً للعبد لاستحالة أن يملك ، وإلا لكان لكل واحد جميع المال ؛ ففي هذا الخبر بعينه إثباتُ ما أضاف إلى العبد ملكاً للبائع ، فثبت أن إضافته إلى العبد على وجه اليد كما تقول : " هذه دار فلان " ، وهو ساكن فيها وليس بمالك ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : " أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ " ، ولم يُرِدْ إثبات ملك الأب .
فإن قيل : قد رَوَى عبيد الله بن أبي جعفر ، عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَعْتَقَ عَبْداً ، فَمَالُهُ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ مَالَهُ فَيكُونُ لَهُ " ، وهذا يدل على أن العبد يملك ؛ لأنه لو لم يملكه قبل العتق لم يملكه بعده . قيل له : لا دلالة في هذا على أن العبد يملك ؛ لأنه جائز أن يكون جَرَيَانُ العادة بأن ما على العبد من الثياب ، ونحو ذلك لا يؤخذ منه عند العتق ، جَعَلَهُ كالمنطوق به ، وجعل تَرْكَ المولى لأخذه منه دلالة على أنه قد رضي منه بتمليكه إياه بعد العتق ؛ وأيضاً فقد رُوي عن جماعة من أهل النقل تضعيفه ، وقد قيل : إن عبيد الله بن أبي جعفر غلط في رفع هذا الحديث وفي مَتْنِه ، وإن أصله : ما رواه أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان إذا أعتق عبداً لم يعرض لماله ، فهذا هو أصل الحديث ، فأخطأ عبيد الله في رفعه وفي لفظه .
وقد رُوي خلاف ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما رواه أبو مسلم الكجّي قال : حدثنا محمد بن عبدالله الأنصاري قال : حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور ، عن عمران بن عمير عن أبيه قال : وكان مملوكاً لعبد الله بن مسعود قال له عبدالله : يا عُمَيْرُ بَيِّنْ لي مالَكَ فإني أريد أن أُعتقك ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ أَعْتَقَ عَبْداً فَمَالُهُ للّذي أَعْتَقَ " . وكذلك رواه يونس بن إسحاق عن عمران بن عمير عن ابن مسعود مرفوعاً . وقد بلغنا أن المسعودي رواه موقوفاً على ابن مسعود ، وذلك لا يفسده عندنا .
فإن احتجّ محتجٌّ بقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } [ النور : 32 ] ، وذلك عائد على جميع المذكورين ، من الأيامَى والعبيد والإماء ، فأثبت للعبد الغِنَى والفقر ، فدلّ على أنه يملك إذ لو لم يملك لكان أبداً فقيراً . قيل له : لا يخلو قوله : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } [ النور : 32 ] ، من أن يكون المراد به الغِنَى بالوَطْءِ الحلال عن الحرام ، أو الغِنَى بالمال ؛ فلما وجدنا كثيراً من المتزوجين لا يستغنون بالمال ، ومعلوم أن مخبر أخبار الله لا محالة كائن على ما أخبر به ، علمنا أنه لم يرد به الغِنَى بالمال ، وإنما أراد الغِنَى بالوَطْءِ الحلال عن الحرام . وأيضاً : فإنه إن أراد الغنى بالمال ، فإنه مقصور على الأيامَى والأحرار المذكورين في الآية ، دون العبيد الذين لا يملكون بما ذكرنا من الدليل . وأيضاً فإن العبد لا يستغني بالمال عند مخالفنا ؛ لأن المولى أوْلَى بجميع مالِهِ منه ، فأيُّ غِنًى في مال يحصل له وغيره أوْلى به منه ، فالغِنَى في هذا الموضع إنما يحصل للمولى دون العبد . والدليل على أن العبد لا يكون غنيّاً بالمال : قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ ، وَأَرُدَّهَا في فُقَرَائِكُمْ " ، وعند مخالفنا أنه لا يؤخذ من مال العبد ، فلو كان غنيّاً لوجب في ماله الزكاة ، إذ هو مسلم غني من أهل التكليف .
فإن قيل : لما كان العبد يملك الطلاق ، وجب أن يملك المال كالحر . قيل له : إنما ملك العبد الطلاق ؛ لأن المولى لا يملكه منه ، فلو ملك العبد المال ، وجب أن لا يملك المولى منه ، وأن لا يجوز له أخْذُهُ منه ؛ لأن كل ما يملكه المولى من عبده فإن العبد لا يملكه منه ، ألا ترى أن العبد المحجور عليه لو أقرَّ بدَيْن لم يلزمه في الرقّ ، ولو أقرَّ المولى عليه به لزمه ؟ وكذلك للمولى أن يزوج عبده وليس للعبد أن يزوج نفسه ، لما كان ذلك معنى يملكه المولى منه ، ولو أقرَّ المولى عليه بقصاص أو حدٍّ لم يلزمه ؛ لأن العبد يملك ذلك من نفسه ، وفي ذلك دليل على أن العبد لا يملك ، إذ لو ملكه لما جاز للمولى أن يتصرف عليه في ماله كما لا يتصرف عليه في الطلاق حين كان العبد يملكه .