باب الاستثناء في اليمين
قال الله تعالى : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله } . قال أبو بكر : هذا الضَّرْبُ من الاستثناء يدخل لرفع حكم الكلام حتى يكون وجوده وعدمه سواء ؛ وذلك لأن الله تعالى نَدَبَهُ إلى الاستثناء بمشيئة الله تعالى لئلا يصير كاذباً بالحلف ، فدلّ على أن حكمه ما وصفنا . ويدل عليه أيضاً قوله عز وجل حاكياً عن موسى عليه السلام : { ستجدني إن شاء الله صابراً } [ الكهف : 69 ] فلم يصبر ولم يَكُ كاذباً لوجود الاستثناء في كلامه ، فدل على أن معناه ما وصفنا من دخوله في الكلام لرفع حكمه فوجب أن لا يختلف حكمه في دخوله على اليمين أو على إيقاع الطلاق أو على العتاق . وقد روى أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ إِنْ شَاءَ الله فلا حِنْثَ عَلَيْهِ " وفي بعض الألفاظ : " فَقَدِ اسْتَثْنَى " . قال أبو بكر : ولم يفرق بين شيء من الأيمان ، فهو على جميعها . وعن عبدالله بن مسعود من قوله مثله . وعن عطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم قالوا : " الاستثناء في كل شيء " . وقد روى إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شاءَ الله فَهُوَ حُرٌّ ، وإِذَا قَالَ لامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شاءَ الله فَلَيْسَتْ بطَالِقٍ " ، وهذا حديث شاذٌّ واهي السند غير معمول عليه عند أهل العلم .
وقد اختلف أهل العلم بعد اتفاقهم على صحة الاستثناء في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أنحاء ، فقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية : " إذا استثنى بعد سَنَةٍ صَحَّ استثناؤه " . وقال الحسن وطاوس : " يجوز الاستثناء ما دام في المجلس " . وقال إبراهيم وعطاء والشعبيّ : " لا يصح الاستثناء إلا موصولاً بالكلام " . ورُوي عن إبراهيم في الرجل يحلف ويستثني في نفسه قال : " لا ، حتى يجهر بالاستثناء كما جهر بيمينه " ، وهذا محمول عندنا على أنه لا يُصَدَّق في القضاء إذا ادَّعَى أنه كان استثنى ولم يُسمع منه وقد سُمع منه اليمين . وقال أصحابنا وسائر الفقهاء : " لا يصح الاستثناء إلا موصولاً بالكلام " وذلك لأن الاستثناء بمنزلة الشرط والشرطُ لا يصحّ ولا يثبت حكمه إلا موصولاً بالكلام من غير فصل ، مثل قوله : " أنتِ طالق إن دخلتِ الدارَ " ، فلو قال : " أنت طالق " ، ثم قال : " إن دخلت الدار " بعدما سَكَتَ ، لم يوجب ذلك تعلق الطلاق بالدخول ، ولو جاز هذا لجاز أن يقول لامرأته : أنتِ طالق ثلاثاً ، ثم يقول بعد سنة : إنْ شاء الله ، فيبطل الطلاق ولا تحتاج إلى زوج ثانٍ في إباحتها للأوّل ؛ وفي تحريم الله تعالى إياها عليه بالطلاق الثلاث إلا بعد زوج دلالةٌ على بطلان الاستثناء بعد السكوت ؛ ولما صح ذلك في الإيقاع في أنه لا يصحّ الاستثناء إلا موصولاً بالكلام كان كذلك حكم اليمين . وأيضاً قال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أنه إن برأ ضربها ، فأمره الله تعالى أن يأخذ بيده ضِغْثاً ويضرب به ولا يحنث ؛ ولو صح الاستثناء متراخياً عن اليمين لأمره بالاستثناء فيستغني به عن ضربها بالضغث وغيره . ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَها خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " ، ولو جاز الاستثناء متراخياً عن اليمين لأمره بالاستثناء واستغنى عن الكفارة . وقال صلى الله عليه وسلم : " إنّي إِنْ شَاءَ الله لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إِلاّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي " ، ولم يقل إلا قلت إن شاء الله .
فإن قيل : روى قيس عن سماك عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وَالله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً ! والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً ! " ثم سكت ساعة فقال : " إِنْ شَاءَ الله " فقد استثنى بعد السكوت . قيل له : رواه شريك عن سماك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً " ثلاثاً ؛ ثم قال في آخرهن : " إِنْ شاءَ الله " فأخبر أنه استثنى في آخرهن ، وذلك يقتضي اتصاله باليمين ، وهو أولى لما ذكرنا . وفي هذا الخبر دلالة أيضاً على أنه إذا حلف بأيمان كثيرة ثم استثنى في آخرهن كان الاستثناء راجعاً إلى الجميع .
واحتج ابن عباس ومن تابعه في إجازة الاستثناء متراخياً عن اليمين بقوله تعالى : { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشَاءَ الله وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } فتأوّلوا قوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } على الاستثناء ، وهذا غير واجب ؛ لأن قوله تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } يصح أن يكون كلاماً مبتدأً مستقلاّ بنفسه من غير تضمين له بما قبله ، وغير جائز فيما كان هذا سبيله تضمينه بغيره . وقد روى ثابت عن عكرمة في قوله تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قال : " إذا غضبت " ، فثبت بذلك أنه إنما أراد الأمر بذكر الله تعالى وأن يفزع إليه عند السهو والغفلة ، وقد رُوي في التفسير أن قوله تعالى : { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله } : إنما نزل فيما سألت قريش عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين ، فقال : " سأُخْبِرُكُمْ " فأبطأ عنه جبريل عليهما السلام أياماً ، ثم أتاه يخبرهم ، وأمره الله تعالى بعد ذلك بأن لا يطلق القول على فِعْلٍ يفعله في المستقبل إلا مقروناً بذكر مشيئة الله تعالى . وفي نحو ذلك ما رَوَى هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ : والله لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائِةَ امْرَأَةٍ فَتَلِد كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلاماً يَضْرِبُ بالسَّيْفِ في سَبِيلِ الله ، ولم يَقُلْ إِنْ شَاءَ الله ، فلم تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا وَاحِدَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ " .