قوله تعالى في شأن المنافقين وإخبارُه عنهم بإظهار الإيمان للمسلمين من غير عقيدة وإظهار الكفر لإخوانهم من الشياطين في قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } وقوله : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون } إلى قوله : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خَلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءُون } يحتج به في استتابة الزنديق الذي اطُّلِعَ منه على أسرار الكفر متى أظهر الإيمان ، لأن الله تعالى أخبر عنهم بذلك ولم يأمر بقتلهم ، وأمر النبي عليه السلام بقبول ظاهرهم دون ما علمه هو تعالى من حالهم وفساد اعتقادهم وضمائرهم . ومعلوم أن نزول هذه الآيات بعد فرض القتال لأنها نزلت بالمدينة ، وقد كان الله تعالى فرض قتال المشركين بعد الهجرة . ولهذه الآية نظائرُ في سورة براءة وسورة محمد عليه السلام وغيرهما في ذكر المنافقين وقبول ظاهرهم دون حملهم على أحكام سائر المشركين الذين أمرنا بقتالهم . وإذا انتهينا إلى موضعها ذكرنا أحكامَها واختلاف الناس في الزنديق واحتجاج من يحتج بها في ذلك ، وهو يظهر من قوله عليه السلام : " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابُهم على الله " وأنكر على أسامة بن زيد حين قتل في بعض السرايا رجلاً قال لا إله إلا الله ، حين حمل عليه ليطعنه ، فقال : " هلاَّ شقَقْتَ عن قلبه " يعني أنه محمولٌ على حكم الظاهر دون عقد الضمير ، ولا سبيل لنا إلى العلم به .
قال أبو بكر : وقوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } يدل على أن الإيمان ليس هو الإقرار دون الاعتقاد ، لأن الله تعالى قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان ونفى عنهم سمته بقوله : { وما هم بمؤمنين } . ويُروى عن مجاهد أنه قال : في أول البقرة أربعُ آيات في نَعْت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين . والنفاق اسم شرعي جُعل سمةً لمن يُظهر الإيمان ويُسِرُّ الكفرَ ، خصوا بهذا الاسم للدلالة على معناه وحكمه وإن كانوا مشركين إذ كانوا مخالفين لسائر المبادين بالشرك في أحكامهم . وأصله في اللغة من نافقاء اليربوع ، وهو الجحر الذي يخرج منه إذا طُلب ، لأن له أجحرة يدخل بعضها عند الطلب ثم يراوغ الذي يريد صيده فيخرج من جحر آخر قد أعدَّه .