باب بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها
قال الله تعالى : { وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ } . رَوَى إسماعيل بن مهاجر عن أبيه عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَكَّةُ مُنَاخٌ لا تُبَاعُ رِبَاعُها ولا تُؤَاجَرُ بُيُوتها " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " كانوا يرون الحرم كله مسجداً سواء العاكف فيه والبادي " . وروى يزيد بن أبي زياد عن عبدالرّحمن بن سابط : { سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ } قال : " من يجيء من الحاجّ والمعتمرين سواءٌ في المنازل ينزلون حيث شاؤوا غير أن لا يخرج من بيته ساكنه " ، قال : وقال ابن عباس في قوله : { سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ } قال : { العَاكِفُ فِيهِ } : أهله ، { وَالبَادِ } : من يأتيه من أرض أخرى وأهله في المنزل سواء ، وليس ينبغي لهم أن يأخذوا من البادي إجارة المنزل . وروى جعفر بن عون عن الأعمش عن إبراهيم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَكّةُ حَرَّمَها الله لا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا ولا إِجَارَةُ بُيُوتِهَا " . ورَوَى أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وروى عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال : " كانت رباع مكة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر وعمر وعثمان تسمَّى السوائب من احتاج سكن ومن استغنى سكن " . وروى الثوري عن منصور عن مجاهد قال : قال عمر : " يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل البادي حيث شاء " . وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر : " أن عمر نهى أهل مكة أن يغلقوا أبواب دُورِهم دون الحاجّ " . وروى ابن أبي نجيح عن عبدالله بن عمر قال : " من أكل كِرَاءَ بيوت مكة فإنما أكل ناراً في بطنه " . وروى عثمان بن الأسود عن عطاء قال : " يكره بيع بيوت مكة وكراؤها " . وروى ليث عن القاسم قال : " من أكل كراء بيوت مكة فإنما يأكل ناراً " . وروى معمر عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد : " كانوا يكرهون أن يبيعوا شيئاً من رباع مكة " .
قال أبو بكر : قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما ذكرنا ، ورُوي عن الصحابة والتابعين ما وَصَفْنا من كراهة بيع بيوت مكة وأن الناس كلهم فيها سواء ، وهذا يدل على أن تأويلهم لقوله تعالى : { وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ } للحرم كله . وقد رُوي عن قوم إباحةُ بيع بيوت مكة وكراؤها ؛ ورَوَى ابن جريج عن هشام بن حجير قال : كان لي بيت بمكة فكنت أكريه ، فسألت طاوساً فأمرني بأكله . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء : { سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ } قالا : " سواء في تعظيم البلد وتحريمه " . وروى عمرو بن دينار عن عبدالرّحمن بن فروخ قال : " اشترى نافع بن عبدالحارث دار السجن لعمر بن الخطاب من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم فإن رضي عمر فالبيع له وإن لم يَرْضَ عمر فلصفوان أربعمائة درهم " ، زاد عبدالرّحمن عن معمر : " فأخذها عمر " . وقال أبو حنيفة : " لا بأس ببيع بناء بيوت مكة وأكره بيع أراضيها " ، وروى سليمان عن محمد عن أبي حنيفة قال : " أكره إجارة بيوت مكة في الموسم وفي الرجل يقيم ثم يرجع فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأساً " . وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن بيع دُورِ مكة جائز .
قال أبو بكر : لم يتأول هؤلاء السلف المسجد الحرام على الحرم كله إلا والاسم شامل له من طريق الشرع ، إذْ غير جائز أن يتأول الآية على معنى لا يحتمله اللفظ ، وفي ذلك دليل على أنهم قد علموا وقوع اسم المسجد على الحرم من طريق التوقيف ، ويدل عليه قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } [ التوبة : 7 ] والمراد فيما رُوي : الحديبية ؛ وهي بعيدة من المسجد قريبة من الحرم ؛ ورُوي أنها على شفير الحرم . ورَوَى المِسْورُ بن مخرمة ومروان بن الحكم : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مضربه في الحِلّ ومُصَلاَّه في الحرم " ، وهذا يدل على أنه أراد بالمسجد الحرام ههنا الحرم كله ، ويدل عليه قوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } [ البقرة : 217 ] ، والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة ، فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم . ويدلّ على أن المراد جميع الحرم كلّه قوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، والمراد به من انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه . وإذا ثبت ذلك اقتضى قوله : { سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ } تَسَاوي الناس كلهم في سُكناه والمقام به .
فإن قيل : يحتمل أن يريد به أنهم متساوون في وجوب اعتقاد تعظيمه وحرمته . قيل له : هو على الأمرين جميعاً من اعتقاد تعظيمه وحرمته ومن تساويهم في سكناه والمقام به ، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يجوز بيعه لأن لغير المشتري سُكْنَاه كما للمشتري فلا يصحّ للمشتري تسلمه والانتفاع به حسب الانتفاع بالأملاك ، وهذا يدلّ على أنه غير مملوك ؛ وأما إجارة البيوت فإنما أجازها أبو حنيفة إذا كان البناء ملكاً للمؤاجر فيأخذ أجرة ملكه ، فأما أجرة الأرض فلا تجوز ، وهو مثل بناء الرجل في أرض لآخر يكون لصاحب البناء إجارة البناء .
قوله : { العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ } رُوي عن جماعة من السلف أن العاكف أهله والبادي من غير أهله .
قوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بظُلْمٍ } ؛ فإن الإلحاد هو المَيْلُ عن الحق إلى الباطل ؛ وإنما سُمّي اللّحد في القبر لأنه مائل إلى شقّ القبر ، قال الله تعالى : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } [ الأعراف : 180 ] ، وقال : { لسان الذي يلحدون إليه أعجميّ } [ النمل : 103 ] أي لسان الذي يومئون إليه . و " الباء " في قوله : { بِإِلْحَادٍ } زائدة ، كقوله : { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي تُنْبِتُ الدهْنَ ، وقوله تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] . ورُوي عن ابن عمر أنه قال : " ظلم الخادم فما فوقه بمكة إلحاد " . وقال عمر : " احتكار الطعام بمكة إلحاد " . وقال غيره : " الإلحاد بمكة الذنوب " . وقال الحسن : " أراد بالإلحاد الإشراك بالله " .
قال أبو بكر : الإلحاد مذموم لأنه سام للمَيْلِ عن الحق ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق ، فالإلحاد اسم مذموم ؛ وخَصَّ الله تعالى الحَرَمَ بالوعيد في الملحد فيه تعظيماً لحرمته . ولم يختلف المتأولون للآية أن الوعيد في الإلحاد مرادٌ به من أَلْحَدَ في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد ، وفي ذلك دليل على أن قوله : { وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ } قد أُريد به الحرم ؛ لأن قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } هذه " الهاء " كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله : { وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ } ، فثبت أن المراد بالمسجد ههنا الحرم كله . وقد رَوَى عمارة بن ثوبان قال : أخبرني موسى بن زياد قال : سمعت يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ " . وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال : " بَيْعُ الطعام بمكة إلحاد ، وليس الجالب كالمقيم " . وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مراداً بقوله : { بِإِلْحَادٍ بظُلْمٍ } فيكون الاحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك ، وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره . ويشبه أن يكون من كَرِهَ الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في تَرْكِ الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها . ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يُلْحِدُ بمَكَّةَ رَجُلٌ عَلَيْهِ مِثْلُ نِصْفِ عَذَابِ أَهْلِ الأَرْضِ " . ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَعْتَى النَّاسِ عَلَى الله رَجُلٌ قَتَلَ في الحَرَمِ ورَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ ورَجُلٌ قَتَلَ بِذُحُولِ الجَاهِلِيَّةِ " .