قوله تعالى : { وَالبُدْنَ جَعَلْنَاها لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } ؛ قيل : إن البُدْنَ الإبلُ المبدنة بالسّمن ، يقال بدنت الناقة إذا سمنتها ، ويقال بدن الرجل إذا سمن . وإنما قيل لها بَدَنَةٌ من هذه الجهة ، ثم سُمّيت الإبل بُدْناً مهزولة كانت أو سمينة ، فالبدنة اسم يختص بالبعير في اللغة ، إلا أن البقرة لما صارت في حكم البدنة قامت مقامها ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فصار البقر في حكم البدن ، ولذلك كان تقليد البقرة كتقليد البدنة في باب وقوع الإحرام بها لسائقها ولا يقلَّد غيرهما ، فهذان المعنيان اللذان يختص بهما البدن دون سائر الهدايا ؛ ورُوي عن جابر بن عبدالله قال : " البقرة من البُدْنِ " .
واخْتَلف أصحابنا فيمن قال " لله عليَّ بدنة " هل يجوز له نحرها بغير مكة ؟ فقال أبو حنيفة ومحمد : " يجوز له ذلك " ، وقال أبو يوسف : " لا يجوز له نحره إلا بمكة " . ولم يختلفوا فيمن نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة وأن من قال : " لله عليَّ جَزُورٌ " أنه يذبحه حيث شاء . ورُوي عن ابن عمر أنه قال : " من نذر جَزُوراً نحرها حيث شاء وإذا نذر بدنة نحرها بمكة " ، وكذا رُوي عن الحسن وعطاء ، وكذا رُوي عن عبدالله بن محمد بن علي وسالم وسعيد بن المسيب . ورُوي عن الحسن أيضاً وسعيد بن المسيب قالا : " إذا جعل على نفسه هدياً فبمكة وإذا قال بدنة فحيث نوى " . وقال مجاهد : " ليست البدن إلا بمكة " . وذهب أبو حنيفة إلى أن البدنة بمنزلة الجزور ولا يقتضي إهداءها إلى موضع فكان بمنزلة ناذر الجزور والشاة ونحوها ، وأما الهدي فإنه يقتضي إهداءه إلى موضع ؛ وقال الله تعالى : { هَدْياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي . ويُحتَجّ لأبي يوسف بقوله تعالى : { وَالبُدْنَ جَعَلْنَاها لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } فكان اسم البدنة مفيداً لكونها قربة كالهدي ، إذْ كان اسم الهدي يقتضي كونه قربة مجعولاً لله ، فلما لم يَجُز الهديُ إلا بمكة كان كذلك حكم البدنة . قال أبو بكر : وهذا لا يلزم مِنْ قِبَلِ أنه ليس كل ما كان ذبحه قربة فهو مختصّ بالحرم ، لأن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن ، فَوَصْفُهُ للبُدْنِ بأنها من شعائر الله لا يوجب تخصيصها بالحرم .
قوله تعالى : { فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ } ؛ رَوَى يونس عن زياد قال : رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ راحلته فنحرها وهي باركة ، فقال : " انحرها قياماً مقيدةً سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم " . وروى أيمن بن نابل عن طاوس قال في قوله تعالى : { فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ } " قياماً " . وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال : من قرأ : " صوافَّ " فهي قائمة مضمومة يداها ، ومن قرأ : " صَوَافِنَ " قيام معقولة . وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : قرأها " صوافن " قال : " معقولة ، يقول : بسم الله والله أكبر " . وروى الأعمش عن أبي الضحى قال : سمعت ابن عباس وسئل عن هذه الآية صوافّ قال : " قياماً معقولة " . وروَى جويبر عن الضحاك قال : كان ابن معسود يقرأها : " صَوَافِنَ " وصوافن أن يعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث . وروى قتادة عن الحسن أنه قرأها : " صوافي " قال : " خالصة من الشِّرْكِ " . وعن ابن عمر وعروة بن الزبير : " أنها تُنحر مستقبلة القبلة " .
قال أبو بكر : تلخصت قراءة السلف لذلك على ثلاثة أنحاء ، أحدها : " صوافَّ " بمعنى مصطفة قياماً ، و " صوافي " بمعنى خالصة لله تعالى ، و " صوافن " بمعنى معقلة في قيامها .
قوله تعالى : { فإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } ؛ رُوي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم : " إذا سقطت " . وقال أهل اللغة : الوجوب هو السقوط ، ومنه : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ؛ قال قيس بن الخطيم :
* أَطَاعَتْ بَنُو عَوْفٍ أَميراً نهاهم * عَنِ السّلم حتّى كان أوَّلَ وَاجِبِ *
يعني : أول مقتول ، سقط على الأرض . وكذلك البدن إذا نُحرت قياماً سقطت لجنوبها ؛ وهذا يدل على أنه قد أراد بقوله : " صوافَّ " قياماً ، لأنها إذا كانت باركة لا يقال إنها تسقط إلا بالإضافة فيقال سقطت لجنوبها ، وإذا كانت قائمة ثم نُحرت فلا محالة يُطلق عليها اسم السقوط ؛ وقد يقال للباركة إذا ماتت فانقلبت على الجنب إنها سقطت لجنبها ، فاللفظ محتمل للأمرين ، إلا أن أظهرهما أن تكون قائمة فتسقط لجنبها عند النحر . وقوله تعالى : { فإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا } يدلّ على أنه قد أُريد بوجوبها لجنوبها موتها ، فهذا يدل على أنه ليس المراد سقوطها فحسب وأنه إنما أراد سقوطها للموت فجعل وجوبها عبارة عن الموت ، وهذا يدلّ على أنه لا يجوز الأكْلُ منها إلا بعد موتها ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " ما بَانَ مِنَ البَهِيمَةِ وهي حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ " .
وقوله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا } يقتضي إيجاب الأكل منها ، إلاّ أن أهل العلم متفقون على أن الأكل منها غير واجب ، وجائز أن يكون مستحبّاً مندوباً إليه ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من البُدْنِ التي ساقها في حجة الوداع ، وكان لا يأكل يوم الأضحى حتى يصلّي صلاة العيد ثم يأكل من لحم أضحيته ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : " كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضَاحِي فَوْقَ ثُلُثٍ فَكُلُوا وادَّخِرُوا " . ورَوى أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن علقمة قال : بعث معي عبدالله بهدية فقلت له : ماذا تأمرني أن أصغ به ؟ قال : " إذا كان يوم عرفة فعرِّفْ به وإذا كان يوم النحر فانحره صوافَّ فإذا وجب لجنبه فكُلْ ثلثاً وتصدق بثلث وابعث إلى أهل أخي ثلثاً " . وروى نافع عن ابن عمر ، كان يفتي في النسك والأضحية : " ثلث لك ولأهلك وثلث في جيرانك وثلث للمساكين " . وقال عبدالملك عن عطاء مثله ، قال : " وكل شيء من البُدْنِ واجباً كان أو تطوعاً فهو بهذه المنزلة إلا ما كان من جزاء صيد أو فدية من صيام أو صدقة أو نسك أو نذر مسمًّى للمساكين " . وقد روى طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن مسعود قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق بثلثها ونأكل ثلثها ونعطي الجازِرَ ثلثها " ؛ والجازر غلط ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي : " لا تُعْطِ الجازِرَ منها شَيْئاً " ، وجائز أن يكون الجازر صحيحاً وإنما أمرنا بإعطائه من غير أجرة الجزارة ، وإنما نهى أن يُعْطَى الجازرُ منها من أجرته . ولما ثبت جواز الأكل منها ، دلّ ذلك على جواز إعطائه الأغنياء ؛ لأن كل ما يجوز له أكْلُهُ يجوز أن يُعْطَى منه الغنيّ كسائر أمواله . وإنما قدّروا الثُّلُثَ للصدقة على وجه الاستحباب ؛ لأنه لما جاز له أن يأكل بعضه ويتصدق ببعضه ويهدي بعضه على غير وجه الصدقة كان الذي حصل للصدقة الثلث ؛ وقد قدَّمْنا قبل ذلك أنه لما قال صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي : " فَكُلُوا وَادَّخِرُوا " وقال الله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ } حصل الثلث للصدقة . وقوله تعالى : { فَكُلُوا مِنْهَا } عطفاً على البدن يقتضي عمومه جواز الأكل من بُدْنِ القِرَان والتمتع لشمول اللفظ لها .
قوله تعالى : { وَأَطْعِمُوا القَانِعَ والمُعْتَرَّ } ؛ قال أبو بكر : القانع قد يكون الراضي بما رُزِقَ ، والقانعُ السائل ؛ أخبرنا أبو عمر غلام ثعلب قال : أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال : القناعة الرضا بما رزقه الله تعالى ؛ ويقال من القناعة : " رجل قَانعٌ وَقَنعٌ " ومن القنوع : " رجل قانِعٌ " لا غير . قال أبو بكر : وقال الشمّاخ في القنوع :
* لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فيُغْنِي * مَفَاقِرَهُ أَعَفُّ مِنَ القُنُوعِ *
واختلف السلف في المراد بالآية ، فرُوي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا : " القانع الذي لا يسأل والمُعْتَرُّ الذي يسأل " . ورُوي عن الحسن وسعيد بن جبير قالا : " القانع الذي يسأل " . ورُوي عن الحسن قال : " المُعْتَرُّ يتعرض ولا يسأل " . وقال مجاهد : " القانع جارك والغني والمعترّ الذي يَعْتَرِيكَ من الناس " . قال أبو بكر : إن كان القانع هو الغنيّ فقد اقتضت الآية أن يكون المستحبُّ الصدقَةَ بالثلث ؛ لأن فيها الأمر بالأكل وإعطاء الغنيّ وإعطاء الفقير الذي يسأل .