قوله تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } ، هو أمر المؤمنين بأن يظنوا خيراً بمن كان ظاهره العدالة وبراءة الساحة وأن لا يقضوا عليهم بالظنّ ؛ وذلك لأن الذين قذفوا عائشة لم يخبروا عن معاينة وإنما قذفوها تَظَنُّناً وحسباناً لما رأوها متخلّفة عن الجيش قد ركبت جمل صفوان بن المعطّل يقوده . وهذا يدلّ على أن الواجب لمن كان ظاهره العدالة أن يُظَنَّ به خيراً ولا يظن به شرّاً ، وهو يوجب أن يكون أمور المسلمين في عقودهم وأفعالهم وسائر تصرفهم محمولة على الصحة والجواز وأنه غير جائز حملها على الفساد وعلى ما لا يجوز فعله بالظن والحسبان ؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد مع امرأة أجنبية رجلاً فاعترفا بالتزويج : إنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما ؛ وزعم مالك بن أنس أنه يحدّهما إن لم يقيما بَيِّنَةً على النكاح . ومن ذلك أيضاً ما قال أصحابنا فيمن باع درهماً وديناراً بدرهمين ودينارين : إنّا نخالف بينهما لأنّا قد أُمرنا بحسن الظن بالمؤمنين وحَمْلِ أمورهم على ما يجوز فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة بينهما ، وكذلك إذا باعه سيفاً محلًّى فيه مائة درهم بمائتي درهم أنّا نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف ، فنحمل أمرهما على أنهما تعاقدا عقداً جائزاً ولا نحمله على الفساد وما لا يجوز . وهذا يدل أيضاً على صحة قول أبي حنيفة في أن المسلمين عُدُولٌ ما لم تظهر منهم ريبة ؛ لأنا إذا كنا مأمورين بحسن الظن بالمسلمين وتكذيب من قذفهم على جهة الظن والتخمين بما يسقط العدالة ، فقد أُمرنا بموالاتهم والحكم لهم بالعدالة بظاهر حالهم ، وذلك يوجب التزكية وقبول الشهادة ما لم تظهر منهم ريبة توجب التوقف عنها أو ردَّها ؛ وقال تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } [ يونس : 36 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِيَّاكُمْ والظَّنَّ فإِنَّهُ أَكْذَبُ الحَدِيثِ " .
وقوله : { ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } فإنه يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يظن بعضهم ببعض خيراً ، كقوله : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] والمعنى : فليسلم بعضكم على بعض ، وكقوله : { لا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] يعني : لا يقتل بعضكم بعضاً . والثاني : أنه جعل المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور ، فإذا جرى على أحدهم مكروهٌ فكأنه قد جرى على جميعهم ، كما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أبو عبدالله أحمد بن دوست قال : حدثنا جعفر بن حميد قال : حدثنا الوليد بن أبي ثور قال : حدثنا عبدالملك بن عمير عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَثَلُ المُسْلِمِينَ في تَوَاصُلِهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ والَّذِي جَعَلَ الله بَيْنَهُمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذَا وَجِعَ بَعْضُهُ وَجِعَ كُلُّهُ بالسَّهَرِ والحُمَّى " . وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال : حدثنا محمد بن عبدالملك بن زنجويه قال : حدثنا عبدالله بن ناصح قال : حدثنا أبو مسلم عبدالله بن سعيد عن مالك بن مِغْوَلٍ عن أبي بردة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُؤْمِنُونَ للمُؤْمِنِينَ كالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً " .
فإن قيل : لما قال تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } دَلّ ذلك على أن على الناس إذا سمعوا مَنْ يقذف آخر أن يحكموا كذبه ورَدِّ شهادته إلى أن يأتي بالشهداء . قيل له : معلوم أن الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها وقَذَفَتِها ؛ لأنه قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } إلى قوله : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } وقد كانت بريئة الساحة غير متهمة بذلك ، وقاذفوها أيضاً لم يقذفوها برؤية منهم لذلك وإنما قذفوها ظنّاً منهم وحسباناً حين تخلّفَتْ ، ولم يَدَّعِ أَحد أنهم أنه رأى ذلك ، ومن أخبر عن ظَنِّ في مثله فعلينا إكذابُه والنكيرُ عليه . وأيضاً لما قال في نسق التلاوة : { فإِذْ لَمْ يَأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الكَاذِبُونَ } ، فحكم بكذبهم عند عجزهم عن إقامة البينة ، علمنا أنه لم يرد بقوله : { وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } إيجابَ الحكم بكذبهم بنفس القذف ، وأن معناه : وقالوا هذا إفك مبين إذا سمعوه ولم يأت القاذف بالشهود . والشافعي يزعم أن شهود القذف إذا جاؤوا متفرقين قُبلت شهادتهم ؛ فإن كان القذف قد أبطل شهادته فوجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاثة ، لأنه قد فسق بقذفه فوجب الحكم بتكذيبه ؛ وفي قبول شهادتهم إذا جاؤوا متفرقين ما يُلْزِمُه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف . ويدل على صحة قولنا من جهة السنّة ما رَوَى الحجّاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ علَى بَعْضٍ إِلاّ مَحْدُوداً في قَذْفٍ " ، فأخبر صلى الله عليه وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحدَّ . ويدل عليه أيضاً حديث عبّاد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيُجْلَدُ هلالٌ وتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ في المُسْلِمِينَ " فأخبر أن بُطْلانَ شهادته معلَّقٌ بوقوع الجلد به ، ودلّ بذلك أن القذف لم يبطل شهادته .
واختلف الفقهاء في شهادة المحدود في القذف بعد التوبة ، فقل أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والثوري والحسن بن صالح : " لا تقبل شهادته إذا تاب وتقبل شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب " . وقال مالك وعثمان البتّي والليث والشافعي : " تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب " . وقال الأوزاعي : " لا تقبل شهادة محدود في الإسلام " .
قال أبو بكر : روى الحجّاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبداً وأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } ، ثم استثنى فقال : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا } فتاب عليهم من الفسق ، وأما الشهادة فلا تجوز . حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا حجاج ؛ وقد ورد عن ابن عباس أيضاً ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا ابن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } قال : ثم قال : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا } قال : " فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله مقبولة " . قال أبو بكر : ويحتمل أن لا يكون ذلك مخالفاً لما رُوي عنه في الحديث الأوّل ، بأن يكون أراد بأن شهادته مقبولة إذا لم يجلد وتاب ، والأول على أنه جُلد فلا تُقبل شهادته وإن تاب . ورُوي عن شُريح وسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا : " لا تجوز شهادته وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله " . وقال إبراهيم : " رفع عنهم بالتوبة اسم الفسق فأما الشهادة فلا تجوز أبداً " . ورُوي عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري : " أن شهادته تقبل إذا تاب " . ورُوي عن عمر بن الخطاب من وجه مطعون فيه أنه قال لأبي بكرة : " إن تبْتَ قُبلت شهادتك " ، وذلك أنه رواه ابن عيينة عن الزهري قال سفيان : عن سعيد بن المسيب ، ثم شكّ وقال : هو عمر بن قيس ، أن عمر قال لأبي بكرة : " إن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يتوب " ؛ فشكّ سفيان بن عيينة في سعيد بن المسيب وعمر بن قيس . ويقال إن عمر بن قيس مطعونٌ فيه ، فلم يثبت عن عمر بهذا الإسناد هذا القول . ورواه الليث عن ابن شهاب أنه بلغه أن عمر قال ذلك لأبي بكرة ، وهذا بلاغ لا يعمل عليه على مذهب المخالف . وقد رُوي عن سعيد بن المسيب أن شهادته غير مقبولة بعد التوبة ؛ فإن صح عنه حديث عمر فلم يخالفه إلا إلى ما هو أقوى منه ، ومع ذلك فليس في حديث عمر أنه قال ذلك لأبي بكرة بعدما جلده ، وجائز أن يكون قاله قبل الجلد .
قال أبو بكر : وما ذكرنا من اختلاف السلف وفقهاء الأمصار في حكم القاذف إذا تاب فإنما صدر عن اختلافهم في رجوع الاستثناء إلى الفسق أو إلى إبطال الشهادة وسِمَة الفسق جميعاً فيرفعها ، والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه من زوال سِمَةِ الفسق به دون جواز الشهادة أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلاّ بدلالة ، والدليل عليه قوله تعالى : { إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته } [ الحجر : 59 ] ، فكانت المرأة مستثناةً من المُنَجَّيْنِ لأنها تَلِيهِمْ ، ولو قال رجل لفلان : " عليَّ عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهم " كان عليه ثمانية دراهم وكان الدرهم مستثنى من الثلاثة ، وإذا كان ذلك حكم الاستثناء وجب الاقتصار به على ما يليه . ويدل عليه أيضاً أن قوله : { فإن لم تكونوا دخلتم بهن } [ النساء : 23 ] في معنى الاستثناء وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء لأنه يليهنّ ؛ فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه . وأيضاً فإن الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل عليها الاستثناء عموماً ، وجب أن يكون حكم العموم ثابتاً وأن لا نرفعه باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إليها .
فإن قيل : قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً } [ المائدة : 33 ] إلى قوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] ، فكان الاستثناء راجعاً إلى جميع المذكور لكونه معطوفاً بعضه على بعض ، وقال تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ثم قال : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } [ النساء : 43 ] فكان التيمم لمن لزمه الاغتسال كلزومه لمن لزمه الوضوء بالحَدَثِ ، فكذلك حكم الاستثناء الداخل على كلام معطوف بعضه على بعض يجب أن ينتظم الجميع ويرجع إليه . قيل له : قد بينا أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة ، وقد قامت الدلالة فيما ذكر على رجوعه إلى جميع المذكور ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه على رجوعه إلى الجميع المذكور .
فإن قيل : إذا كنا قد وجدنا الاستثناء تارة يرجع إلى بعض المذكور وتارة إلى جميعه وكان ذلك متعالماً مشهوراً في اللغة ، فما الدلالة على وجوب الاقتصار به على بعض الجملة وهو الذي يليه دون رجوعه إلى الجميع ؟ قيل له : لو سلّمنا لك ما ادّعَيْتَ من جواز رجوعه إلى الجميع لكان سبيله أن يقف موقف الاحتمال في رجوعه إلى ما يليه أو إلى جميع المذكور ، وإذا كان كذلك وكان اللفظ الأول عموماً مقتضياً للحكم في سائر الأحوال لم يَجُزْ رَدُّ الاستثناء إليه بالاحتمال ، إذ غير جائز تخصيص العموم بالاحتمال ووجب استعمال حكمه في المتيقن وهو ما يليه دون ما تقدمه .
فإن قيل : ما أنكرتَ أن لا يكون اللفظ الأول عموماً مع دخول الاستثناء على آخر الكلام بل يصير في حَيِّزِ الاحتمال ويبطل اعتبار العموم فيه ؟ إذ ليس اعتبار عمومه بأوْلى من اعتبار عموم الاستثناء في عَوْدِهِ إلى الجميع ، وإذا بطل فيه اعتبار العموم وقف موقف الاحتمال في إيجاب حكمه فسقط اعتبار عموم اللفظ فيه . قيل له : هذا غلط مِنْ قِبَلِ أن صيغة اللفظ الأول صيغة العموم لا تَدَافُعَ بيننا فيه ، وليس للاستثناء صيغة عموم يقتضي رفع الجميع ، فوجب أن يكون حكم الصيغة الموجبة للعموم مستعملاً فيه وأن لا نزيلها عنه إلا بلفظ يقتضي صيغته رفع العموم ، وليس ذلك بموجود في لفظ الاستثناء .
فإن قيل : لو قال رجل : عبده حرٌّ وامرأته طالق إن شاء الله ، رجع الاستثناء إلى الجميع ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً والله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً إِنْ شَاءَ الله " ، فكان استثناؤه راجعاً إلى جميع الأيمان ، إذ كانت معطوفة بعضها على بعض . قيل له : ليس هذا مما نحن في شيء ؛ لأن هذا الضرب من الاستثناء مخالف للاستثناء الداخل على الجملة بحروف الاستثناء التي هي " إلاّ " و " غير " و " سوى " ونحو ذلك ؛ لأن قوله : " إِنْ شَاء الله " يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت منه شيء ، والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله إلا لرفع حكم الكلام رأساً ، ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ولو قال أنت طالق إلا طالق كان الطلاق واقعاً والاستثناء باطلاً لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام ؟ ولذلك جاز أن يكون قوله " إن شاء الله " راجعاً إلى جميع المذكور المعطوف بعضه على بعض ولم يجب مثله فيما وصفنا .
فإن قيل : فلو كان قال : " أنت طالق وعبدي حرّ إلا أن يقدم فلان " كان الاستثناءُ راجعاً إلى الجميع ، فإن لم يقدم فلان حتى مات طلقت امرأته وعتق عبده وكان ذلك بمنزلة قوله : إن شاء الله . قيل له : ليس ذلك على ما ظننت ، مِنْ قِبَلِ أن قوله : " إلا أن يقدم فلان " وإن كانت صيغته صيغة الاستثناء فإنه في معنى الشرط كقوله : " إن لم يقدم فلان " ، وحكم الشرط أن يتعلق به جميع المذكور إذا كان بعضه معطوفاً على بعض ؛ وذلك لأن الشرط يشبه الاستثناء الذي هو مشيئة الله عز وجل من حيث كان وجوده عاملاً في رفع الكلام حتى لا يثبت منه شيء ، ألا ترى أنه ما لم يوجد الشرط لم يقع شيء ؟ وجائز أن لا يوجد الشرط أبداً فيبطل حكم الكلام رأساً ولا يثبت من الجزاء شيء ، فلذلك جاز رجوع الشرط إلى جميع المذكور كما جاز رجوع الاستثناء بمشيئة الله تعالى . قال أبو بكر : وقوله : " إلا أن يقدم فلان " هو شرطٌ وإن دخل عليه حرف الاستثناء ، وأما الاستثناء المَحْضُ الذي هو قوله : { إلا الذين تابوا } [ البقرة : 16 ] ، و { إلا آل لوط } [ الحجر : 59 ] وما جرى مجراه ، فإنه لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأساً حتى لا يثبت منه شيء ، ألا ترى أن قوله : { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } لا بدَّ من أن يكون حكمه ثابتاً في وقت ما وأن من ردّ الاستثناء إليه فإنما يرفع حكمه في بعض الأوقات بعد ثبات حكمه في بعضها ؟ وكذلك قوله : { إلا آل لوط } [ الحجر : 59 ] غير جائز أن يكون رافعاً لحكم النجاة عن الأوّلين ، وإنما عمل في بعض ما انتظمه لفظ العموم .
ويُستدلّ بما ذكرنا على أن حقيقة هذا الضرب من الاستثناء رُجُوعُه إلى ما يليه دون ما تقدمه وأن لا يردَّ إلى ما تقدمه إلا بدلالة ؛ وذلك لأنه لما استحال دخول هذا الاستثناء لرفع حكم الكلام رأساً حتى لا يثبت منه شيء وجب أن يكون مستعملاً في البعض دون الكلّ ، فإذا وجب ذلك كان ذلك البعض الذي عمل فيه هو المتيقن دون غيره ، بمنزلة لفظ لا يصح اعتقاد العموم فيه فيكون حكمه مقصوراً على الأقلّ المتيَقَّن دون اعتبار لفظ العموم ، كذلك الاستثناء . ولما جاز دخول شرط مشيئةِ الله تعالى وسائر شروط الأيمان لرفع حكم اللفظ رأساً وجب استعماله في جميع المذكور وأن لا يخرج منه شيء إلا بدلالة .
ويدل على أن الاستثناء في قوله : { إِلاّ الّذينَ تَابُوا } مقصور على ما يليه دون ما تقدمه ، أن قوله : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } كلّ واحد منهما أمر ، وقوله : { وَأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } خبر ، والاستثناء داخل عليه ، فوجب أن يكون موقوفاً عليه دون رجوعه إلى الأمر ؛ وذلك لأن " الواو " في قوله : { وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } للاستقبال ؛ إذ غير جائز أن يكون للجميع لأنه غير جائز أن ينتظم لفظ واحد الأمْرَ والخَبَرَ ، ألا ترى أنه لا يصح جمعهما في كناية ولا في لفظ واحد ؟ ويدل عليه أنه لم يرجع إلى الحدّ إذا كان أمراً ، ونظيره قول القائل : " أعط زيداً درهماً ، ولا تدخل الدار وفلان خارج إن شاء الله " أن مفهوم هذا الكلام رجوع الاستثناء إلى الخروج دون ما تقدم من ذكر الأمر ، كذلك يجب أن يكون حكم الاستثناء في الآية لا فرق بينهما .
فإن قيل : قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلّبوا } [ المائدة : 33 ] إلى قوله : { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [ المائدة : 33 ] ، ثم قال : { إِلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] ؛ ومعلوم أن ما تقدم في أول الآية أمرٌ ، وقوله : { ذلك لهم خزي في الدنيا } [ المائدة : 33 ] خبرٌ ، فرجع الاستثناء إلى الجميع ولم يختلف حكم الخبر والأمر . قيل له : إنما جاز ذلك لأن قوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] وإن كان أمراً في الحقيقة فإن صورته صورة الخبر ، فلما كان الجميع في صورة الخبر جاز رجوع الاستثناء إلى الجميع ، ولما كان قوله تعالى : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } أمراً على الحقيقة ثم عطف عليه الخبر ، وجب أن لا يرجع إلى الجميع ؛ ومع ذلك فإنا نقول متى اختلفت صِيَغُ المعطوف بعضه على بعض لم يرجع إلا إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم مما ليس في مثل صيغته إلاّ بدلالة ، فإن قامت الدلالة جاز ردُّهُ إليه ، وقد قامت الدلالة في آية المحاربين ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه فهو مُبْقًى على حكمه في الأصل .
فإن قيل : لما كانت " الواو " للجمع ، ثم قال : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } صار الجميع كأنه مذكور معاً لا تَقَدُّمَ لواحد منهما على الآخر ، فلما أدخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى شيء من المذكور بأوْلَى من رجوعه إلى الآخر ، إذ لم يكن لتقديم بعضها على بعض حكم في الترتيب ، فكان الجميع في المعنى بمنزلة المذكور معاً ، فليس رجوع الاستثناء إلى سِمَةِ الفِسْقِ بأوْلى من رجوعه إلى بطلان الشهادة والحدّ ، ولولا قيام الدلالة على أنه لم يرجع إلى الحدّ لاقتضى ذلك رجوعه أيضاً وزواله عنه بالتوبة . قيل له : إن " الواو " قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستيناف ، وهي في قوله : { وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } للاستيناف ؛ لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه وينتظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معاً ، وذلك في نحو قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] إلى آخر الآية ؛ لأن الجميع أمر ، كأنه قال : فاغسلوا هذه الأعضاء ؛ لأن الجميع قد تضمنه لفظ الأمر فصارت كالجملة الواحدة المنتظمة لهذه الأوامر . وأما آية القذف فإن ابتداءها أمْرٌ وآخرها خَبَرٌ ، ولا يجوز أن ينتظمها جملة واحدة ؛ فلذلك كانت " الواو " للاستيناف ، إذ غير جائز دخول معنى الخبر في لفظ الأمر ، وقوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] الاستثناءُ فيه عائد إلى الأمر بالقتل وما ذُكر معه وغير عائد إلى الخبر الذي يليه ؛ لأن قوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] لا يجوز أن يكون عائداً إلى قوله : { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [ المائدة : 34 ] ؛ لأن التوبة تزيل عذاب الآخرة قبل القدرة عليهم وبعدها ، فعلمنا أن هذه التوبة مشروطة للحدّ دون عذاب الآخرة . ودليل آخر ، وهو أن قوله تعالى : { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } لا يخلو من أن يكون بطلانُ هذه الشهادة متعلقاً بالفِسْقِ أو يكون حُكْماً على حِيَالِهِ تقتضي الآية تَأْبِيدَهُ ، فلما كان حَمْلُه على بطلانها بلزوم سِمَةِ الفسق يبطل فائدة ذكره ، إذْ كان ذكر التفسيق مقتضياً لبطلانها إلا بزواله والتوبة منه ، وجب حمله على أنه حكم برأسه غير متعلق بسِمَةِ الفسق ولا بتَرْكِ التوبة . وأيضاً فإن كل كلام فحكمه قائم بنفسه وغير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة ، وفي حَمْلِهِ على ما ادّعاه المخالف تضمينه بغيره وإبطال حكمه بنفسه ، وذلك خلاف مقتضى اللفظ . وأيضاً فإن حمله على ما ادَّعَى يوجب أن يكون الفسق المذكور في الآية عِلَّةً لما ذكر من إبطال الشهادة ، فيكون تقديره : ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً لأنهم فاسقون ؛ وفي ذلك إزالةُ اللفظ عن حقيقته وصَرْفُه إلى مجاز لا دلالة عليه ؛ لأن حكم اللفظ أن يكون قائماً بنفسه في إيجاب حكمه وأن لا يُجعل علّة لغيره مما هو مذكور معه ومعطوف عليه ، فثبت بذلك أن بطلان الشهادة بعد الجلد حكم قائم بنفسه على وجه التأبيد المذكور في الآية غير موقوف على التوبة .
فإن قيل : رجوع الاستثناء إلى الشهادة أوْلى منه إلى الفسق ؛ لأنه معلوم أن التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية فلا يكون ردّهُ إلى الفسق مفيداً وردّه إلى الشهادة يفيد جوازها بالتوبة ، إذ كان جائزاً أن تكون الشهادة مردودة مع وجود التوبة ، فأما بقاء سِمَةِ الفسق مع وجود التوبة فغير جائز في عقل ولا سمع إذْ كانت سِمَةُ الفسق ذمّاً وعقوبةً ، وغير جائز أن يستحق التائب الذمَّ ، وليس كذلك بطلان الشهادة ، ألا ترى أن العبد والأعمى غير جائِزِي الشهادة لا على وجه الذمّ والتعنيف لكن عبادةً ؟ فكان رجوع الاستثناء إلى الشهادة أولى بإثبات فائدة الآية منه إلى الفسق . قيل له : إن التوبة المذكورة في هذه الآية إنما هي التوبة من القذف وإكذاب نفسه فيه ، لأنه به استحق سمة الفسق ، وقد كان جائزاً أن تبقى سِمَةُ الفسق عليه إذا تاب من سائر الذنوب ولم يكذب نفسه ، فأخبر الله تعالى بزوال سِمَةِ الفِسْقِ عنه إذا أكذب نفسه . ووجه آخر ، وهو أن سمة الفسق إنما لزمته بوقوع الجلد به ولم يكن يمتنع عند إظهار التوبة أن لا تكون مقبولة في ظاهر الحال وإن كانت مقبولة عند الله ؛ لأنّا لا نقف على حقيقة توبته ، فكان جائزاً أن يتعبدنا بأن لا نصدقه على توبته وأن نتركه على الجملة ولا نتولاّه على حسب ما نتولى سائر أهل التوبة ، فلما كان ذلك جائزاً وُرُودُ العبادة به أفادتنا الآية قبول توبته ووجوب موالاته وتصديقه على ما ظهر من توبته .
فإن قيل : لما اتفقنا على أن الذميَّ المحدودَ في القذف تُقبل شهادته إذا أسلم وتاب ، دلّ ذلك من وجهين على قبول شهادة المسلم المحدود في القذف ، أحدهما : أنه قد ثبت أن الاستثناءَ راجع إلى بطلان الشهادة ، إذ كان الذميُّ مراداً بالآية ، وقد أُريد به كون بطلان الشهادة موقوفاً على التوبة . والثاني : أنه لما رَفَعت التوبة الحُكْمَ ببطلان شهادته كان المسلم في حكمه لوجود التوبة منه . قيل له : ليس الأمر فيه على ما ظَنَنْتَ ؛ وذلك لأن الذميَّ لم يدخل في الآية ، وذلك لأن الآية إنما اقتضت بطلان شهادة من جُلِدَ وحُكِمَ بفسقه من جهة القذف ، والذميُّ قد تقدمت له سِمَةُ الفِسْقِ ، فلما لم يستحقّ هذه السمة بالجلد لم يدخل في الآية وإنما جلدناه بالاتفاق ، ولم يحصل الاتفاق على بطلان شهادته بعد إسلامه بالجلد الواقع في حال كفره فأجزناها كما نجيز شهادة سائر الكفّار إذا أسلموا .
فإن قيل : فيجب على هذا أن لا يكون الفاسق من أهل الملة مراداً بالآية ، إذ لم يستحدث سمة الفسق بوقوع الحدّ به . قيل له : هو كذلك ، وإنما دخل في حكمها بالمعنى لا باللفظ ، وإنما أجاز أصحابُنا شهادة الذميّ المحدود في القذف بعد إسلامه وتوبته مِنْ قِبَلِ أن الحدَّ في القذف يبطل العدالة من وجهين ، أحدهما : عدالة الإسلام ، والآخر : عدالة الفعل ؛ والذميُّ لم يكن مسلماً حين حُدَّ فيكون وقوع الحدِّ به مبطلاً لعدالة إسلامه ، وإنما بطلت عدالته من جهة الفعل ، فإذا أسلم فأحدث توبةً فقد حصلت له عدالةٌ من جهة الإسلام ومن طريق الفعل أيضاً بالتوبة ؛ فلذلك قبلت شهادته . وأما المسلم فإن الحدَّ قد أسقط عدالته من طريق الدين ولم يستحدث بالتوبة عدالة أخرى من جهة الدين ، إذ لم يستحدث ديناً بتوبته ، وإنما استحدث عدالة من طريق الفعل ؛ فلذلك لم تقبل شهادته ، إذ كان شرط قبول الشهادة وجود العدالة من جهة الدين والفعل جميعاً .
فإن قيل : لما اتفقنا على قبول شهادته إذا تاب قبل وقوع الحدّ به دل ذلك على أن الاستثناء راجع إلى الشهادة كرجوعه إلى التفسيق ، فوجب على هذا أن يكون مقتضياً لقبولها بعد الحدّ كهو قبله . قيل له : إن شهادته لم تبطل بالقذف قبل وقوع الحدِّ به ولا وجب الحكم بتفسيقه لما بيناه في المسألة المتقدمة ، ولو لم يَتُبْ وأقام على قذفه كانت شهادته مقبولة ، وإنما بطلان الشهادة ولزومه سِمَةَ الفسق مرتَّبٌ على وقوع الحدّ به ، فالاستثناء إنما رَفَعَ عنه سمة الفسق التي لزمته بعد وقوع الحدّ فأما قبل ذلك فغير محتاج إلى الاستثناء في الشهادة ولا في الحكم بالتفسيق .
ودليل آخر على صحة قولنا ، وهو أنّا قد اتفقنا على أن التوبة لا تسقط الحدّ ، ولم يرجع الاستثناء إليه ، فوجب أن يكون بطلان الشهادة مثله لأنهما جميعاً أمران قد تعلّقا بالقذف ، فمِنْ حيث لم يرجع الاستثناء إلى الحد وجب أن لا يرجع إلى الشهادة ، وأما التفسيق فهو خبر ليس بأمر فلا يلزم على ما وصفنا . ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحدّ حقٌّ لآدميٍّ فكذلك بطلان الشهادة حقٌّ لآدمي ، ألا ترى أن الشهادات إنما هي حقٌّ للمشهود له وبمطالبته يصح أداؤها وإقامتها كما تصحّ إقامة حدّ القذف بمطالبة المقذوف ؟ فوجب أن يكونا سواء في أن التوبة لا ترفعهما ، وأما لزوم سمة الفسق فلا حقَّ فيه لأحد فكان الاستثناء راجعاً إليه ومقصوراً عليه .
فإن قيل : إذا كان التائب من الكفر مقبول الشهادة فالتائب من القذف أحْرَى به قيل له : التائب من الكفر يزول عنه القتل ولا يزول عن التائب من القذف حَدُّ القذف ، فكما جاز أن تزيل التوبةُ من الكفر القَتْلَ عن الكافر جاز أن تقبل توبته ولا يلزم عليه التائب من القذف لأن توبته لا تزيل الجلد عنه . وأيضاً فإن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الأجرام ، ألا ترى أن القاذف بالكفر لا يجب عليه الحدُّ والقاذف بالزنا يجب عليه الحدّ ؟ فغُلّظ أمْرُ القذف من هذا الوجه بما لم يغلَّظْ به أمر القذف في أحكام الدنيا وإن كانت عقوبة الكفر في الآخرة أعظم .
فإن قيل : فإن تاب وأصلح فهو عَدْلٌ وليٌّ لله تعالى ، وقد كان بطلان شهادته بديّاً على وجه العقوبة والتوبةُ تزيل العقوبة وتوجب العدالة والولاية ، فغير جائز بطلان شهادته بعد توبته . قيل له : لا يكون بطلان شهادته بعد توبته على وجه العقوبة بل على جهة المحنة ، كما لا تكون إقامة الحدِّ عليه بعد التوبة على جهة العقوبة بل على جهة المحنة ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء على وجه المصلحة ، ألا ترى أن العبد قد يكون عدلاً مرضيّاً عند الله وليّاً لله تعالى وهو غير مقبول الشهادة وكذلك الأعمى وشهادة الوالد لولده ومن جرى مجراه ؟ فليس بطلان الشهادة في الأصول موقوفاً على الفسق وعلى وجه العقوبة حتى يعارَضَ فيه بما ذكرت .
ومما يدلّ على أن توبة القاذف لا تُوجِبُ جوازَ شهادته أن شهادته إنما بطلت بحكم الحاكم عليه بالجلد وجلده إياه ولم تبطل بقذفه لما قد بينا فيما سلف ، فلما تعلّق بطلان شهادته بحكم الحاكم لم يجز إجازتها إلا بحكم الحاكم بجوازها ؛ لأن في الأصول أن كل ما تعلق ثبوته بحكم الحاكم لم يُزَلْ ذلك الحكم عنه إلا بما يجوز ثبوته من طريق الحكم كالإملاك والعتاق والطلاق وسائر الحقوق ، فلما لم تكن توبته مما تصحُّ الخصومة فيه ولا يحكم بها الحاكم لم يَجُزْ لنا إبطالُ ما قد ثبت بحكم الحاكم .
فإن قيل : فرقة اللعان والعِنِّين وما جرى مجراها متعلقة بحكم الحاكم وقد يجوز أن يتزوجها فيعود النكاح ، فكذلك بطلان شهادة القاذف وإن كان متعلقاً بحكم الحاكم فإن ذلك لا يمنع إطلاق شهادته عند توبته ويكون حكم الحاكم بديّاً ببطلانها مقصوراً على الحال التي لم تحدث فيها توبة ، كما أن الفرقة الواقعة بحكم الحاكم إنما هي مقصورة على الحال التي لم يكن منهما فيها عقد مستقبل . قيل له : لأن النكاح الثاني مما يجوز وقوع الحكم به فجاز أن تبطل به الفرقة الواقعة بحكم الحاكم ، والتوبةُ ليست مما يحكم به الحاكم فلا تثبت فيه الخصومات فلم يجز أن يبطل به حكم الحاكم ببطلان شهادته ، ولكنه لو شهد القاذف بشهادة عند حاكم يرى قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فحَكَمَ بجواز شهادته بعد حكمه جازت شهادته .
فإن قيل : فلو أن رجلاً زنى فَحَدَّهُ الحاكم ثم تاب جازت شهادته بعد التوبة ولم يكن حكم الحاكم مانعاً من قبولها بعد التوبة . قيل له : الزاني لم يتعلق بطلانُ شهادته بحكم الحاكم وإنما بطلت بزناه قبل أن يحدّه الحاكم لظهور فسقه ، فلما لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم بل بفعله جازت عند ظهور توبته ، وشهادةُ القاذف لم تبطل بقذفه لما بيّنا فيما سلف لأنه جائز أن يكون صادقاً ، وإنما يحكم بكذبه وفسقه عند جلد الحاكم إياه فأمّا قبل ذلك فهو في حكم من لم يقذف . ويدلّ على ذلك من جهة السنَّة حديثُ عبّاد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أُمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَيُجْلَدُ هلالٌ وتُبْطَلُ شَهَادَتُه في المُسْلِمِينَ " . وذكر الحديث ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقوع الجلد به يبطل شهادته من غير شرط التوبة في قبولها . وقد رَوَى الحجّاجُ بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاّ مَحْدُوداً في قَذْفٍ " ؛ قال أبو بكر : ولم يَسْتَثْنِ فيه وجود التوبة منه . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا حامد بن محمد قال : حدثنا شريح قال : حدثنا مروان عن يزيد بن أبي خالد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَجُوزُ في الإسْلامِ شَهَادَةُ مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ ولا خَائِنٍ ولا خَائِنَةٍ ولا مَجْلُودٍ حَدّاً ولا ذي غَمْرٍ لأخِيهِ ولا الصَّانِعِ لأَهْلِ البَيْتِ ولا ظِنِّينٍ ولا قَرابَةٍ " ؛ فأبطل عليه الصلاة والسلام القول بإبطال شهادة المحدود ، فظاهره يقتضي بطلان شهادة سائر المحدودين في حدّ قذف أو غيره ؛ إلا أن الدلالة قد قامت على جواز قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حُدَّ فيه ، ولم تقم الدلالة في المحدود في القذف ، فهو على عموم لفظه تاب أو لم يتب ؛ وإنما قبلنا شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب لأن بطلان شهادته متعلق بالفسق فمتى زالت عنه سِمَةُ الفسق كانت شهادته مقبولة ، والدليل على ذلك أن الفعل الذي استحقّ به الحدَّ من زنا أو سرقة أو شُرْبِ خمر قد أوجب تفسيقه قبل وقوع الحدِّ به ، فلما لم يتعلق بطلان شهادته بالحدّ كان بمنزلة سائر الفساق إذا تابوا فتُقبل شهاداتهم ، وأما المحدود في القذف فلم يوجب القذف بطلان شهادته قبل وقوع الحدّ به لأنه جائز أن يكون صادقاً في قذفه ، وإنما بطلت شهادته بوقوع الحدّ به فلم تزل ذلك عنه بتوبته .
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } . قال أبو بكر : قد اقتضت هذه الآية أن يكون شهودُ الزنا أربعةً ، كما أوجب قوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة : 282 ] وقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] قبول شهادة العدد المذكور فيه وامتناع جواز الاقتصار على أقلّ منه . وقال تعالى في سياق التلاوة عند ذكر أصحاب الإفك : { لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فإِذْ لَمْ يَأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فأُولئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الكَاذِبُونَ } ، فجعل عدد الشهود المبرّىء للقاذف من الحدّ أربعةً وحكم بكذبه عند عجزه عن إقامة أربعة شهداء ، وقد بيّن تعالى عدد شهود الزنا في قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] الآية ، وأعاد ذكر الشهود الأربعة عند القذف إعلاماً لنا أن القاذف لا تبرئه من الجلد إلا شهادة أربعة .
واختلف الفقهاء في القاذف إذا جاء بأربعة شهداء فُسَّاق فشهدوا على المقذوف بالزنا ، فقال أصحابنا وعثمان البتّي والليث بن سعد : " لا حدَّ على الشهود وإن كانوا فساقاً " . وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف في رجل قذف رجلاً بالزنا ثم جاء بأربعة فسّاق يشهدون أنه زانٍ : " إنه يحدّ القاذف ويدرأ عن الشهود " . وقال زفر : " يدرأ عن القاذف وعن الشهود " . وقال مالك وعبيدالله بن الحسن : " يحدّ الشهود " .
قال أبو بكر : ولم يختلف أصحابنا لو جاء بأربعة كفار أو محدودين في قَذْفٍ أو عبيد أو عميان أن القاذف والشهود جميعاً يُحَدَّوْنَ المقذف ، فأما إذا كانوا فساقاً فإن ظاهر قوله : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } قد تناولهم ، إذ لم يشرط في سقوط الحدِّ عن القاذف العدول دون الفساق ، فوجب بمقتضى الآية زوال الحد عن القاذف إذ جعل شرط وجوب الحدّ أن لا يأتي بأربعة شهداء وهو قد أتى بأربعة شهداء ، إذ كان الشهداء اسماً لمن أقام الشهادة .
فإن قيل : يلزمك مثله في الكفار والمحدودين في القذف ونحوهم . قيل له : قد اقتضى الظاهر ذلك ، وإنما خصصناه بدلالة . وأيضاً فإن الفسّاق إنما رُدَّتْ شهادتهم للتهمة وكان ذلك شبهة في ردها ، فغير جائز إيجابُ الحدِّ عليهم بالشبهة التي رُدَّتْ من أجلها شهادتهم ، ووجب سقوط الحد عن القاذف أيضاً بهذه الشهادة كما أسقطناها عنهم إذ كان سبيل الشبهة أن يسقط بها الحدُّ ولا يجب بها الحدّ ، وأما المحدود في القذف والكافر والعبد والأعمى فلم نردَّ شهادتهم للتُّهَمَةِ ولا لشبهة فيها وإنما رددناها لمعانٍ متيقنة فيهم تبطل الشهادة وهي : الحد والكفر والرق والعمى فلذلك حددناهم ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عنهم وعن القاذف . ووجه آخر وهو أن الفساق من أهل الشهادة وإنما رددناها اجتهاداً ، وقد يسوغ الاجتهاد لغيرنا في قبول شهادتهم إذا كان ما نحكم نحن بأنه فسق يوجب رد الشهادة قد يجوز أن يراه غيرنا غير مانع من قبول الشهادة ، فلما كان كذلك لم يكن لنا إيجابُ الحدِّ على الشهود ولا على القاذف بالاجتهاد ، وأما الحد في القذف والكفر ونظائرهما فليس طريق إثباتها الاجتهاد بل الحقيقة ؛ فلذلك جاز أن يُحَدُّوا ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عن القاذف . وأيضاً فإن الفاسق غير محكوم ببطلان شهادته ، إذْ الفسق ليس بمعنى يحكم به الحاكم ولا يسمع عليه البينات ، فلما لم يحكم ببطلان شهادتهم ولا كان الفِسْقُ مما تقوم به البينات ويحكم به الحاكم لم يَجُزِ الحكم ببطلان شهادتهم في إيجاب الحدِّ عليهم ، ولما كان حَدُّ القذف والكفرِ والرّقِّ والعَمَى مما يقع الحكم به وتقوم عليه البينات كان محكوماً ببطلان شهادتهم وخرجوا بذلك من أن يكونوا من أهل الشهادة فوجب أن يحدوا لوقوع الحكم بالسبب الموجب لخروجهم من أن يكونوا من أهل الشهادة . وأيضاً فإن الفسق من الشاهد غير متَيَقَّنٍ في حال الشهادة ، إذْ جائز أن يكون عدلاً بتوبته في الحال فيما بينه وبين الله ، وأما الكفر والحد والعَمَى والرقُّ فقد علمنا أنه غير زائل وهو المانع له من كونه شاهداً ، فلذلك اختلفا .
فإن قيل : جائز أن يكون الكافر قد أسلم أيضاً فيما بينه وبين الله . قيل له : لا يكون مسلماً باعتقاده الإسلام دون إظهاره في الموضع الذي يمكنه إظهاره ، فإذا لم يظهره فهو باقٍ على كفره ، فقول زُفَرَ في هذه المسألة أظْهَرُ لأنه إن جاز أن يكون فِسْقُ الشهود غير مخرج لهم من أن يكونوا من أهل الشهادة في باب سقوط الحدّ عنهم فكذلك حكمهم في سقوطه عن القاذف .
قال أبو بكر : اختلف الفقهاء في شهود الزنا إذا جاؤوا متفرقين ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح : " يُحَدّون " . وقال عثمان البتي والشافعي : " لا يحدّون وتقبل شهادتهم " ، ثم قال الشافعي : " إذا كان الزنا واحداً " . قال أبو بكر : لما شهد الأول وحده كان قاذفاً بظاهر قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ }فاقتضى أن يكون الأربعة غيره ، إذْ غير جائز أن يكون المعقول منه دخوله في الأربعة ؛ لأنه لا يقال ائت بنفسك بعد الشهادة أو القذف كما لا يجوز أن يقال ائت بأربعة سواك ؛ ولأنهم لم يختلفوا أنه إذا قال لها أنت زانية أنه مكلَّفٌ لأن يأتي بأربعة غيره يشهدون بالزنا وليس هو منهم ، فكذلك قوله أشهد أنك زانية ، وإذا كان كذلك فقد اقتضى ظاهر الآية إيجاب الحدِّ على كل قاذف سواء كان قذفه بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة ، فلما كان ذلك حكم الأول كان كذلك حكم الثاني والثالث والرابع ، إذ كان كل واحد منهم قاذف محصنةً قد أوجب الله عليه الحدّ ولم يبرئه منه إلا بشهادة أربعة غيره .
فإن قيل : إنما أوجب الله عليه الحد إذا كان قاذفاً ولم يجىءْ مَجِيءَ الشهادة ، فأما إذا جاء مجيء الشهادة بأن يقول : " أشهد أن فلاناً زنى " فليس هذا بقاذف . قيل له : قَذْفُهُ إيّاها بلفظ الشهادة لا يخرجه من حكم القاذفين ، ألا ترى أنه لو لم يشهد معه غيره لكان قاذفاً وكان الحدُّ له لازماً ؟ فلما كان كذلك علمنا أن إيراده القذف بلفظ الشهادة لا يخرجه من أن يكون قاذفاً بعد أن يكون وحده . وأيضاً فقد تناوله عموم قوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ } إذ كان رامياً ، وإنما ينفصل حكم الرامي من حكم الشاهد إذا جاء أربعة مجتمعين وهم العدد المشروط في قبول الشهادة ، فلا يكونون مكلّفين لأن يأتوا بغيرهم ، فأما مَنْ دون الأربعة إذا جاؤوا قاذفين بلفظ الشهادة أو بغير لفظها فإنهم قَذَفَةٌ إذ هم مكلَّفُونَ للإتيان بغيرهم في صحة قذفهم .
فإن قيل : قد رُوي أن نافع بن الحارث كتب إلى عمر رضي الله عنه : أن أربعة جاؤوا يشهدون على رجل وامرأة بالزنا ، فشهد ثلاثة أنهم رأوه كالمِيلِ في المُكْحَلَةِ ولم يشهد الرابع بمثل ذلك ، فكتب إليه عمر : إن شهد الرابع على مثل ما شهد عليه الثلاثة فاجلدهما ، وإن كانا محصنين فارجمهما ، وإن لم يشهد إلا بما كتبت به إليَّ فاجلد الثلاثة وخَلِّ سبيل الرجل والمرأة . وهذا يدل على أنه لو شهد مع الثلاثة آخر أنهم لا يُحَدّون وقبلت شهادتهم مع كون الثلاثة بدّياً منفردين . قيل له : ليس في ذلك دلالة على ما ذكرت ؛ وذلك لأن الرجل الذي لم يشهد بما شهد به الآخرون لم ينفرد عنهم بل جاؤوا مجتمعين مجيء الشهادة ، وجائز أن يكون الجميع شهدوا بالزنا فلما استثبتوا بالرجل أن يصرّح بما صَرَّحَ به الثلاثة فأمر عمر بأن يوقف الرجل ، فإن أتى بالتفسير على ما أتى به القوم حُدَّ المشهود عليهما ، وإن هو لم يأت بالتفسير أبطل شهادته وجعل الثلاثة منفردين فحدّهم ، ولم يقل عمر إن جاء رابع فشهد معهم فاقبل شهادتهم فيكون قابلاً لشهادة الثلاثة المنفردين مع واحد جاء بعدهم ؛ وقد جلد أبا بكرة وأصحابه لما نكل زياد عن الشهادة ولم يقل لهم ائتوا بشاهد آخر يشهد بمثل شهادتكم ، وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكره عليه أحدٌ منهم ، ولو كان قبول شهادة شاهد واحد منهم لو شهد معهم جائزاً لوقف الأمر واستثبتهم وقال هل يشهد بمثل شهادتكم شاهد آخر ؟ وإذْ لم يقل ذلك ولم يوقف أمرهم بما عزم عليه من حَدّهم دلّ على أنهم قد صاروا قَذَفَةً قد لزمهم الحدُّ وأنه لم يكن يبرئهم من الحد إلا شهادة أربعة آخرين .
فإن قيل : فهو لم يقل لهم هل معكم أربعة يشهدون بمثل شهادتكم ولم يوقف أمر الحد عليهم لجواز ذلك ، فكذلك في الشاهد الواحد لو شهد بمثل شهادتهم . قيل له : لأنه لم يكن يخفَى عليهم أنهم لو جاؤوا بأربعة آخرين يشهدون لهم بذلك لكانت شهادتهم مقبولة وكان الحدّ عنهم زائلاً ، فلو كانوا قد علموا أن هناك شهوداً أربعة يشهدون بذلك لسألوه التوقيف ، فلذلك لم يَحْتَجْ أن يعلمهم ذلك ؛ وأما الشاهد الواحد لو شهد معهم فإنه جائز أن يَخْفَى حُكْمُهُ عليهم في جواز شهادته معهم أو بطلانها ، فلو كان ذلك مقبولاً لوَقَفَهُم عليه وأعلمهم إياه حتى يأتوا به إنْ كان .
فيمن يقيم الحد على المملوك
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : " يقيمه الإمامُ دون المَوْلَى وذلك في سائر الحدود " ، وهو قول الحسن بن صالح . وقال مالك : " يحده المولى في الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود ، ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام " ، وهو قول الليث بن سعد . وقال الشافعي : " يحده المولى ويقطعه " . وقال الثوري : " يحده المولى في الزنا " روايةَ الأشجعيّ ، وذكر عنه الفريابي : " أن المولى إذا حَدَّ عبده ثم أعتقه جازت شهادته " . وقال الأوزاعي : " يحده المولى " . ورُوي عن الحسن قال : ضمن هؤلاء أربعاً : الصلاة والصدقة والحدود والحكم " ، رواه عنه ابن عون ، ورُوي عنه بدل الصلاة والجمعة . وقال عبدالله بن محيريز : " الحدود والفيء والجمعة والزكاة إلى السلطان " . وقد روى حماد بن سلمة عن يحيى البكاء عن مسلم بن يسار عن أبي عبدالله رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه وهو عالم فخذوا عنه فسمعته يقول : " الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان " ؛ وقد قيل إن أبا عبدالله هذا يُظَنُّ أنه أخو أبي بكرة واسمه نافع . فهؤلاء السلف قد رُوي عنهم ذلك ، ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلافه . وقد رُوي عن الأعمش أنه ذكر إقامة عبدالله بن مسعود حدّاً بالشام ، وقال الأعمش : هم أمراء حيث كانوا . وجائز أن يكون عبدالله بن مسعود قد كان وَلِيَ ذلك لأنه لم يذكر أن المحدود كان عبده .
فإن قيل : رُوي عن ابن أبي ليلى أنه قال : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم . قيل له : يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على وجه التعزير لا على وجه إقامة الحد ؛ لأنهم لم يكونوا مأمورين برفعها إلى الإمام بل كانوا مأمورين بالستر عليها وترك رفعها إلى الإمام . والدليل على أن إقامة الحدّ على المملوك إلى الإمام دون المَوْلَى قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا } [ المائدة : 38 ] ، وقال : { الزَّانِيَةُ وَالزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ، وقال في آية أخرى : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] ، وقد علم من قَرَعَ سَمْعَهُ هذا الخطاب من أهل العلم أن المخاطبين بذلك هم الأئمة دون عامة الناس ، فكان تقديره : فليقطع الأئمة والحكام أيديهما وليجلدهما الأئمة والحكام . ولما ثبت باتفاق الجميع أن المأمورين بإقامة هذه الحدود على الأحرار هم الأئمة ولم تفرّق هذه الآيات بين المحدودين من الأحرار والعبيد ، وجب أن يكون فيهم جميعاً وأن يكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي . ويدل على ذلك أيضاً أنه لو جاز للمَوْلَى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه ثم يرجع الشهود عن شهادتهم أن يكون له تضمين الشهود ، ومعلوم أن تضمين الشهود يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة ؛ لأنه لو لم يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئاً ، فكان يصير حاكماً لنفسه بإيجاب الضمان عليهم ، ومعلوم أن أحداً من الناس لا يجوز له أن يحكم لنفسه ، فعلمنا أن المَوْلَى لا يملك استماع البينة على عبده بذلك ولا قَطْعَهُ . وأيضاً فإن المولى والأجنبي سواءٌ في حدّ العبد والأَمَةِ ، بدلالة أن إقراره به عليه غير مقبول وأن إقرار العبد على نفسه بذلك مقبول وإن جحده المولى ، فلما كانا في ذلك في حكم الأجنبيين وجب أن يكون المولى بمنزلة الأجنبي في إقامة الحد عليه ، وإنما جاز للحاكم أن يسمع البينة ويقيم الحدّ لأن قوله مقبول في ثبوت ما يوجب الحد عنده فلذلك سمع البينة وحَكَم بالحَدِّ .
فإن قيل : يجوز إقرار الإنسان على نفسه بما يوجب الحدَّ ولا يملك مع ذلك إقامة الحد على نفسه . قيل له : إذا كان من يجوز إقراره على نفسه ولا يقيم الحدَّ على نفسه فمن لا يجوز إقراره على عبده أَحْرَى بأن لا يقيم الحد عليه .
فإن قيل : فلا نجعل قول الحاكم عليه علَّةَ جواز إقامة الحد عليه . قيل له : إن قول الحاكم : " قد ثبت عندي " لا يوجب عليه الحدَّ وليس بإقرار منه ، وإنما هو حكم ؛ وكذلك البينة إذا قامت عنده فإنه يقيم الحد من طريق الحكم ، فمن لا يقبل قوله في الحكم فهو لا يملك سماع البينة ولا إقامة الحد .
فإن قيل : إن أبا حنيفة وأبا يوسف لا يقبلان قول الحاكم بما يوجب الحد لأنهما يقولان : " لا يَحْكُمُ بعلمه في الحدود " . قيل له : ليس معنى ذلك أن قول الحاكم غير مقبول إذا قال : " ثبت ذلك عندي ببينة أو بإقرار " لأن من قولهما إن ذلك مقبول ، وإنما معنى قولهما : " إنه لا يحكم بعلمه في الحدود " أنه لو شاهد رجلاً على زنا أو سرقة أو شُرْبِ خَمْرٍ لم يُقِمْ عليه الحدَّ بِعِلْمِهِ ، فأما إذا قال : " قد شهد عندي شهود بذلك " أو قال : " أقرَّ عندي بذلك " فإن قوله مقبول منه في ذلك ويسع من أمره الحاكم بالرجم والقطع أن يرجم ويقطع .
واحتج المخالف لنا بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " ، وقوله : " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْها وإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْها وإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ولا يُثرِّبْ عَلَيْها ، فإِنْ عَادَتْ فَلْيَبِعْهَا ولو بِضَفِيرٍ " ، وقد رُوي في بعض ألفاظ هذا الحديث : " فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الحَدَّ " ، قال أبو بكر : لا دلالة في هذه الأخبار على ما ذهبوا إليه ، وذلك لأن قوله : " أَقِيمُوا الحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " هو كقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] ، وقوله : { الزَّانِيَةُ والزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ، ومعلوم أن المراد رَفْعُهُ إلى الإمام لإقامة الحدّ ، فالمخاطَبُون بإقامة الحدّ هم الأئمة وسائر الناس مخاطبون برفعهم إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود ؛ فكذلك قوله عليه السلام : " أَقِيمُوا الحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " هو على هذا المعنى . وأما قوله عليه السلام : " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا " فإنه ليس كل جلد حدّاً ؛ لأن الجلد قد يكون على وجه التعزير ، فإذا عَزّرناها فقد قضينا عهدة الخبر ولا يجوز أن نجلدها بعد ذلك ؛ ويدل على أنه أراد التعزير قوله : " لا يُثَرِّبْ عليها " يعني : ولا يعيّرها . ومن شأن إقامة الحدّ أن يكون بحضرة الناس ليكون أَبْلَغَ في الزجر والتنكيل ، فلما قال : " ولا يثرب عليها " دلّ ذلك على أنه أراد التعزير لا الحدَّ . ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الرابعة : " فلْيَبِعْها ولو بِضَفِيرٍ " ولم يأمر بجلدها ، ولو كان ذلك حدّاً لذكره وأمر به كما أمر به في الأول والثاني والثالث ؛ لأنه لا يجوز تعطيل الحدود بعد ثبوتها عند من يقيمها ، وقد يجوز ترك التعزير على حسب ما يرى الإمام فيه من المصلحة .
فإن قيل : لو أراد التعزير لوجب أن يكون لو عزَّرَها المولى ثم رفع إلى الإمام بعد التعزير أن يقيم عليها الحدَّ ؛ لأن التعزير لا يسقط الحدّ ، فيكون قد اجتمع عليها الحد والتعزير . قيل له : لا ينبغي لمولاها أن يرفعها إلى الإمام بعد ذلك ، بل هو مأمور بالستر عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهزال حين أشار على ماعز بالإقرار بالزنا : " لو سَتَرْتَهُ بثَوْبِكَ كانَ خَيْراً لَكَ " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَتَى شَيْئاً مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بسَتْرِ الله فإنَّ مَنْ أَبْدَى لنا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْه كِتَابَ الله " . وأيضاً فليس يمتنع اجتماع الحد والتعزير ، وقد يجب النفي عندنا مع الجلد على وجه التعزير . ورُوي أن النجاشي الشاعر شرب الخمر في رمضان فضربه عليّ كرم الله وجهه ثمانين وقال : " هذا لشربك الخمر " ثم جلده عشرين وقال : " هذا لإفطارك في رمضان " فجمع عليه الحدَّ والتعزير ؛ فلما كان ذلك جائزاً لم يمتنع لو رُفعت هذه الأَمَةُ بعد تعزير المولى إلى الإمام أن يحدّها حَدَّ الزنا .