باب اللّعان
قال الله عز وجل : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } إلى آخر القصة . قال أبو بكر : كان حَدُّ قاذف الأجنبيات والزوجات الجَلْد ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء : " ائْتِنِي بأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وإِلاّ فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ " ، وقال الأنصار : أيجلد هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين ! فثبت بذلك أن حدّ قاذف الزوجات كان كحدِّ قاذف الأجنبيات وأنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية حين نزلت آية اللعان : " ائْتِنِي بِصَاحِبَتِكَ فَقَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وفيها قُرْآناً " ولاعن بينهما . ورُوي نحو ذلك في حديث عبدالله بن مسعود في الرجل الذي قال : أرأيتم لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ ! فدلت هذه الأخبار على أن حَدَّ قاذف الزوجة كان الجلد وأن الله تعالى نسخه باللعان ، ومن أجل ذلك قال أصحابنا : إن الزوج إذا كان عبداً أو محدوداً في قذف فلم يجب اللعان بينهما أن عليه الحد ، كما أنه إذا أكذب نفسه فسقط اللعان من قِبَلِهِ كان عليه الحد ، وقالوا : لو كانت المرأة هي المحدودة في القذف أو كانت أَمَةً أو ذِمِّية أنه لا حدَّ على الزوج ؛ لأنه قد سقط اللعان من قِبَلِها فكان بمنزلة تصديقها الزوج بالقذف لما سقط اللعان من جهتها لم يجب على الزوج الحد .
واختلف الفقهاء فيمن يجب بينهما اللعان من الزوجين ، فقال أصحابنا جميعاً أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد : " يسقط اللعان بأحد معنيين أيهما وجد لم يجب معه اللعان ، وهو أن يكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد إذا كان أجنبيّاً نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية أو قد وطئت وطأً حراماً في غير ملك ، والثاني أن يكون أحدهما من غير أهل الشهادة بأن يكون محدوداً في قذف أو كافراً أو عبداً ، فأما إذا كان أحدهما أعمى أو فاسقاً فإنه يجب اللعان " . وقال ابن شبرمة : " يلاعن المسلم زوجته اليهودية إذا قذفها " . وقال ابن وهب عن مالك : " الأَمَةُ المسلمة والحرّةُ والنصرانية واليهودية تلاعن الحرَّ المسلم ، وكذلك العبد يلاعن زوجته اليهودية " . وقال ابن القاسم عن مالك : " ليس بين المسلم والكافر لِعَانٌ إذا قذفها إلا أن يقول رأيتها تزني فتُلاعِنُ سواءٌ ظهر الحمل أو لم يظهر ، لأنه يقول أخاف أن أموت فيلحق نسب ولدها بي ، وإنما يلاعن المسلم الكافر في دَفْع الحمل ولا يلاعنها فيما سوى ذلك ، وكذلك لا يلاعن زوجته الأمة إلا في نفي الحمل " قال : " والمحدود في القذف يلاعن ، وإن كان الزوجان جميعاً كافرين فلا لعان بينهما ، والمملوكان المسلمان بينهما لعانٌ إذا أراد أن ينفي الولد " . وقال الثوري والحسن بن صالح : " لا يجب اللعان إذا كان أحد الزوجين مملوكاً أو كافراً ويجب إذا كان محدوداً في قذف " . وقال الأوزاعي : " لا لعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته " . وقال الليث في العبد إذا قذف امرأته الحرة وادَّعَى أنه رأى عليها رجلاً : " يلاعنها ؛ لأنه يحد لها إذا كان أجنبيّاً ؛ فإن كانت أَمَةً أو نصرانية لاعنها في نفي الولد إذا ظهر بها حمل ولا يلاعنها في الرؤية لأنه لا يحدّ لها ، والمحدود في القذف يلاعن امرأته " . وقال الشافعي : " كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن إذا كانت ممن يلزمها الفرض " .
قال أبو بكر : فأما الوجه الأول من الوجهين اللذين يسقطان اللعان فإنما وجب ذلك به من قِبَلِ اللعان في الأزواج أُقيم مقام الحدّ في الأجنبيات ، وقد كان الواجب على قاذف الزوجة والأجنبية جميعاً الجلد بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ثم نُسخ ذلك عن الأزواج وأقيم اللعان مقامه ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء : " ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وإِلاّ فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ " وقول الرجل الذي قال : أرأيتم لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت عن غيظ ! فأنزلت آية اللعان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية : " قَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وفي صَاحِبَتِكَ قُرْآناً فَائْتِنِي بِها " ؛ فلما كان اللعانُ في الأزواج قائماً مقام الحد في الأجنبيات لم يجب اللعان على قاذف من لا يجب عليه الحدّ لو قذفها أجنبيّ . وأيضاً فقد سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم اللعان حدّاً ؛ حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الخراساني قال : حدثنا عبدالرحمن بن موسى قال : حدثنا روح بن دراج عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المرأة وزوجها فرق بينهما وقال : " إِنْ جَاءَتْ به أَرَحَّ القَدَمَيْنِ يُشْبِهُ فُلاناً فَهُوَ مِنْهُ " قال : فجاءت به يشبهه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْلا ما مَضَى مِنَ الحَدِّ لَرَجَمْتُها " ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللعان حدٌّ ، ولما كان حدّاً لم يجز إيجابه على الزوج إذا كانت المرأة مملوكة إذ كان حدّاً مثل حدّ الجلد ، ولما كان حدّاً لم يجب على قاذف المملوك .
فإن قيل : لو كان حدّاً لما وجب على الزوج إذا قذف امرأته الحرة الجلدُ إذا أكذب نفسه بعد اللعان ، إذْ غير جائز أن يجتمع حدَّان بقذف واحد ، وفي إيجاب حدّ القذف عليه عند إكذابه نفسه دليل على أن اللعان ليس بحد . قيل له : قد سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم حدّاً ، وغير جائز استعمال النظر في دفع الأثر ، ومع ذلك فإنما يمتنع اجتماع الحدَّيْن عليه إذا كان جَلْداً فأما إذا كان أحدهما جلداً والآخر لعاناً فإنا لم نجد في الأصول خلافه ؛ وأيضاً فإن اللعان إنما هو حَدٌّ من طريق الحكم ، فمتى أكذب نفسه وجُلِدَ الحَدَّ خرج اللعانُ من أن يكون حدّاً ، إذْ كان ما يصير حدّاً من طريق الحكم فجائز أن يكون تارةً حدّاً وتارة ليس بحدّ ، فكذلك كل ما تعلق بالشيء من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة على وصف وأخرى على وصف آخر . وإنما قلنا إن من شرط اللعان أن يكون الزوجان جميعاً من أهل الشهادة لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله } إلى آخر القصة ؛ فلما سمَّى الله لعانهما شهادة ثم قال في المحدود في القذف : { ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } وجب بمضمون الآيتين انتفاءُ اللعان عن المحدود في القذف ، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في سائر من خرج من أن يكون من أهل الشهادة مثل العبد والكافر ونحوهما ، ومن جهة أخرى أنه إذا ثبت أن المحدود في القذف لا يلاعن وجب مثله في سائر من ليس هو من أهل الشهادة ، إذْ لم يفرق أحدٌ بينهما لأن كل من لا يوجب اللعان على المحدود لا يوجبه على من ذكرنا . ووجه آخر من دلالة الآية ، وهو قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ } ، فلا يخلو المراد به من أن يكون الإيمان فحسب من غير اعتبار معنى الشهادة فيه أو أن يكون إيماناً ليعتبر فيها معنى الشهادة على ما تقوله ، فلما قال تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } علمنا أنه أراد أن يكون الملاعن من أهل الشهادة ، إذْ غير جائز أن يكون المراد ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم ، إذ كل أحد لا يحلف إلا عن نفسه ولا يجوز إحلاف الإنسان عن غيره ، ولو كان المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم لاستحال وزالت فائدته ، فثبت أن المراد أن يكون الشاهد في ذلك من أهل الشهادة وإن كان ذلك يميناً . ويدل على ذلك قوله تعالى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله } ، فلم يَخْلُ المرادُ من أن يكون الإتيان بلفظ الشهادة في هذه الأيمان أو الحلف من كل واحد منهما سواء كان بلفظ الشهادة أو بغيرها بعد أن يكون حلفاً ، فلما كان قول القائل بجواز قبول اليمين منهما على أي وجه كانت كان مخالفاً للآية وللسنة لأن الله تعالى قال : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله } كما قال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة : 282 ] وقال : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } [ النساء : 15 ] ولم يجز الاقتصار على الإخبار دون إيراده بلفظ الشهادة ، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين الزوجين أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين دونها ، ولما كان ذلك كذلك علمنا أن شرط هذه الأيمان أن يكون الحالف بها من أهل الشهادة ويلاعنان .
فإن قيل : الفاسق والأعمى ليسا من أهل الشهادة ويلاعنان . قيل له : الفاسق من أهل الشهادة من وجوه ، أحدها : أن الفسق الموجب لردّ الشهادة قد يكون طريقه الاجتهاد في الردّ والقبول . والثاني : أنه غير محكوم ببطلان شهادته إذ الفسق لا يجوز أن يحكم به الحاكم ، فلما لم تبطل شهادته من طريق الحكم لم يخرج من أن يكون من أهل الشهادة . والثالث : أن فسقه في حال لعانه غير متيقن ، إذْ جائز أن يكون تائباً فيما بينه وبين الله تعالى فيكون عدلاً مرضيّاً عند الله ، وليس هذه الشهادة يستحق بها على الغير فتردّ من أجل ما عُلم من ظهور فسقه بديّاً ، فلم يمنع فسقه من قبول لعانه وإن كان من شرطه كونه من أهل الشهادة ، وليس كذلك الكفر لأن الكافر لو اعتقد الإسلام لم يكن مسلماً إلا بإظهاره إذا أمكنه ذلك فكان حكم كفره باقياً مع اعتقاده لغيره ما لم يظهر الإسلام ؛ وأيضاً فإن العدالة إنما تعتبر في الشهادة التي يستحق بها على الغير فلا يحكم بها للتهمة ، والفاسق إنما رُدَّت شهادته في الحقوق للتهمة ، واللعان لا تبطله التهمة ، فلم يجب اعتبار الفسق في سقوطه ؛ وأما الأعمى فإنه من أهل الشهادة كالبصير لا فرق بينهما ، إلا أن شهادته غير مقبولة في الحقوق لأن بينه وبين المشهود عليه حائلاً ، وليس شرط شهادة اللعان أن يقول : " رأيتها تزني " إذ لو قال : " هي زانية ولم أَرَ ذلك " لاعن ، فلما لم يحتج إلى الإخبار عن معاينة المشهود به لم يبطل لعانه لأجل عماه . وقد رُوي في معنى مذهب أصحابنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار ، منها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن داود السراج قال : حدثنا الحكم بن موسى قال : حدثنا عتاب بن إبراهيم عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ مُلاعَنَةٌ : اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ المُسْلِمِ والحُرَّةُ تَحْتَ المَمْلُوكِ والمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الحُرِّ " ، وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا أحمد بن حمويه بن سيار قال : حدثنا أبو سيار التستري قال : حدثنا الحسن بن إسماعيل عن مجاهد المصيصي قال : أخبرنا حماد بن خالد عن معاوية بن صالح عن صدقة أبي توبة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَرْبَعٌ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ مُلاعَنَةٌ : اليَهُودِيَّةُ والنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ المُسْلِمِ والمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الحُرِّ والحُرَّةُ تَحْتَ المَمْلُوكِ " . فإن قيل : اللعان إنما يجب في نفي الولد لئلا يلحق به نسب ليس منه وذلك موجود في الأَمَةِ وفي الحرة . قيل له : لما دخل في نكاح الأمة لزمه حكمه ، ومن حكمه أن لا ينتفي منه نسب ولدها كما لزمه حكمه في رِقِّ ولده .
باب القذف الذي يوجب اللعان
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الآية . ولا خلاف بين الفقهاء أن المراد به قذف الأجنبيات المحصنات بالزنا سواء قال : " زنيتِ " أو قال : " رأيتكِ تزنين " ، ثم قال تعالى : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ؛ ولا خلاف أيضاً أنه قد أُريد به رَمْيُها بالزنا . ثم اختلف الفقهاء في صفة القذف الموجب للّعان ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي : " إذا قال لها يا زانية وجب اللعان " . وقال مالك بن أنس : " لا يلاعن إلا أن يقول رأيتك تزنين أو ينفي حملاً بها أو ولداً منها ، والأعمى يلاعن إذا قذف امرأته " . وقال الليث : " لا تكون ملاعنة إلا أن يقول رأيت عليها رجلاً أو يقول قد كنت استبرأت رَحِمَها وليس هذا الحمل منّي ويحلف بالله على ما قال " . وقال عثمان البتّي : " إذا قال رأيتها تزني لاعنها وإن قذفها وهي بخراسان وإنما تزوجها قبل ذلك بيوم لم يلاعن ولا كرامة " .
قال أبو بكر : ظاهر الآية يقتضي إيجاب اللعان بالقذف سواء قال رأيتك تزنين أو لم يقل ؛ لأنه إذا قذفها بالزنا فهو رام لها سواء ادّعى معاينة ذلك أو أطلقه ولم يذكر العيان . وأيضاً لم يختلفوا أن قاذف الأجنبية لا يختلف حكمه في وجوب الحدِّ عليه بين أن يدّعي المعاينة أو يُطْلِقَهُ ، كذلك يجب أن يكون حكم الزوج في قذفه إياها ، إذ كان اللعان متعلقاً بالقذف كالجلد ، ولأن اللعان في قذف الزوجات أُقيم مقام الجلد في قذف الأجنبيات فوجب أن يستويا فيما يتعلقان به من لفظ القذف . وأيضاً فقد قال مالك : " إن الأعمى يلاعن " وهو لا يقول رأيت ، فعلمنا أنه ليس شرط اللعان رَمْيَها برؤيا الزنا منها . وأيضاً قد أوجب مال اللعان في نفي الحمل من غير ذِكْرِ رؤية ، فكذلك نَفْيُ غير الحمل يلزمه أن لا يشرط فيه الرؤية .
باب كيفية اللعان
قال الله تعالى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ } . واختلف أهل العلم في صفة اللعان إذا لم يكن وَلَدٌ ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والثوري : " يشهد الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا ، وتشهد هي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به من الزنا ، فإن كان هناك ولد نفاه يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من نفي هذا الولد " . وذكر أبو الحسن الكرخي أن الحاكم يأمر الزوج أن يقول : " أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رَمَيْتُكِ به من نفي ولدك هذا " فيقول ذلك أربع مرات ، ثم يقول في الخامسة : " لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين فيما رَمَيْتُكِ به من نفي ولدك هذا " ثم يأمرها القاضي فتقول : " أشهد بالله إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من نفي ولدي هذا " فتقول ذلك أربع مرات ، ثم تقول في الخامسة : " وغضب الله عليَّ إن كُنْتَ من الصادقين فيما رَمَيْتَنِي به من نفي ولدي هذا " . وروى حيّان بن بشر عن أبي يوسف قال : " إذا كان اللعان بولد فرَّق بينهما فقال قد ألزمته أمَّه وأخرجته من نسب الأب " . قال أبو الحسن : ولم أجد ذكر نفي الحاكم الولد بالقول فيما قرأته إلا في رواية حيان بن بشر ، قال أبو الحسن : وهو الوجه عندي . وروى الحسن بن زياد في سياق روايته عن أبي حنيفة قال : " لا يضره أن يلاعن بينهما وهما قائمان أو جالسان ، فيقول الرجل : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتُكِ به من الزنا ، يُقْبِلُ بوجهه عليها فيواجهها في ذلك كله وتواجهه أيضاً هي " . ورُوي عن زفر مثل ذلك في المواجهة . وقال مالك فيما ذكره ابن القاسم عنه : " إنه يحلف أربع شهادات بالله يقول : أشهد بالله إني رأيتها تزني ، والخامسة : لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين ؛ وتقول هي : أشهد بالله ما رآني أزني ، فتقول ذلك أربع مرات والخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين " . وقال الليث : " يشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " ، وقال الشافعي : " يقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رَمَيْتُ به زوجتي فلانة بنت فلان ، ويشير إليها إن كانت حاضرة ، يقول ذلك أربع مرات ، ثم يقعده الإمام يذكّره الله ويقول إني أخاف إن لم تكن صَدَقْتَ أن تبوء بلعنة الله ، فإن رآه يريد أن يُمْضِي أمْرَهُ يضع يده على فيه ويقول : إن قولك عليَّ لعنة الله إن كنتُ من الكاذبين مُوجِبة إن كنت كاذباً ، فإن أبى تركه فيقول : لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا ، فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحداً كان أو اثنين ، وقال مع كل شهادة : إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا بفلان وفلان ؛ وإن نَفَى وَلَدَها قال مع كل شهادة : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رَمَيْتُها به من الزنا وإن هذا الولد ولد زناً ما هو منّي ، فإذا قال هذا فقد فرغ من الالتعان " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } يقتضي ظاهرُه جواز الاقتصار عليه في شهادات اللعان ؛ إلا أنه لما كان معلوماً من دلالة الحال أن التَّلاعُنَ واقعٌ على قَذْفِهِ إياها بالزنا علمنا أن المراد : فشهادة أحدهما بالله إني لمن الصادقين فيما رَمَيْتُها به من الزنا ، وكذلك شهادة المرأة واقعة في نفي ما رماها به ، وكذلك اللعن والغضب والصدق والكذب راجع إلى إخبار الزوج عنها بالزنا ، فدل على أن المراد بالآية وقوع الالتعان والشهادات على ما وقع به رَمْيُ الزوج ، فاكتفي بدلالة الحال على المراد عن قوله فيما رميتها به من الزنا واقتصر على قوله : " إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ " وهذا نحو قوله تعالى : { والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] ، والمراد : والحافظات فروجهن والذاكرات الله ؛ ولكنه حُذف لدلالة الحال عليه . وفي حديث عبدالله بن مسعود وابن عباس في قصة المتلاعنين عند النبي صلى الله عليه وسلم : فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، ولم يذكرا فيما رماها به من الزنا . وأما قول مالك : " إنه يشهد أربع شهادات بالله أنه رآها تزني " فمخالف لظاهر لفظ الكتاب والسنّة ؛ لأن في الكتاب : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } ، وكذلك لاعَنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الزوجين . وأما قول الشافعي : " إنه يَذْكُرها باسمها ونَسَبها ويشير إليها بعينها " فلا معنى له ؛ لأن الإشارة تغني عن ذكر الاسم والنسب ، فذكر الاسم والنسب لَغْوٌ في هذا الموضع ، ألا ترى أن الشهود لو شهدوا على رجل بحقّ وهو حاضر كانت شهادتهم إنّا نشهد أن لهذا الرجل على هذا الرجل ألف درهم ولا يحتاجون إلى اسمه ونسبه ؟ .
في نَفْيِ الولد
قال أبو حنيفة : " إذا ولدت المرأة فنَفَى وَلَدَها حين يولد أو بعده بيوم أو يومين لاعن وانتفى الولد ، وإن لم يَنْفِه حين يولد حتى مضت سنة أو سنتان ثم نفاه لاعن ولزمه الولد " ، ولم يوقّت أبو حنيفة لذلك وقتاً ، ووقَّتَ أبو يوسف ومحمد مقدار النِّفاس أربعين ليلة ؛ وقال أبو يوسف : " إن كان غائباً فقَدِمَ فله أن ينفيه فيما بينه وبين مقدار النفاس منذ قدم ما كان في الحَوْلَيْن ، فإن قدم بعد خروجه من الحولين لم يَنْتَفِ أبداً " . وقال هشام : سألت محمداً عن أم ولد لرجل جاءت بولد والمولى شاهد فلم يَدَّعِهِ ولم ينكره ، فقال : " إذا مضى أربعون يوماً من يوم ولدته فإنه يلزمه وهي بمنزلة الحرة " ، قال : قلت : فإن كان المولى غائباً فقدم وقد أتت له سنون ؟ فقال محمد : " إن كان الابن نُسِبَ إليه حتى عُرف به فإنه يلزمه " وقال محمد : " وإن لم ينسب إليه وقال هذا لم أعلم بولادته فإن سكت أربعين يوماً من يوم قدم لزمه الولد " . وقال مالك : " إذا رأى الحمل فلم يَنْفِهِ حين وضعته لم ينتف بعد ذلك وإن نفاه حرةً كانت أو أَمَةً ، فإن انتفى منه حين ولدته وقد رآها حاملاً فلم ينتف منه فإنه يجلد الحد لأنها حرة مسلمة فصار قاذفاً لها ، وإن كان غائباً عن الحمل وقدم ثم ولدته فله أن ينفيه " . وقال الليث فيمن أَقَرَّ بحمل امرأته ثم قال بعد ذلك رأيتها تزني : " لاعن في الرؤية ويلزمه الحمل " . وقال الشافعي : " إذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم إمكاناً بَيِّناً فترك اللعان لم يكن له أن ينفيه كالشفعة " ، وقال في القديم : " إن لم يَنْفِهِ في يوم أو يومين لم يكن له أن ينفيه " .
قال أبو بكر : ليس في كتاب الله عز وجل ذِكْرُ نفي الولد ، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نَفْيُ الولد باللعان إذا قذفها بنفي الولد ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن مسلمة القعنبيّ عن مالك عن نافع عن ابن عمر : " أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألْحَقَ الولد بالمرأة " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال : " جاء هلال بن أمية من أرضه عَشِيّاً ، فوجد عند أهله رجلاً ، وذكر الحديث إلى آخر ذكر اللعان ، قال : ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يُدَّعَى ولدها لأب " . قال أبو بكر : وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا نَفَى ولدها أنه يلاعن ويلزم الولد أمّه وينتفي نسبه من أبيه ، إلا أنهم اختلفوا في وقت نفي الولد على ما ذكرنا ، وفي خبر ابن عمر الذي ذكرنا في أن رجلاً انتفى من ولدها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالأم دليلٌ على أن نفي ولد زوجته من قَذْفٍ لها لولا ذلك لما لاعن بينهما ، إذْ كان اللعان لا يجب إلا بالقذف ، وأما توقيت نفي الولد فإن طريقه الاجتهاد وغالب الظنّ فإذا مضت مدة قد كان يمكنه فيها نفي الولد وكان منه قبول للتهنئة أو ظَهَرَ منه ما يدلّ على أنه غير نافٍ له لم يكن له بعد ذلك أن ينفيه عند أبي حنيفة ، وتحديد الوقت ليس عليه دلالة فلم يثبت ، واعتبر ما ذكرنا من ظهور الرضا بالولد ونحوه .
فإن قيل : لما لم يكن سكوته في سائر الحقوق رِضاً بإسقاطها كان كذلك نَفْيُ الولد . قيل له : قد اتفق الجميع على أن السكوت في ذلك إذا مضت مدة من الزمان بمنزلة الرضا بالقول ، إلا أنهم اختلفوا فيها ، وأكثر مَنْ وَقَّتَ فيها أربعين يوماً ، وذلك لا دليل عليه ، وليس اعتبار هذه المدة بأوْلى من اعتبار ما هو أقلّ منها . وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الأربعين هي مدة أكثر النفاس ، وحالُ النفاس هي حال الولادة ، فما دامت على حال الولادة قُبِلَ نَفْيُه . وهذا ليس بشيء ؛ لأن نفي الولد لا تعلق له بالنفاس . وأما قول مالك : " إنه إذا رآها حاملاً فلم يَنْتَفِ منه ثم نفاه بعد الولادة فإنه يُجلد الحدَّ " فإنه قول واهٍ لا وجه له من وجوه ، أحدها : أن الحمل غير متيقَّن فيعتبر نفيه ، والثاني : أنه ليس بآكد ممن ولدت امرأته ولم يعلم بالحمل فعلم به وسكت زماناً يلزمه الولد ، وإن نفاه بعد ذلك لاعَنَ ولم يَنْتَفِ نَسَبُ الولد منه ، إذ لم تكن صحة اللعان متعلقة بنفي الولد ولم يكن منه إكذاب لنفسه بعد النفي ، فكيف يجوز أن يُجلد ! وأيضاً قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الآية ، فأوجب اللعان بعموم الآية على سائر الأزواج فلا يخصُّ منه شيء إلا بدليل ، ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه من ذلك على وجوب الحد وسقوط اللعان .
باب الرجل يطلق امرأته طلاقاً بائناً ثم يقذفها
قال أصحابنا فيمن طلق امرأته ثلاثاً ثم قذفها : " فعليه الحدّ " وكذلك إن وَلَدَتْ ولداً قبل انقضاء عدتها فَنَفَى ولدها فعليه الحدُّ والوَلَدُ وَلَدُهُ . وقال ابن وهب عن مالك : " إذا بانت منه ثم أنكر حَمْلَها لاعنها إن كان حملها يشبه أن يكون منه ، وإن قذفها بعد الطلاق الثلاث وهي حامل مُقِرٌّ بحملها ثم زعم أنه رآها تزني قبل أن يقاذفها حُدَّ ولم يلاعن ، وإن أنكر حَمْلَها بعد أن يطلقها ثلاثاً لاعنها " . وقال الليث : " إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن ، ولو قذفها بالزنا بعد أن بانت منه وذكر أنه رأى عليها رجلاً قبل فراقه إياها جُلِدَ الحَدَّ ولم يلاعن " . وقال ابن شبرمة : " إذا ادَّعَتِ المرأة حَمْلاً في عدّتها وأنكر الذي يعتدّ منه لاعنها ، وإن كانت في غير عدة جُلِدَ وأُلْحِقَ به الولد " . وقال الشافعي : " وإن كانت امرأة مغلوبة على عقلها فنَفَى زوجُها وَلَدَها الْتَعَنَ ووقعت الفرقة وانتفى الولد ، وإن ماتت المرأة قبل اللعان فطالب أبوها وأمها زوجها كان عليه أن يلتعن ، وإن ماتت ثم قذفها حُدَّ ولا لعان إلا أن يَنْفِي به ولداً أو حملاً فيلتعن " . وروى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال : " يُحَدُّ " . وقال ابن عمر : " يلاعن " . وروى الشيباني عن الشعبي قال : " إن طلقها طلاقاً بائناً فادّعت حَمْلاً فانتفى منه يلاعنها ، إنما فَرَّ من اللعان " . وروى أشعث عن الحسن مثله ولم يذكر الفرار ، وإن لم تكن حاملاً جُلد . وقال إبراهيم النخعي وعطاء والزهري : " إذا قذفها بعدما بانت منه جُلِد الحدَّ " قال عطاء : " والولد ولده " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } . وكان ذلك حكماً عامّاً في قاذف الزوجات والأجنبيات على ما بيّنا فيما سلف ، ثم نُسخ منه قاذف الزوجات بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ، والبائنة ليست بزوجة ، فعلى الذي كان زوجها الحدُّ إذا قذفها بظاهر قوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ } ؛ ومن أوجب اللعان بعد البينونة وارتفاع الزوجية فقد نَسَخَ من هذه الآية ما لم يَرِدْ توقيفٌ بنسخه ، وغير جائز نسخ القرآن إلا بتوقيف يوجب العلم . ومن جهة أخرى أنه لا مدخل للقياس في إثبات اللعان ، إذْ كان اللعان حدّاً على ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتّفاق . وأيضاً لم يختلفوا أنه لو قذفها بغير ولد أن عليه الحدّ ولا لعان ، فثبت أنه غير داخل في الآية ولا مراد ، إذ ليس في الآية نفي الولد وإنما فيه ذِكْرُ القَذْفِ ، ونفيُ الولد مأخوذٌ من السنّة ولم تَرِدِ السنّةُ بإيجاب اللعان لنفي الولد بعد البينونة .
فإن قيل : إنما يُلاعَنُ بينهما لنفي الولد لأن ذلك حق للزوج ولا ينتفي منه إلا باللعان قياساً على حال بقاء الزوجية . قيل له : هذا استعمال القياس في نسخ حكم الآية ، وهو قوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ } ، فلا يجوز نسخ الآية بالقياس ؛ وأيضاً لو جاز إيجاب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية لجاز إيجابه لزوال الحدّ عن الزوج بعد ارتفاع الزوجية ، فلما كان لو قذفها بغير ولد حُدَّ ولم يجب اللعان ليزول الحد لعدم الزوجية كذلك لا يجب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية .
فإن قيل : قال الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ البقرة : 231 ] ، وقال : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } [ الطلاق : 1 ] ، فحكم تعالى بطلاق النساء ولم يمنع ذلك عندك من طلاقها بعد البينونة ما دامت في العدة ، فما أنكرت مثله في اللعان ؟ قيل له : هذا سؤال ساقط من وجوه ، أحدها : أن الله تعالى حين حكم بوقوع الطلاق على نساء المطلق لم يَنْفِ بذلك وقوعه على من ليست من نسائه بل ما عدا نسائه ، فحكمه موقوف على الدليل في وقوع طلاقه أو نَفْيِهِ ، وقد قامت الدلالة على وقوعه في العدة ، وأما اللعان فإنه مخصوص بالزوجات ولأن من عدا الزوجات فالواجب فيهن الحد بقوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُون المُحْصَنَاتِ } فكان موجب هذه الآية نافياً للعان ، ومن أوجبه وأسقط حكم الآية فقد نسخها بغير توقيف وذلك باطل ؛ ولذلك نفيناه إلا مع بقاء الزوجية . وأيضاً فإن الله تعالى من حيث حكم بطلاق النساء فقد حكم بطلاقهن بعد البينونة بقوله : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] ، ثم عطف عليه قوله : { فإن طلقها فلا حل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] ، فحكم بوقوع الطلاق بعد الفدية لأن " الفاء " للتعقيب ، وليس معك آية ولا سُنَّةٌ في إيجاب اللعان بعد البينونة . وأيضاً فجائزٌ إثبات الطلاق من طريق المقاييس بعد البينونة ، ولا يجوز إثبات اللعان بعد البينونة من طريق القياس ؛ لأنه حدٌّ لا مدخل للقياس في إثباته . وأيضاً فإن اللعان يوجب البينونة ولا يصح إثباتها بعد وقوع البينونة ، فلا معنى لإيجاب لعان لا يتعلق به بينونة ، إذ كان موضوع اللعان لقطع الفراش وإيجاب البينونة ، فإذا لم يتعلق به ذلك فلا حكم له فجرى اللعان عندنا في هذا الوجه مجرى الكنايات الموضوعة للبينونة فلا يقع بها طلاق بعد ارتفاع الزوجية ، مثل قوله : أنتَ خَلِيّةٌ وبائنٌ وبَتَّةٌ ونحوها ، فلما لم يَجُزْ أن يلحقها حكم هذه الكنايات بعد البينونة وجب أن يكون ذلك حكم اللعان في انتفاء حكمه بعد وقوع الفرقة وارتفاع الزوجية ، وليس كذلك حكم صريح الطلاق إذ ليس شرطه ارتفاع البينونة ، ألا ترى أن الطلاق تثبت معه الرجعة في العدة ولو طلق الثانية بعد الأولى في العدة لم يكن في الثانية تأثير في بينونة ولا تحريم ؟ وإنما أوجب نقصان العدد فلذلك جاز أن يلحقها الطلاق في العدة بعد البينونة لنقصان العدد لا لإيجاب تحريم ولا لبينونة . وأيضاً فليس يجوز أن يكون وقوع الطلاق أصلاً لوجوب اللعان ؛ لأن الصغيرة والمجنونة يلحقهما الطلاق ولا لعان بينهما وبين أزواجهما .
واختلف أهلُ العلم فيمن قذف امرأته ثم طلّقها ثلاثاً ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزُفَر ومحمد : إذا بانَتْ منه بعد القذف بطلاق أو غيره فلا حَدَّ عليه ولا لعان " ، وهو قول الثوري . وقال الأوزاعي والليث والشافعي : " يلاعن " . وقال الحسن بن صالح : " إذا قذفها وهي حامل ثم ولدت ولداً قبل أن يلاعنها فماتت لزمه الولد وضُرب الحَدَّ ، وإن لاعن الزوج ولم يلتعن المرأةَ حتى تموت ضُرب الحدّ وتوارثا ، وإن طلقها وهي حامل وقد قذفها فوضعت حملها قبل أن يلاعنها لم يُلاعَنْ وضُرب الحد " .
قال أبو بكر : قد بينا امتناع وجوب اللعان بعد البينونة ، ثم لا يخلو إذا لم يجب اللعان من أن لا يجب الحد على ما قال أصحابنا أو أن يجب الحد على ما قال الحسن بن صالح ، وغير جائز إيجاب الحد إن لم يكن من الزوج إكذابٌ لنفسه ، وإنما سقط اللعان عنه من طريق الحكم وصار بمنزلتها لو صدقته على القذف لما سقط اللعان من جهة الحكم لا بإكذاب من الزوج لنفسه لم يجب الحد .
فإن قيل : لو قذفها وهي أجنبية ثم تزوجها لم تنتقل إلى اللعان ، كذلك إذا قذفها وهي زوجته ثم بانت لم يبطل اللعان . قيل له : حال النكاح قد يجب فيها اللعان وقد يجب فيه الحدُّ ، ألا ترى أنه لو أكذب نفسه وجب الحد في حال النكاح وغير حال النكاح لا يجب فيه اللعان بحال ؟ .
واختلف أهل العلم في الرجل ينفي حَمْلَ امرأته ، فقال أبو حنيفة : " إذا قال ليس هذا الحمل مني لم يكن قاذفاً لها ، فإن ولدت بعد يوم لم يلاعن حتى ينفيه بعد الولادة " ، وهو قول زفر . وقال أبو يوسف ومحمد : " إن جاءت به بعد هذا القول لأقلّ من ستة أشهر لاعن " . وقد رُوي عن أبي يوسف : " أنه يلاعنها قبل الولادة " . وقال مالك والشافعي : " يلاعن بالحمل " ، وذكر عنه الربيع : " أنه لا يلاعن حتى تلد " . وإنما يوجب أبو حنيفة اللعان بنفي الحمل لأن الحمل غير متيقَّن ، وجائز أن يكون ريحاً أو داء ، وإذا كان كذلك لم يجز أن نجعله قذفاً لأن القذف لا يثبت بالاحتمال ، ألا ترى أن التعريض المحتمل للقذف ولغيره لا يجوز إيجاب اللعان ولا الحدُّ به ؟ فلما كان محتملاً أن يكون ما نفاه ولداً واحتمل غيره لم يجز أن يوجب اللعان به قبل الوضع ، ثم إذا وضعت لأقلَّ من ستة أشهر تيقَّنَّا أنه كان حملاً في وقت النفي لم يجب اللعان أيضاً لأنه يوجب أن يكون القذف معلقاً على شرط والقذف لا يجوز أن يعلق على شرط ، ألا ترى أنه لو قال : " إذا وَلَدْتِ فأنت زانية " لم يكن قاذفاً لها بالولادة ؟ .
واحتج من لاعن بالحمل بما رَوَى الأعمشُ عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بالحمل " ؛ وإنما أصل هذا الحديث ما رواه عيسى بن يونس وجرير جميعاً عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود : " أن رجلاً قال : أرأيتم إن وجد رجل مع امرأته رجلاً فإن هو قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ ! فأنزلت آية اللعان فابتلي به ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلاعن امرأته " ؛ فلم يذكر في هذا الحديث الحمل ولا أنه لاعن بالحمل . وروى ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن ابن عباس : أن رجلاً جاء وقال : وجدت مع امرأتي رجلاً ، ثم لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : " إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عُديّ قال : أنبأنا هشام بن حسان قال : حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " البَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ! " وذكر الحديث في قوله : " أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ " ، وكذلك رواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس . فذكر في هذه الأخبار أنه قذفها ، وأبو حنيفة يوجب اللعان بالقذف وإن كانت حاملاً ، وإنما لا يوجبه إذا نفى الحمل من غير قذف .
فإن قيل : قال الله تعالى : { وإن كنّ أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } [ الطلاق : 6 ] ، وقد تُرَدُّ الجارية بعيب الحمل إذا قال النساء هي حبلى ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دية شبه العمد : " مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفَةً في بُطُونِها أوْلادُها " . قيل له : أما نفقة الحامل فلا تجب لأجل الحمل وإنما وجبت للعدة ، فما لم تنقض عدتها فنفقتها واجبة ، ألا ترى أن غير الحامل نفقتها واجبة ؟ وإنما ذكر الحمل لأن وضعه تنقضي به العدة وتنقطع به النفقة ، وأما الردُّ بالعيب فإنه جائز كونه مع الشبهة كسائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة والحدُّ لا يجوز إثباته بالشبهة ، فلذلك اختلفا . وكذلك من يوجب في الدية أربعين خلفة في بطونها أولادها فإنه يوجبها على غالب الظنّ ، ومثله لا يجوز إيجاب الحد به ، وهذا كما يحكم بظاهر وجود الدم أنه حيضة ولا يجوز القطع به حتى يتم ثلاثة أيام ، وكذلك من كان ظاهِرُ أمرها الحبل لا تكون رؤيتها الدم حيضاً ، فإن تبين بعد أنها لم تكن حاملاً كان ذلك الدم حيضاً ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة هلال بن أمية : " إِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَهُوَ لِشَرِيكَ بْنِ سَحْماءَ " فإنه فيما أضافه إلى هلال محمول على حقيقة إثبات النسب منه ، وهذا يدل على أنه لم يَنْفِ الولد منه بلعانه إياها في حال حملها ، وقوله : " فهو لشريك بن سحماء " لا يجوز أن يكون مراده إلحاق النسب به وإنما أراد أنه من مَائِهِ في غالب الرأي ؛ لأن الزاني لا يحلق به النسب لقوله صلى الله عليه وسلم : " الوَلَدُ للفِرَاشِ وَللْعَاهِرِ الحَجَرُ " .
فإن قيل : في حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة هلال بن أمية حين لاعن بينهما أن لا يُدَّعَى ولدها لأب . قيل له : هذا إنما ذكره عباد بن منصور عن عكرمة ، وهو ضعيف واهٍ لا يشك أهل العلم بالحديث أن في حديث عباد بن منصور هذا أشياء ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مدرجة فيه ، ولم يذكر ذلك غير عباد بن منصور . ويدل على أنه غير جائز نفي النسب ولا إثبات القذف بالشبهة حديثُ أبي هريرة قال : إن أعرابيّاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاماً أسود وإني أنكرته ، فقال له : " هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ " قال : نعم ، قال : " ما أَلْوانُها ؟ " قال : حُمْرٌ ، قال : " هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ " قال : نعم ، قال : " فأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا ؟ " قا : عِرْقٌ نزعها ، قال : " فلعلَّ هَذا عِرْقٌ نزَعَهُ " ، فلم يرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم نفيه عنه لبعد شبهة منه . ويدل أيضاً على أنه لا يجوز نفي النسب بالشبهة .
فصل
وقال أصحابنا : " إذا نَفَى نَسَبَ وَلَدِ زوجته فعليه اللعان " . وقال الشافعي : " لا يجب اللعان حتى يقول إنها جاءت به من الزنا " . قال أبو بكر : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر : " أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وأَلْحَقَ الولد بالمرأة " ، فأخبر أنه لاعن بينهما لنفيه الولد ، فثبت أن نَفْيَ ولدها قَذْفٌ يوجب اللعان .
أربعة شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها
قال أصحابنا " شهادتهم جائزة ويقام الحدّ على المرأة " . وقال مالك والشافعي : " يلاعن الزوج ويحدُّ الثلاثة " . ورُوي نحو قولهما عن الحسن والشعبي . ورُوي عن ابن عباس : " أن الزوج يلاعن ويحد الثلاثة " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا جميعاً أجنبيين ، وقال : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ؛ فإذا قذف الأجنبي امرأة وجاء بأربعة أحدهم الزوج اقتضى الظاهر جَوَازَ شهادتهم وسقوط الحدّ عن القاذف وإيجابه عليها . وأيضاً لا خلاف أن شهادة الزوج جائزة على امرأته في سائر الحقوق وفي القصاص وفي سائر الحدود من السرقة والقذف والشرب ، فكذلك يجب أن تكون في الزنا .
فإن قيل : الزوج يجب عليه اللعان إذا قذف امرأته فلا يجوز أن يكون شاهداً . قيل له : إذا جاء مجيء الشهود مع ثلاثة غيره فليس بقاذف ولا لِعَانَ عليه ، وإنما يجب اللعان عليه إذا قذفها ثم لم يأْتِ بأربعة شهداء ، كالأجنبي إذا قذف وجب عليه الحدّ إلاّ أنْ يأتي بأربعة غيره يشهدون بالزنا ، ولو جاء مع ثلاثة فشهدوا بالزنا لم يكن قاذفاً وكان شاهداً ، فكذلك الزوج .
في إباء أحد الزوجين اللعان
قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد : " أيهما نكل عن اللعان حُبس حتى يلاعن " . وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي : " أيهما نكل حُدَّ ، إن نكل الرجل حُدَّ للقذف وإن نكلت هي حُدَّت للزنا " . ورَوَى معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن في الرجل يلاعن وتأبى المرأة قال : " تُحبس " . وعن مكحول والضحاك والشعبي : " إذا لاعن وأبت أن تلاعن رُجمت " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن بأربعة منكم } [ النساء : 15 ] ، وقال : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء : " ائْتِنِي بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وإِلاَّ فَحَدٌّ في ظَهْرِكَ " ، وردّ النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية كل واحد منهما حتى أقرّ أربع مرّات بالزنا ثم رجمهما ؛ فثبت أنه لا يجوز إيجاب الحد عليها بترك اللعان لأنه ليس ببينة ولا إقرار ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بإِحْدَى ثَلاثٍ : زِناً بَعْدَ إِحْصَانٍ وكُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ وقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ " ، فنفى وجوب القتل إلا بما ذكر ، والنكول عن اللعان خارج عن ذلك فلا يجب رجمها ، وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن لأن أحداً لم يفرق بينهما .
فإن قيل : قوله : " امرىء مسلم " إنما يتناول الرجل دون المرأة . قيل له : ليس كذلك ؛ لأنه لا خلاف أن المرأة مرادة بذلك وأن هذا الحكم عام فيهما جميعاً ، وأيضاً فإن ذلك للجنس كقوله : { إن امرؤ هلك ليس له ولد } [ النساء : 176 ] ، وقوله : { يوم يفر المرء من أخيه } [ عبس : 34 ] . وأيضاً لا خلاف أن الدم لا يستحق بالنكول في سائر الدعاوى ، وكذلك سائر الحدود ، فكان في اللعان أَوْلَى أن لا يستحق .
فإن قيل : لما قال تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ } ، وهو يعني حَدَّ الزنا ، ثم قال : { وَيَدْرَأُ عَنْها العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله } ، فعرّفه بالألف واللام ، علمنا أن المراد هو العذاب المذكور في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ } . قيل له : ليست هذه قصة واحدة ولا حكماً واحداً حتى يلزمه فيه ما قلت ؛ لأن أول السورة إنما هي في بيان حكم الزانيين ثم حكم القاذف ، وقد كان ذلك حكماً ثابتاً في قاذف الزوجات والأجنبيات جارياً على عمومه إلى أن نُسخ عن قاذف الزوجات باللعان ، وليس في ذكره العذاب وهو يريد به حدَّ الزنا في موضع ثم ذِكْر العذاب بالألف واللام في غيره ما يوجبه أن العذاب المذكور في لعان الزوجين هو المذكور في الزانيين ، إذ ليس يختص العذاب بالحد دون غيره ، وقد قال الله تعالى : { إلا أن يسجن أو عذاب أليم } [ يوسف : 25 ] ولم يرد به الحد ، وقال : { لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه } [ النمل : 21 ] ولم يرد الحدَّ ، وقال : { ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً } [ الفرقان : 19 ] ولم يرد به الحدَّ ، وقال عَبيدُ الأبْرصِ :
* والمَرْءُ ما عَاشَ في تَكْذِيبٍ * طُولُ الحَيَاةِ لَهُ تَعْذِيبُ *
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ " . فإن كان اسم العذاب لا يختص بنوع من الإيلام دون غيره ، ومعلوم أنه لم يُرِدْ به جميع سائر ضروب العذاب عليه ، لم يَخْلُ اللفظ من أحد معنيين : إما أن يريد به الجنس فيكون على أدنى ما يسمَّى عذاباً ، أيّ ضرب منه كان ، أو مجملاً مفتقراً إلى البيان ، إذ غير جائز أن يكون المراد معهوداً لأن المعهود هو ما تقدم ذكره في الخطاب فيرجع الكلام إليه ، إذ كان معناه متقرراً عند المخاطبين وأن المراد عَوْدَهُ إليه ، فلما لم يكن في ذكر قذف الزوج وإيجاب اللعان ما يوجب استحقاق الحدِّ على المرأة لم يَجُزْ أن يكون هو المراد بالعذاب ، وإذا كان ذلك كذلك وكانت الأيمان قد تكون حقّاً للمدَّعي حتى يحبس من أجل النكول عنها وهي القسامة متى نكلوا عن الأيمان فيها حبسوا ، كذلك حبس الناكل عن اللعان أوْلى من إيجاب الحدِّ عليه ؛ لأنه ليس في الأصول إيجاب الحد بالنكول وفيها إيجاب الحبس به . وأيضاً فإن النكول ينقسم إلى أحد معنيين : إما بدل لما استحلف عليه ، وإما قائم مقام الإقرار ؛ وبَدَلُ الحدود لا يصح وما قام مقام الغير لا يجوز إيجاب الحدّ به ، كالشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي وشهادة النساء مع الرجال . وأيضاً فإن النكول لما لم يكن صريح الإقرار لم يجز إثبات الحدّ به ، كالتعريض وكاللفظ المحتمل للزنا ولغيره فلا يجب به الحَدُّ على المُقِرّ ولا على القاذف .
فإن قيل : في حديث ابن عباس وغيره في قصة هلال بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاعن بينهما وعظ المرأة وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهْوَنُ من عذاب الآخرة وكذلك الرجل ، ومعلوم أنه أراد بعذاب الدنيا حَدَّ الزنا أو القذف . قيل له : هذا غلط ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون مراده بعذاب الدنيا الحبس أو الحد إذا أقرّ ، فإن كان المراد الحبس فهو عند النكول ، وإن أراد الحد فهو عند إقرارها بما يوجب الحد وإكذاب الزوج لنفسه ، فلا دلالة له فيه على أن النكول يوجب الحد دون الحبس .
فإن قيل : إنما يجب عليها الحد بالنكول وأيمان الزوج ، وكذلك يجب عليه بنكوله وأيمان المرأة . قيل له : النكول والأيمان لا يجوز أن يستحق به الحدُّ ، ألا ترى أن من ادَّعَى على رجل قذفاً أنه لا يُستحلف ولا يستحق المدَّعي الحدَّ بنكول المدَّعَى عليه ولا بيمنيه ؟ وكذلك سائر الحدود ، ولا يستحلف فيها ولا يحكم فيها بالنكول ولا بردِّ اليمين .
باب تصادق الزوجين أن الولد ليس منه
قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي : " لا يُنْفَى الولد منه إلا باللعان " . وقال أصحابنا : " تصديقها إياه بأن ولدها من الزنا يبطل اللعان فلا ينتفي النسب منه أبداً " . وقال مالك والليث : " إذا تصادق الزوجان على أنها ولدته وأنه ليس منه لم يلزمه الولد وتُحَدُّ المرأة " . وذكر ابن القاسم عن مالك قال : " لو شهد أربعة على امرأة أنها زنت منذ أربعة أشهر وهي حامل وقد غاب زوجها منذ أربعة أشهر فأخّرها الإمام حتى وضعت ثم رجمها فَقَدِمَ زوجُها بعدما رجمت فانتفى من ولده وقال قد كنت استبرأتها فإنه يلتعن وينتفي به الولد عن نفسه ولا ينفيه ههنا إلا اللعان " .
قال أبو بكر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الوَلَدُ للفِرَاشِ وللْعَاهِرِ الحَجَرُ " وظاهره يقتضي أن لا ينتفي أبداً عن صاحب الفراش ، غير أنه لما وردت السنة في إلحاق الولد بالأمّ وقطع نَسَبِه من الاب باللعان واستعمل ذلك فقهاء الأمصار سلّمنا ذلك ، وما عدا ذلك مما لم تَرِدْ به سُنَّةٌ فهو لازم للزوج بظاهر قوله : " الوَلَدُ للفِرَاشِ " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا مهدي بن ميمون أبو يحيى قال : حدثنا محمد بن عبدالله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب عن رباح قال : زوّجني أهلي أَمَةً لهم روميةً ، فوقَعْتُ عليها فولدت لي غلاماً أسود مثلي فسميته عبدالله ثم طبن لها غلام من أهلي رومي يقال له يوحَنَّه ، فراطنها بلسانه ، فولدت غلاماً كأنه وَزَغَةً من الوزغات فقلت لها : ما هذا ؟ فقالت : هذا ليوحَنَّه ، فرفعنا إلى عثمان ، فقال : فسألهما فاعترفا ، فقال لهما : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد للفراش ، فجلدها وجلده وكان مملوكين .
باب الفرقة باللعان
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : " لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم " . وقال مالك وزفر بن الهذيل والليث : " إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق بينهما الحاكم " . وعن الثوري والأوزاعي : " لا تقع الفرقة بلعان الزوج وحده " . وقال عثمان البتّي . " لا أرى ملاعنة الزوج امرأته تنقص شيئاً ، وأَحَبُّ إليَّ أن يطلق " . وقال الشافعي : " إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبداً التعنت أو لم تلتعن " .
قال أبو بكر : أما قول عثمان البتّي في أنه لا يفرق بينهما فإنه قول تفرَّد به ولا نعلم أحداً قال به غيره ، وكذلك قول الشافعي في إيقاعه الفرقة بلعان الزوج خارجٌ عن أقاويل سائر الفقهاء وليس له فيه سلف .
والدليل على أن فرقة اللعان لا تقع إلاّ بتفريق الحاكم ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبيّ عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره : أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيتَ رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قَدْ أَنْزَلَ الله فِيكَ وفي صَاحِبَتِكَ قُرْآناً فاذْهَبْ فَأْتِ بِها ! " قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغنا قال عويمر : كذبتُ عليها يا رسول الله إنْ أمسكتها فهي طالق ثلاثاً ؛ فطلّقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال ابن شهاب : فكانت سُنَّة المتلاعنين . وفي هذا الخبر دلالةٌ على أن اللعان لم يوجب الفرقة لقوله : " كذبتُ عليها إن أمسكْتُها " وذلك لأن فيه إخباراً منه بأنه ممسك لها بعد اللعان على ما كان عليه من النكاح ، إذ لو كانت الفرقةُ قد وقعت قبل ذلك لاستحال قوله : " كذبت عليها إن أمسكتها " وهو غير ممسك لها ، فلما أخبر بعد اللعان بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ممسكٌ لها ولم ينكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم دلَّ ذلك على أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان ، إذ غير جائز أن يُقَارَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحداً على الكذب ولا على استباحة نكاح قد بطل ، فثبت أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان . ويدل عليه أيضاً ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان قال : حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكير قال : حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب أن ابن شهاب كتب يذكر عن سهل بن سعد أنه أخبره أن عويمراً قال : يا رسول الله أرأيتَ إنْ وجدتُ عند أهلي رجلاً أأقتله ؟ قال : " ائْتِ بامْرَأَتِكَ فإِنَّه قَدْ نَزِلَ فِيكُما " فجاء بها فلاعنها ، ثم قال : إني قد افتريتُ عليها إنْ لم أفارقها . فأخبر في هذا الحديث أنه لم يكن فارقها باللعان وأمره النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما طلقها ثلاثاً بعد اللعان ولم ينكره صلى الله عليه وسلم ، دلّ ذلك على أن الطلاق قد وقع موقعه ؛ وعلى قول الشافعي أنها قد بانت منه بلعان الزوج ولا يلحقها طلاقه بعد البينونة ، فقد خالف الخبر من هذا الوجه أيضاً . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال : حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبدالله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذا الخبر أعني قصة عويمر قال : فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند النبي صلى الله عليه وسلم ، قال سهل : حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنّة بَعْدُ في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً . فأخبر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق العجلاني بعد اللعان . ويدل عليه أيضاً قول ابن شهاب : " فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما " ولو كانت الفرقة واقعة باللعان لاستحال التفريق بعدها . ويدل عليه أيضاً ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد ووهب بن بيان وغيرهما قالوا : حدثنا سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد قال : مسدد قال : " شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما حين تلاعنا ، فقال الرجل : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ! " فأخبر في هذا الحديث أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم فرّق بينهما بعد اللعان . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا إسماعيل قال : حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عمر : رجل قذف امرأته ؟ قال : فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان فقال : " والله يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُما كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ " يرددها ثلاث مرات ، فأبيا ففرق بينهما . فنصَّ في هذا الحديث أيضاً على أنه فرق بينهما بعد اللعان . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر : " أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألْحَقَ الولد بالمرأة " . وهذا أيضاً فيه نَصٌّ على أن التفريق كان بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأيضاً لو كانت الفرقة واقعة بلعان الزوج لبيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع بها من التحريم وتعلق بها من الأحكام ، فلما لم يخبر عليه السلام بوقوع الفرقة بلعان الزوج ثبت أنها لم تقع . وأيضاً قول الشافعي خلاف الآية ؛ لأن الله تعالى قال : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ثم قال : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } ثم قال : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ } وهو يعني الزوجة ، فلو وقعت الفرقة بلعان الزوج للاعنت وهي أجنبية ، وذلك خلاف ظاهر الآية لأن الله تعالى إنما أوجب اللعان بين الزوجين . وأيضاً لا خلاف أن الزوج إذا قذف امرأته بغير ولد بعد البينونة أو قذفها ثم أبانها أنه لا يلاعن ، فلما لم يَجُزْ أن يلاعن وهو أجنبي كذلك لا يجوز أن يلاعن وهي أجنبية ؛ لأن اللعان في هذه الحال إنما هو لقطع الفراش ولا فراش بعد البينونة ، فامتنع لعانها وهي غير زوجة .
فإن قيل : في الأخبار التي فيها ذِكْرُ تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنيني إنما معناه أن الفرقة وقعت باللعان ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تحلُّ له بقوله : " لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " . قيل له : هذا صَرْفٌ للكلام عن حقيقته ومعناه ؛ لأن قوله : " لا تَحِلُّ لك لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْها " إن لم تقع به فرقة فليس بتفريق من النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ، وإنما هو إخبار بالحكم ، والمخبر بالحكم لا يكون مفرقاً بينهما .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المُتَلاعِنَانِ لا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً " ، وذلك إخبار منه بوقوع الفرقة ؛ لأن النكاح لو كان باقياً إلى أن يفرق لكانا مجتمعين . قيل له : هذا لا يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما رُوي عن عمر وعلي قال : " يفرق بينهما ولا يجتمعان " فإنما مراده أنهما إذا فرق بينهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن ، فينبغي أن تثبت الفرقة حتى يحكم بأنهما لا يجتمعان ، ولو صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم كان معناه ما وصفنا . وأيضاً يُضَمُّ إليه ما قدمنا من الأخبار الدالة على بقاء النكاح بعد اللعان وأن الفرقة إنما تقع بتفريق الحاكم ، فإذا جمعنا بينهما وبين الخبر تضمَّن أن يكون معناه : المتلاعنان لا يجتمعان بعد التفريق . ويدل على ما ذكرنا أن اللعان شهادةٌ لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم ، فأشبه الشهادة التي لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم ، فواجب على هذا أن لا تقع موجبة للفرقة إلا بحكم الحاكم .
فإن قيل : الأيمان على الدعاوى لا يثبت بها حكم إلا عند الحاكم ، ومتى استحلف الحاكم رجلاً بَرِىءَ من الخصومة ولا يحتاج إلى استيناف حكم آخر في براءته منها ، وهذا يوجب انتقاض اعتلالك بما ذكرت . قيل له : هذا لا يلزم على ما ذكرنا ؛ وذلك لأنا قلنا إن اللعان شهادة تتعلق صحتها بالحاكم كالشهادات على الحقوق ، وليست الأيمان على الحقوق شهادات بذلك على هذا أن اللعان لا يصح إلا بلفظ الشهادة كالشهادات على الحقوق ، وليس كذلك الاستحلاف على الدعاوى . وأيضاً فإن اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحقُّ المدَّعي ببينته ، فلما لم يَجُزْ أن يستحق المدَّعي ما ادّعاه إلا بحكم الحاكم وجب حكمه في استحقاق المرأة نفسها باللعان ، وأما الاستحلاف على الحقوق فإنه لا يستحق به شيء وإنما تقطع الخصومة في الحال ويبقى المدَّعَى عليه على ما كان عليه من براءة الذمة ، فكانت فرقة اللعان بالشهادات على الحقوق أَشْبَهَ منها بالاستحلاف عليها . وأيضاً لما كان اللعان سبباً للفرقة متعلقاً بحكم الحاكم أَشْبَهَ تأجيل العنين في كونه سبباً للفرقة في تعلقه بحكم الحاكم ، فلما لم تقع الفرقة بعد التأجيل بمضيِّ المدة دون تفريق الحاكم وجب مثله في فرقة اللعان لما وصفنا . وأيضاً لما لم يكن اللعان كناية عن الفرقة ولا تصريحاً بها وجب أن لا تقع به الفرقة ، كسائر الألفاظ التي ليست كناية عن الفرقة ولا تصريحاً بها .
فإن قيل : الإيلاءُ ليس بكناية عن الطلاق ولا صريح ، وقد أُوقعت به الفرقةُ عند مُضِيِّ المدة . قيل له : إن الإيلاء يصلح أن يكون كناية عن الطلاق ، إلا أنه أضعف من سائر الكنايات فلا تقع الفرقة فيه بنفس الإيلاء إلا بانضمام معنى آخر إليه وهو ترك الجماع في المدة ، ألا ترى أن قوله : " والله لا أقربِك " قد يدل على التحريم ، إذْ كان التحريم يمنع القرب ؟ وأما اللعان فليس يصلح أن يكون دالاًّ على التحريم بحال ، لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قذفه فلا يوجب ذلك تحريماً ؛ ألا ترى أنه لو قامت البَيِّنَةُ عليها بالزنا لم يوجب ذلك تحريماً ، وإن كان كاذباً والمرأة صادقة فذلك أبعد ؟ فثبت بذلك أنه لا دلالة فيه على التحريم ؛ قال : فلذلك لم يجز وقوع الفرقة دون إحداث تفريق إمّا من قِبَلِ الزوج أو من قِبَلِ الحاكم . وأيضاً أنه لمَّا لم يصح ابتداء اللعان إلا بحكم الحاكم كان كذلك ما تعلق به من الفرقة ، ولما صح ابتداء الإيلاء من غير حاكم لم يحتج في وقوع الفرقة إلى حكم الحاكم .
فإن قيل : لما اتفقنا على أنهما لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يُخَلَّيَا وذلك وفُرِّق بينهما ، دلّ ذلك على أن اللعان قد أوجب الفرقة ، فواجب أن تقع الفرقة فيه بنفس اللعان دون سبب آخر غيره . قيل له : هذا منتقض على أصل الشافعي ؛ لأنه يزعم أن ارتداد المرأة لا يوجب الفرقة إلا بحدوث سبب آخر وهو مضيّ ثلاث حِيَضٍ ، فإذا مضت ثلاثُ حِيَضٍ وقعت الفرقة ، ولو تراضيا على البقاء على النكاح لم يُخَلَّيا وذلك ولم تُوجب الردة بنفسها الفرقة دون حدوث معنى آخر ، وعندنا لو تزوجت امرأة زوجاً غير كُفْءٍ وطالب الأولياء بالفرقة لم يعمل تراضي الزوجين في تبقية النكاح ولم يوجب ذلك وقوع الفرقة بخصومة الأولياء حتى يفرق الحاكم ؛ فهذا الاستدلال فاسد على أصل الجميع . وأيضاً فإنك لم تَرُدَّهُ إلى أصل ، وإنما حصلت على دعوى عارية من البرهان . وأيضاً جائز عندنا البقاء على النكاح بعد اللعان ؛ لأنه لو أكذب نفسه قبل الفرقة لجُلِدَ الحَدَّ ولم يفرق بينهما .
فإن قيل : هو مثل الطلاق الثلاث والرضاع ونحوهما من الأسباب الموجبة للفرقة بأنفسها لا يحتاج في صحة وقوعها إلى حكم الحاكم ، واللعان ليس بسبب موجب للفرقة بنفسه أنه لو كان كذلك وجب أن تقع به الفرقة إذا تلاعنا عند غير الحاكم ، وأيضاً ليس كل سبب يتعلق به فسخ يوجبه بنفسه ، ومن الأسباب ما يوجب ذلك بنفسه ومنها ما لا يوجبه إلا بحدوث معنى آخر ، ألا ترى أن بيع نصيب من الدار يوجب الشفعة للشريك ولا ينتقل إليه بنفس الطلب والخصومة دون أن يحكم بها الحاكم ؟ وكذلك الرد بالعيب بعد القبض وخيار الصغير إذا بلغ ونحو ذلك هذه كلها أسباب يتعلق بها فسخ العقود ثم لا يقع الفسخ بوجودها حسب دون حكم الحاكم به ، فهو على من يوجب الفرقة باللعان دون تفريق الحاكم . وأما عثمان البتّي فإنه ذهب في قوله أن اللعان لا يوجب الفرقة بحال ؛ لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ، ولو تلاعنا في بيتهما لم يوجب فرقة ، فكذلك عند الحاكم ؛ ولأن اللعان في الأزواج قائم مقام الحدِّ على قاذف الأجنبيات ، ولو حُدَّ الزوج في قذفه إياها بأن أكذب نفسه أو كان عبداً لم يوجب ذلك فرقةً ، وكذلك إذا لاعن . وذهب في تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين أن ذلك إنما كان في قصة العجلاني وكان طلقها ثلاثاً بعد اللعان ، فلذلك فرق بينهما . وروى ابن شهاب أن سهل بن سعد قال : " فطلقها العجلاني ثلاث تطليقات بعد فراغهما من اللعان فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، وحديث ابن عمر أيضاً إنما هو في قصة العجلاني . قال أبو بكر : في حديث سهل بن سعد أنه قال : " فحضرتُ هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني قصة العجلاني فمضت السُّنَّةُ في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً " ، فأخبر سهل وهو راوي هذه القصة أن السُّنَّةَ مضت بالتفريق وإن لم يطلق الزوج ؛ وفي حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بينهما . قال أبو بكر : وهلال لم يطلق امرأته ، فثبت أن التفريق بينهما بعد اللعان واجبٌ . وأيضاً في حديث ابن عمر وغيره في قصة العجلاني أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما ، وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما ثم طلقها هو ثلاثاً فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه أنه قال : " لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " .
باب نكاح الملاعن للملاعنة
قال أبو حنيفة ومحمد : " إذا أكذب الملاعنُ نفسه وجُلِدَ الحدَّ أو جُلِد حَدَّ القذف في غير ذلك وصارت المرأة بحال لا يجب بينها وبين زوجها إذا قذفها لعان ، فله أن يتزوجها " ؛ ورُوي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي وسعيد بن جبير . وقال أبو يوسف والشافعي : " لا يجتمعان أبداً " ؛ ورُوي عن عليّ وعمر وابن مسعود مثل ذلك . وهذا محمول عندنا على أنهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن . ورُوي عن سعيد بن جبير : " أن الفرقة اللعان لا تُبِينُها منه ، وأنه إذا أكذب نفسه في العدة رُدَّتْ إليه امرأته " ؛ وهو قول شاذّ لم يقل به أحد غيره ، وقد مضت السنة ببطلانه حين فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين والفرقة لا تكون إلا مع البينونة . ويُحْتَجُّ للقول الأول بعموم الآي المبيحة لعقود المناكحات ، نحو قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] وقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] وقوله : { فأنكحوا الأيامى منكم } [ النور : 32 ] . ومن جهة النظر أنّا قد بينا أن هذه الفرقة متعلقة بحكم الحاكم ، وكلُّ فرقة تعلقت بحكم الحاكم فإنها لا توجب تحريماً مؤبداً ، والدليل على ذلك أن سائر الفُرَقِ التي تتعلق بحكم الحاكم لا يوجب تحريماً مؤبداً مثل فُرْقَة العنّين وخيار الصغيرين وفرقة الإيلاء عند مخالفنا ، وكذلك سائر الفُرَقِ المتعلقة بحكم الحاكم في الأصول هذه سبيلها .
فإن قيل : سائر الفُرَقِ التي ذكرتَ لا يمنع التزويج في الحال وإن تعلقت بحكم الحاكم ، وهذه الفُرْقة تحظر تزويجها في الحال عند الجميع ، فكما جاز أن يفارق سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم من هذا الوجه جاز أن يخالفها في إيجابها التحريم مؤبداً . قيل له : من الفُرَقِ المتعلقة بحكم الحاكم ما يمنع التزويج في الحال ولا توجب مع ذلك تحريماً مؤبداً ، مثل فُرْقَة العِنِّين إذا لم تكن نفي من طلاقها إلا واحدة قد أَوجَبَتْ تحريماً حاظراً لعقد النكاح في الحال ، ولم توجب مع ذلك تحريماً مؤبداً ؛ وكذلك الزوج الذمي إذا أبى الإسلام وقد أسلمت امرأته ففَرَّق الحاكم بينهما مَنَعَ ذلك من نكاحها بعد الفرقة ولا توجب تحريماً مؤبداً ، فلم يجب من حيث حظرنا تزويجها بعد الفرقة أن توجب به تحريماً مؤبداً . وأيضاً لو كان اللعان يوجب تحريماً مؤبداً لوجب أن يوجبه إذا تلاعنا عند غير الحاكم ؛ لأنّا وجدنا سائر الأسباب الموجبة للتحريم المؤبد فإنها توجبه بوجودها غير مفتقرة فيه إلى حاكم ، مثل عقد النكاح الموجب لتحريم الأمّ والوَطْء الموجب للتحريم والرضاع والنسب ، كل هذه الأسباب لما تعلق بها تحريم مؤبد لم تفتقر إلى كونها عند الحاكم ، فلما لم يتعلق تحريم اللعان إلا بحكم الحاكم وهو أن يتلاعنا بأمره بحضرته ثبت أنه لا يوجب تحريماً مؤبداً . وأيضاً لو أكذب نفسه قبل الفرقة بعد اللعان لجُلِدَ الحدَّ ولم يفرق بينهما ، وأبو يوسف لا يخالفنا في ذلك لزوال حال التلاعن وبطلان حكمه بالحدّ الواقع به وجب مثله بعد الفرقة لزوال المعنى الذي من أجله وجبت الفرقة وهو حكم اللعان .
فإن قيل : لو كان كذلك لوجب أنه إذا أكذب نفسه بعد الفرقة وجُلِدَ الحدَّ أن يعود النكاح وتبطل الفرقة لزوال المعنى الموجب لها ، كما لا يفرق بينهما إذا أكذب نفسه بعد اللعان قبل الفُرْقَة . قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأنّا إنما جعلنا زوال حكم اللعان علّةً لارتفاع التحريم الذي تعلق به لا لبقاء النكاح ولا لعود النكاح ، فعلى أيّ وجه بطل لم يعد إلا بعقد مستقبل ؛ إلا أن الفرقة قد تعلق بها تحريم غير البينونة ، وذلك التحريم إنما يرتفع بارتفاع حكم اللعان ، كما أن الطلاق الثلاث توجب البينونة وتوجب أيضاً مع ذلك تحريماً لا يزول إلا بزوج ثانٍ يدخل بها ، فإذا دخل بها الزوج الثاني ارتفع التحريم الذي أوجبه الطلاق الثلاث ولم يعد نكاح الزوج الأوّل إلا بعد فراق الزوج الثاني وانقضاء العدة وإيقاع عقد مستقْبَلٍ . ودليل آخر ، وهو أن التحريم الواقع بالفُرْقة لما كان متعلقاً بحكم اللعان وجب أن يرتفع بزوال حكمه ، والدليل على ارتفاع حكم اللعان إذا أكذب نفسه وجُلد الحدَّ أنه معلوم أن اللعان حَدٌّ على ما بيّنا فيما سلف وبمنزلة الجلد في قاذف الأجنبيات ، وممتنع أن يجتمع عليه حَدَّان في قذف واحد ، فإيقاع الجَلْدِ لذلك القذف مخرجٌ للِّعان من أن يكون حدّاً ومزيلٌ لحكمه في إيجاب التحريم لزوال السبب الموجب له .
فإن قيل : فهذا الذي ذكرتَ يبطل حكم اللعان لامتناع اجتماع الحدَّيْنِ عليه بقذف واحد ، فواجب إذا جُلِد الزوج حدّاً في قذفه لغيرها أن لا يبطل حكم اللعان فيما بينهما فلا يتزوج بها . قيل له : إذا صار محدوداً في قذف فقد خرج من أن يكون من أهل اللعان ، ألا ترى أنه لو قذف امرأة له أخرى لم يلاعن وكان عليه الحدّ عندنا ؟ فالعلة التي ذكرنا في إكذابه نفسه فيما لاعن عليه امرأته وإن كانت غير موجودة في هذه فجائز قياسها عليها بمعنى آخر وهو خروجه من أن يكون من أهل اللعان .
فإن احتجوا بما رَوَى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين ، قال الزهري : " فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرّق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً " ، وبما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال : حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبدالله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذه القصة قال : " فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكان ما صنع عند النبي صلى الله عليه وسلم ، قال سهل : " حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضت السُّنَّةُ بعد في المتلاعِنَيْنِ أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً " ، وبحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " ، فإنها لو كانت تحلُّ له بحال لبيَّن كما بيَّن الله تعالى حكم المطلقة ثلاثاً في إباحتها بعد زوج غيره . قيل له : أما حديث الزهري الأول فإنه قول الزهري ، وقوله : " مضت السنّة " ليس فيه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَنَّها ولا أنه حكم بها ، وأما قول سهل بن سعد : " فمضت السنّة من بَعْدُ في المتلاعنين أنهما لا يجتمعان أبداً " ليس فيه أيضاً أن سنة النبي صلى الله عليه وسل مضت بذلك ؛ والسنة قد تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وقد تكون من غيره ، فلا حجة في هذا . وأيضاً فإنه قال في المتلاعنين ، وهذا يصفه حكم يتعلق به وهو بقاؤهما على حكم التلاعن وكونهما من أهل اللعان ، فمتى زالت الصفة بخروجهما من أن يكونا من أهل اللعان زال الحكم ، كقوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] ، وقوله : { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] ونحو ذلك من الأحكام المعلقة بالصفات ، ومتى زالت الصفة زال الحكم .
فإن قيل : قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المُتلاعِنَانِ لا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً " . قيل له : ما نعلم أحداً روى ذلك بهذا اللفظ ، وإنما رُوي ما ذكرنا في حديث سهل بن سعد وهو أصل الحديث ، فإن صح هذا اللفظ فإنما أخذه الراوي من حديث سهل وظنَّ أن هذه العبارة مبينة عما في حديث سهل ، ولو صحَّ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُفِدْ نَفْيَ النكاح بعد زوال حكم اللعان على النحو الذي بينا ؛ وأما قوله : " لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " فإنه لا يفيد تحريم النكاح وإنما هو إخبار بوقوع الفُرْقة ؛ لأنه لا يصح إطلاق القول بأنه لا سبيل لأحد على الأجنبيات ولا يفيد ذلك تحريم العقد .
فإن قيل : قوله : " لا سَبِيلَ لَكَ عليها " ينفي جواز العقد ، إذ كان جوازه يوجب أن يكون له عليها سبيل . قيل له : ليس كذلك ؛ لأنا قد نقول لا سبيل لك على الأجنبية ولا نريد به أن لا يجوز له تزويجها فيصير لك عليها سبيل بالتزويج ، وإنما نريد أنه لا يملك بُضْعَها في الحال ، فإذا تزوجها فإنما صار له عليها سبيل برضاها وعقدها ، ألا ترى أن قوله : { ما على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] لم يمنع أن يصير عليهم سبيلٌ في العقود المقتضية لإثبات الحقوق والسبيل عليه برضاه ؟ فكذلك قوله : " لا سبيل لك عليها " إنما أفاد أنه لا سبيل لك عليها إلا برضاها .
فصل
قال أبو بكر : واتفق أهل العلم أن الولد قد يُنْفَى من الزوج باللعان ، وقد ذكرنا حديث ابن عمر وابن عباس في إلحاق الولد بالأم وقَطْع نسبه من الأب باللعان نصّاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وحُكي عن بعض من شذَّ أنه للزوج ولا ينتفي نَسَبُه باللعان ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : " الوَلَدُ للفِرَاشِ " ؛ والذي قال : " الوَلَدُ للفِرَاشِ " هو الذي حكم بقطع النسب من الزوج باللعان ، وليست الأخبار المروية في ذلك بدون ما رُوي في أن الولد للفراش ، فثبت أن معنى قوله : " الوَلَدُ للفِرَاشِ " أنه لم يَنْتَفِ باللعان . وأيضاً فلما بطل ما كان أهل الجاهلية عليه من استلحاق النسب بالزنا ، كما حدثنا محمد بن بكر قال :ِ حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا عنسبة بن خالد قال : حدثني يونس بن يزيد قال : قال محمد بن مسلم بن شهاب : أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء : فنكاحٌ منها نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وَلِيَّتَهُ فيصدقها ثم ينكحها ؛ ونكاح آخر : كان الرجل يقول لامرأته : " إذا طهرت من طمثها أرسلي إليَّ فلان فاستبضعي منه " ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحبّ ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ، فكان هذا النكاح يسمَّى نكاح الاستبضاع ؛ ونكاح آخر : يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ومرَّ ليالٍ بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، فتقول لهم : " قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدتُ وهو ابنك يا فلان " فتسمّي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها ؛ ونكاح رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها ، وهنَّ البغايا كنَّ ينصبن رايات على أبوابهن يكن علماً ، فمن أرادهنّ دخل عليهن ، فإذا حملت فوضعت حملها جُمعوا لها ودعوا لهم القَافَةَ ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعا ابنه لا يمتنع من ذلك ، فلما بعث الله النبيَّ محمداً صلى الله عليه وسلم هَدَمَ نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهلِ الإسلام اليوم . فمعنى قوله عليه السلام : " الوَلَدُ للفِرَاشِ " أن الأنساب قد كانت تُلْحَقُ بالنُّطَفِ في الجاهلية بغير فراش ، فألحقها النبي صلى الله عليه وسلم بالفراش ؛ وكذلك ما رُوي في قصة زمعة حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الوَلَدُ للفِرَاشِ وللْعَاهِرِ الحَجَرُ " فلم يلحقه بالزاني ، وقال : هو للفراش ، إخباراً منه أنه لا ولد للزاني وردّه إلى عَبْدٍ إذ كان ابن أمة أبيه ، ثم قال لسودة : " احْتَجِبِي مِنْهُ " إذ كان سببها بالمدَّعَى له ، لأنه في ظاهره من ماء أخي سعد . وهذا يدل على أنه لم يَقْضِ في نسبه بشيء ، ولو كان قضى بالنسب لما أمرها بالاحتجاب بل كان أمرها بصلته ونهاها عن الاحتجاب عنه كما نهى عائشة عن الاحتجاب عن عمّها من الرضاعة وهو أفلح أخو أبي القعيس . ويدل على أنه لم يَقْضِ في نسبه بشيء ما رواه سفيان الثوري وجرير عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير عن عبدالله بن الزبير قال : كانت لزمعة جارية تبطنها وكانت تظن برجل آخر ، فمات زمعة وهي حبلى ، فولدت غلاماً كان يشبه الرجل الذي يظنّ بها ، فذكرته سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أَمَّا المِيرَاثُ لَهُ وأَمَّا أَنْتِ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فإِنَّهُ لَيْسَ لَكِ بأَخٍ " ، فصرَّح في هذا الخبر بنفي نسبه من زمعة وأعطاه الميراث بإقرار عبد أنه أخوه . وقد رُوي هذا الحديث على غير هذا الوجه ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ابن منصور ومسدد بن مسرهد قالا : حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أَمَةِ زمعة ، فقال سعد : أوصاني أخي عتبة إذا قدمتُ مكة أن أنظر إلى ابن أَمَةِ زمعة فأقبضه فإنه ابنه ، وقال عبد بن زمعة : أخي ابنُ أَمَةِ أبي وُلد على فراش أبي ؛ فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهاً بَيِّناً بعتبة فقال : " الوَلَدُ للفِرَاشِ واحْتَجِبِي مِنْهُ يا سَوْدَةُ " زاد مسدد : فقال : " هُوَ أَخُوكَ يا عَبْدُ " . قال أبو بكر : الصحيح ما رواه سعيد بن منصور ، والزيادة التي زادها مسدد ما نعلم أحداً وافقه عليها ؛ وقد رُوي في بعض الألفاظ أنه قال : " هُوَ لَكَ يا عَبْدُ " ، ولا يدل ذلك على أنه أثبت النسب ؛ لأنه جائز أن يريد به إثبات اليد له ، إذ كان من يستحق يداً في شيء جاز أن يُضاف إليه فيقال هو له ، وقد قال عبدالله بن رواحة لليهود حين خرص عليهم تمر خيبر : " إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي " ولم يُرِدْ به الملك ؛ ومعلوم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ بقوله : " هُوَ لَكَ يا عَبْدُ " إثبات الملك . فادَّعَى خَصْمُنا أنه أراد إثبات النسب ، وذلك لا يوجب إضافته إليه في الحقيقة على هذا الوجه ؛ لأن قوله : " هو لَكَ " إضافة المُلْكِ والأخُ ليس بملك ، فإذ لم يُرِدْ به الحقيقة فليس حَمْلُه على إثبات النسب بأوْلى مِن حمله على إثبات اليد . ويحتمل لو صحت الرواية أنه قال : " هُوَ أَخُوكَ " أن يريد به أُخُوَّة الدين وأنه ليس بعبد لإقراره بأنه حُرّ ، ويحتمل أن يكون أصل الحديث ما ذَكَرَ بعض الرواة أنه قال : " هُوَ لَكَ " وظنَّ الراوي أن معناه أنه أخوه في النسب ، فحمله على المعنى عنده في خبر سفيان وجرير الذي يرويه عبدالله بن الزبير أنه قال : " لَيْسَ لَكَ بأَخٍ " وهذا لا احتمال فيه ، فوجب حَمْلُ خبر الزهري الذي روينا على الوجوه التي ذكرنا .
قال أبو بكر : وقوله : " الوَلَدُ للفِرَاشِ " قد اقتضى معنيين ، أحدهما : إثبات النسب لصاحب الفراش ، والثاني : أن من لا فراش له فلا نسب له ؛ لأن قوله : " الولد " اسم للجنس ، وكذلك قوله : " الفراش " للجنس ، لدخول الألف واللام عليه ، فلم يَبْقَ وَلَدٌ إلا وهو مراد بهذا الخبر ، فكأنه قال : لا ولد إلا للفراش .
وفيما حكم الله تعالى به من آية اللعان دلالةٌ على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما ؛ لأنهما لو كان كفراً لوجب أن يكون أحد الزوجين مرتدّاً ، لأنه إن كان الزوجُ كاذباً في قَذْفِها فواجب أن يكون كافراً ، وإن كان صادقاً فواجب أن تكون المرأة كافرة بزناها ، وكان يجب أن تَبِينَ منه امرأته قبل اللعان ، فلما حكم الله تعالى فيهما باللعان ولم يحكم ببينونتها منه قبل اللعان ثبت أن الزنا والقذف ليسا بكفر ودلَّ على بطلان مذهب الخوارج في قولهم إن ذلك كفر . وتدل الآية أيضاً على أن القاذف مستحقٌّ للَّعْنِ من الله تعالى إذا كان في قذفه كاذباً ، وأن الزنا يستحق به الغضب من الله لولا ذلك لما جاز أن يأمرهما الله بذلك ، إذ غير جائز أن يُؤمر بأن يدعوا على أنفسهما بما لا يستحقانه ، ألا ترى أنه لا يجوز أن يدعو على نفسه بأن يظلمه الله ويعاقبه بما لا يستحقه ؟ .