قوله تعالى : { واللّذَانِ يَأْتِيَانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } ، فإنه رُوي عن الحسن وعطاء : " أن المراد الرجل والمرأة " . وقال السدي : " البِكْرَيْنِ من الرجال والنساء " . ورُوي عن مجاهد : " أنه أراد الرجلين الزانيين " . وهذا التأويل الأخير يقال إنه لا يصح ؛ لأنه لا معنى للتثنية ههنا ، إذ كان الوعد والوعيد إنما يجيئان بلفظ الجمع لأنه لكل واحد منهم ، أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الشامل لجميعهم ؛ وقول الحسن صحيح وتأويل السديّ محتمل أيضاً ، فاقتضت الآيتان بمجموعهما أن حَدَّ المرأة كان الأَذَى والحبس جميعاً إلى أن تموت ، وحَدَّ الرجل التعيير والضرب بالنعال ؛ إذ كانت المرأة مخصوصة في الآية الأولى بالحبس ومذكورة مع الرجل في الآية الثانية بالأذى فاجتمع لها الأمران جميعاً ، ولم يذكر للرجال إلا الأذَى فحسب . ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا معاً فأُفْرِدَتِ المرأةُ بالحبس وجُمِعا جميعاً في الأذى ، وتكون فائدة إفراد المرأة بالذكر إفرادها بالحبس إلى أن تموت وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل ، وجُمعت مع الرجل في الأذى لاشتراكهما فيه . ويحتمل أن يكون إيجابُ الحبس للمرأة متقدماً للأذى ، ثم زيد في حَدِّها وأوجب على الرجل الأذى ، فاجتمع للمرأة الأمران وانفرد الرجل بالأذى دونها . فإن كان كذلك فإن الإمساك في البيوت إلى الموت أو السبيل قد كان حَدَّها ، فإذا أُلحق به الأذى صار منسوخاً لأن الزيادة في النصّ بعد استقرار حكمه توجب النسخ ، إذ كان الحبس في ذلك الوقت جَمِيعُ حَدِّها ، ولما وردت الزيادة صار بعضَ حَدِّها ، فهذا يوجب أن يكون كون الإمساك حدّاً منسوخاً . وجائز أن يكون الأذى حَدّاً لهما جميعاً بديّاً ثم زيد في حَدِّ المرأة الحبسُ إلى الموت أو السبيل الذي يجعله الله لها ، فيوجب ذلك نَسْخَ الأذى في المرأة أن يكون حَدّاً لأنه صار بعضه بعد نزول الحبس ؛ فهذه الوجوه كلها محتملة .
فإن قيل : هل يحتمل أن يكون الحبس منسوخاً بإسقاط حكمه والاقتصار على الأذى إذا كان نازلاً بعده ؟ قيل له : لا يجوز نسخه على جهة رفع حكمه رأساً ، إذ ليس في إيجاب الأذى ما ينفي الحبس لجواز اجتماعهما ؛ ولكنه يكون نسخه من طريق أنه يصير بَعْضَ الحدِّ بعد أن كان جميعه ، وذلك ضرب من النسخ .
وقد قيل في ترتيب الآيتين وجهان ، أحدهما : ما رُوي عن الحسن أن قوله تعالى : { واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } نزلت قبل قوله تعالى : { واللاَّتي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } ، ثم أمر أن تُوضع في التلاوة بعده ، فكان الأذى حدّاً لهما جميعاً ، ثم الحبس للمرأة مع الأذى . و ذلك يبعد من وجه ؛ لأن قوله تعالى : { واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } " الهاء " التي في قوله : { يَأْتِيَانِهَا } كناية لا بدَّ لها من مظهر متقدم مذكور في الخطاب أو معهود معلوم عند المخاطب ، وليس في قوله تعالى : { واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ } دلالة من الحال على أن المراد الفاحشة ، فوجب أن تكون كناية راجعة إلى الفاحشة التي تقدم ذكرها في أوّل الآية ، إذ لو لم تكن كناية عنها لم يستقم الكلام بنفسه في إيجاب الفائدة وإعلام المراد ، وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى : { ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] وقوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] لأن من مفهوم ذكر الإنزال أنه القرآن ، وفي مفهوم قوله تعالى : { ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] أنها الأرض ، فاكتفى بدلالة الحال وعِلْمِ المخاطب بالمراد عن ذكر المكنيِّ عنه ؛ فالذي يقتضيه ظاهر الخطاب أن يكون ترتيبُ معاني الآيتين على حسب ترتيب اللفظ ، فإما أن تكونا نزلتا معاً وإما أن يكون الأذَى نازلاً بعد الحبس إن كان المراد بالأذى من أُرِيد بالحبس من النساء . والوجه الثاني : ما رُوي عن السُّديّ أن قوله تعالى : { واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ } إنما كان حكماً في البِكْرَيْنِ خاصةً ، والأُولى في الثيبات دون الأبكار . إلا أن هذا قول يوجب تخصيص اللفظ بغير دلالة ، وذلك غير سائغ لأحد مع إمكان استعمال اللفظين على حقيقة مقتضاهما ؛ وعلى أيّ وجه تصرفت وجوه الاحتمال في حكم الآيتين وترتيبهما فإن الأمّة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين .
واختلف أيضاً فيما نسخ هذين الحكمين ، فقال قائلون : نُسخ بقوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] ، وقد كان قوله تعالى : { واللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ } في البكرين ، فنُسِخَ ذلك عنهما بالجلد المذكور في هذه الآية ، وبقي حكم الثيب من النساء الحبس فنسخ بالرجم . وقال آخرون : نُسخ بحديث عبادة بن الصامت ، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو النصر عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن حِطّان بن عبدالله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي ! قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً ، البِكْرُ بِالبِكْرِ والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ ، البِكْرُ تُجْلَدُ وتُنْفَى والثَّيِّبُ تُجْلَدُ وتُرْجَمُ " . وهذا هو الصحيح ؛ وذلك لأن قوله : " خذوا عنِّي قد جعل الله لهن سبيلاً " يوجب أن يكون بياناً للسبيل المذكور في الآية ، ومعلوم أنه لم يكن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحبس والأذى واسطة حكم ، وأن آية الجلد التي في سورة النور لم تكن نزلت حينئذ ؛ لأنها لو كانت نزلت كان السبيل متقدماً لقوله : " خذوا عنّي قد جعل الله لهن سبيلاً " ولما صح أن يقول ذلك ؛ فثبت بذلك أن الموجب لنسخ الحبس والأذى قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت ، وأن آية الجلد نزلت بعده . وفي ذلك دليل على نَسْخِ القرآن بالسنة ، إذ نَسَخَ بقوله : " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً " ما أوْجَبَ الله من الحبس والأذى بنصّ التنزيل .
فإن قيل : فقوله تعالى : { واللّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ } وما ذُكِرَ في الآيتين من الحبس والأذى كان في البِكْرَيْنِ دون الثَّيبين . قيل له : لم يختلف السلف في أن حكم المرأة الثيب كان الحبس ، وإنما قال السدي إن الأذى كان في البكرين خاصة ؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبيل المذكور في آية الحبس وذلك لا محالة في الثَّيِّبِ ، فأوجب أن يكون منسوخاً بقوله : " الثَّيب بالثيب الجلد والرجم " ، فلم يَخْلُ الحبسُ من أن يكون منسوخاً في جميع الأحوال بغير القرآن ، وهي الأخبار التي فيها إيجاب رَجْمِ المحصن ؛ فمنها حديث عبادة الذي ذكرنا ، وحديث عبدالله وعائشة وعثمان حين كان محصوراً فاستشهد أصحابَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَحِلُّ دَمُ امرىءٍ مُسْلِمٍ إلا بإِحْدَى ثلاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إيمانٍ وزِناً بعد إِحْصَانٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ بغير نفسٍ " ، وقصة ماعز والغامدية ورَجْم النبي صلى الله عليه وسلم إياهما قد نقلته الأمة لا يتمارون فيه .
فإن قيل : هذه الخوارج بأسْرِها تنكر الرجم ، ولو كان ذلك منقولاً من جهة الاستفاضة الموجبة للعلم لما جَهِلَتْه الخوارج . قيل له : إن سبيل العلم بمُخْبَرِ هذه الأخبار السماع من ناقليها وتعرّفه من جهتهم ، والخوارج لم تجالس فقهاء المسلمين وَنَقَلَةَ الأخبار منهم وانفردوا عنهم غير قابِلِين لأخبارهم ؛ فلذلك شكّوا فيه ولم يُثْبِتُوه . وليس يمتنع أن يكون كثير من أوائلهم قد عرفوا ذلك من جهة الاستفاضة ثم جَحَدُوه محاملةً منهم على ما سبقوا إلى اعتقاده من ردِّ أخبار من ليس على مقالتهم ، وقَلَّدهم الأتباع ولم يسمعوا من غيرهم فلم يقع لهم العلم به ، أو الذين عرفوه كانوا عدداً يسيراً يجوز على مثلهم كتمانُ ما عرفوه وجحدوه ، ولم يكونوا صحابة فيكونوا قد عرفوه من جهة المعاينة أو بكثرة السماع من المعاينين له ، فلما خَلَوْا من ذلك لم يعرفوه ؛ ألا ترى أن فرائض صدقات المواشي منقولة من جهة النقل المستفيض الموجب للعلم ولا يعرفها إلا أحد رجلين إما فقيه قد سمعها فثبت عنده العلم بها من جهة الناقلين لها وإما رجل صاحب مواشٍ تكثر بَلْوَاهُ بوجوبها فيتعرفها ليعلم ما يجب عليه فيها ؟ ومثله أيضاً إذا كثر سماعه وقع له العلم بها ، وإن لم يسمعها إلا من جهة الآحاد لم يعلمها ؛ وهذا سبيل الخوارج في جحودهم الرجم وتحريم تزويج المرأة على عمتها وخالتها وما جرى مجرى ذلك مما اخْتُصَّ أهل العدل بنقله دون الخوارج والبغاة .
وقد تضمنت هاتان الآيتان أحكاماً : منها استشهاد أربعة من الشهداء على الزنا . ومنها الحبس للمرأة والأذى للرجل والمرأة جميعاً . ومنها سقوط الأذى والتعبير عنهما بالتوبة ، لقوله تعالى : { فإنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } وهذه التوبة إنما كانت مؤثرة في إسقاط الأذى دون الحبس ، وأما الحبس فكان موقوفاً على ورود السبيل ، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك السبيل وهو الجلد والرجم ، ونسخ جميع ما ذكر في الآية إلا ما ذكر من استشهاد أربعة شهود ، فإنّ اعتبار عدد الشهود باقٍ في الحدّ الذي نسخ به الحدّان الأوّلان وهو الجلد والرجم ، وقد بيَّن الله ذلك في قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [ النور : 4 ] .
وقال تعالى : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } [ النور : 13 ] ، فلم ينسخ اعتبار العدد ولم ينسخ الاستشهاد أيضاً ، وهذا يوجب جواز إحضار الشهود والنظر إلى الزانيين لإقامة الحدّ عليهما ؛ لأن الله تعالى أمر بالاستشهاد على الزنا وذلك لا يكون إلا بتعمد النظر ، فدل ذلك على أن تَعَمُّدَ النظر إلى الزانيين لإقامة الحدّ عليهما لا يسقط شهادته ؛ وكذلك فعل أبو بكر مع شِبْل بن مَعْبَد ونافع بن الحارث وزياد في قصة المغيرة بن شعبة ، وذلك موافق لظاهر الآية .