باب تحريم نكاح ذوات الأزواج :
قال الله تعالى : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ } عطفاً على من حَرَّم من النساء من عند قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمَّهَاتُكُمْ } ؛ فروى سفيان عن حماد عن إبراهيم عن عبدالله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قال : " ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين " . وقال علي بن أبي طالب : " ذوات الأزواج من المشركين " . وقد رَوَى سعيد بن جبير عن ابن عباس : " كل ذات زوج إتْيَانُها زِناً إلا ما سَبَيْتَ " .
قال أبو بكر : اتفق هؤلاء على أن المراد بقوله تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } ذواتُ الأزواج منهن وأن نكاحها حرام ما دامت ذات زوج ، واختلفوا في قوله تعالى : { إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، فتأوَّله عليٌّ وابنُ عباس في روايةٍ ، وعُمَرُ وعبدُالرحمن بن عوف وابن عمر : أن الآية إنما وردت في ذوات الأزواج من السبايا أُبِيحَ وَطْؤُهُنَّ بملكِ اليمين ، ووجب بحدوث السَّبْي عليها دون زوجها وُقوعُ الفرقة بينهما ؛ وكانوا يقولون : إنّ بَيْعَ الأَمَةِ لا يكون طلاقاً ولا يبطل نكاحها . وتأوله ابن مسعود وأبيّ بن كعب وأنس بن مالك وجابر بن عبدالله وابن عباس في رواية عكرمة : أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهم ؛ وكانوا يقولون : بَيْعُ الأَمَةِ طلاقُها . وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن عمر ميسرة قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري : " أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أَوْطَاسَ ، فلقوا عدوّاً فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا منهم سبايا لهن أزواج من المشركين ، فكان المسلمون يتحرَّجون من غشيانهن ، فأنزل الله تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي هنَّ لكم حلال إذا انقضت عدتهن " . وقد ذكر أن أبا علقمة هذا رجل جليل من أهل العلم ، وقد رَوَى عنه يَعْلَى بن عطاء ، وَرَوَى هو هذا الحديث عن أبي سعيد ، وله أحاديث عن أبي هريرة . وهذا حديث صحيح السند قد أخبر فيه بسبب نزول الآية وأنها في السبايا ، وتأوّلها ابن مسعود ومن وَافَقَهُ على جميع النساء ذوات الأزواج إذا مُلِكْنَ حَلَّ وَطْؤُهنّ لمالكهن ووقعت الفرقة بينهن وبين أزواجهن .
فإن قيل : أنتم لا تعتبرون السبب وإنما تُرَاعُون حكم اللفظ إن كان عامّاً فهو على عمومه حتى تقوم دلالة الخصوص ، فهلا اعتبرت ذلك في هذه الآية وجعلتها على العموم في سائر من يطرأ عليه الملك من النساء ذوات الأزواج فينتظم السبايا وغيرهن ! قيل له : الدلالة ظاهرة في الآية على خصوصها في السبايا ، وذلك لأنه قال : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، فلو كان حدوث الملك موجباً لإيقاع الفرقة لوجب أن تقع الفرقة بينهما وبين زوجها إذا اشترتها امرأة أو أخوها من الرضاعة لحدوث الملك .
فإن قيل : جائز أن يقال ذلك في سائر ما طرأ عليهن الملك ، سواءٌ كان حدوث الملك سبباً لإباحة الوطء أو لم يكن بأن تملكها امرأة أو رجل لا يحل له وطؤها . قيل له : فشأن الآية إنما هو فيمن حَدَثَ له ملكُ اليمين فأباحت له وَطْأَها ؛ لأنه استثناء بملك اليمين في حَظْرِ وَطْءِ المحصنات من النساء ، فواجب على ذلك أنه إذا لم يَسْتَبِح المالكُ وَطْأَها بملك اليمين أن تكون الزوجية قائمة بينها وبين زوجها بحكم الآية ، وإذا وجب ذلك بحكم الآية وجب أن يكون قوله تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } خاصّاً في السبايا ، ويكون السبب الموجب للفرقة اختلاف الدارين لا حدوث الملك . ويدل على أن حدوث الملك لا يوجب الفرقة ما رَوَى حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة : أنها اشترت بريرة فأعتقها وشَرَطَتْ لأهلها الولاءَ ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " وقال لها : " يا بَرِيرَةُ اخْتَارِي فالأَمْرُ إِلَيْكِ " ؛ ورواه سِمَاك عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة مثله . وروى قتادة عن عكرمة عن ابن عباس : " أَن زوج بريرة كان عبداً أسْوَدَ يُسَمَّى مُغِيثاً ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أن الولاء لمن أعطى الثمن وخَيَّرَها " .
فإن قيل : فقد رَوَى ابنُ عباس في أمر بَرِيرَةَ ما رَوَى ، ثم قال بعد ذلك : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بَيْعُ الأَمَةِ طَلاقُهَا " فينبغي أن يَقْضي قولُه هذا على ما رواه ؛ لأنه لا يجوز أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه . قيل له : قد رُوي عن ابن عباس أن الآية نزلت في السبايا وأن بَيْعَ الأَمَةِ لا يُوقِعُ فرقةً بينها وبين زوجها ، فجائز أن يكون الذي ذَكَرْتَ عنه من أن بَيْعَ الأَمَةِ طلاقها كان يقول قبل أن تثبت عنده قصة بريرة وتخييرِ النبي صلى الله عليه وسلم إياها بعد الشِّرَى ، فلما سمع بقصة بريرة رجع عن قوله . وأيضاً يحتمل أن يريد بقوله : " بيع الأمة طلاقها " إذا اشتراها الزوج ولا يبقى النكاح مع الملك . والنظر يدل على أن بيع الأَمَةِ ليس بطلاق ولا يوجب الفرقة ؛ وذلك لأن الطلاق لا يملكه غير الزوج ولا يصحّ إلا بإيقاعه أو بسبب من قِبَلِهِ ، فلما لم يكن من الزوج في ذلك سَبَبٌ وجب أن لا يكون طلاقاً . ويدل أيضاً على ذلك أن ملك اليمين لا ينافي النكاح ؛ لأن الملك موجود قبل البيع غير نافٍ للنكاح ، فكذلك ملك المشتري لا ينافيه .
فإن قيل : لما طرأ ملك المشتري ولم يكن منه رِضًى بالنكاح وجب أن ينفسخ . قيل له : هذا غلطٌ ؛ لأنه قد ثبت أن الملك لا ينافي النكاح ، والمعنى الذي ذكرت إن كان معتبراً فإنما يوجب للمشتري خياراً في فسخ النكاح ، وليس هذا قول أحد ؛ لأن عبدالله بن مسعود ومن تابعه يوجبون فَسْخَ النكاح بحدوث الملك .
واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سُبِيا معاً ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزُفَر : " إذا سُبي الحربيّان معاً وهما زوجان فهما على النكاح ، وإن سُبي أحدهما قبل الآخر وأُخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة " ، وهو قول الثوري . وقال الأوزاعي : " إذا سُبِيَا جميعاً فما كانا في المقاسم فهما على النكاح ، فإذا اشتراهما رجل فإن شاء جمع بينهما وإن شاء فرق بينهما فاتخذها لنفسه أو زَوَّجَها غيره بعدما يستبرئها بحيضة " ، وهو قول الليث بن سعد . وقال الحسن بن صالح : " إذا سُبِيَتْ ذَاتُ زوج استُبْرِئَتْ بحَيْضَتَيْنِ ؛ لأن زوجها أَحَقُّ بها إذا جاء في عدتها ، وغير ذات الأزواج بحيضة " . وقال مالك والشافعي : " إذا سُبِيَتْ بَانَتْ من زوجها سواءٌ كان معها زوجها أو لم يكن " .
قال أبو بكر : قد ثبت أن حدوث الملك غير موجب للفرقة ، بدلالة الأمَةِ المَبِيعَةِ والموروثة ، فوجب أن لا تقع الفرقة بالسبي نفسه ؛ لأنه ليس فيه أكثر من حدوث الملك . ودليل آخر ، وهو أن حدوث الرِّقِّ عليها لا يمنع ابتداء العقد ، فَلأَنْ لا يمنع بقاءَه أوْلى ؛ لأن البقاء هو آكد في ثبوت النكاح معه من الابتداء ، ألا ترى أنه قد يمنع الابتداء ما لا يمنع البقاء وهو حدوث العدة عليها من وَطْءِ بشُبْهَةٍ يمنع ابتداء العقد ولا يمنع بقاء العقد المتقدم ؟ فإن احتجوا بحديث أبي سعيد الخدري في قصة سبايا أوْطَاسَ وسبب نزول الآية عليها وهو قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، لم يفرق بين من سُبِيَتْ مع زوجها أو وحدها . قيل له : رَوَى حمادٌ قال : أخبرنا الحجاج عن سالم المكّي عن محمد بن علي قال : " لما كان يَوْمُ أَوْطَاسَ لَحِقَتِ الرجالُ بالجبال وأُخِذَتِ النساءُ ، فقال المسلمون : كيف نصنع ولهن أزواج ؟ فأنزل الله تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ؛ فأخبر أن الرجال لحقوا بالجبال وأن السبايا كنَّ منفردات عن الأزواج والآية فيهن نزلت . وأيضاً لم يأسر النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة حُنَيْنٍ من الرجال أحداً فيما نقل أهل المغازي ، وإنما كانوا من بين قتيل أو مهزوم . وسَبَى النساءَ ، ثم جاءه الرجالُ بعدما وضعت الحرب أوزارها فسألوه أن يَمُنَّ عليهم بإطلاق سباياهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أمَّا ما كَانَ لي ولبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ " وقال للناس : " مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَذَاكَ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فلَهُ خَمْسُ فَرَائِضَ في كلِّ رَأْسٍ " وأطلق الناس سباياهم ، فثبت بذلك أنه لم يكن مع السبايا أزواجهن .
فإن احتجوا بعموم قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، لم يخصّصْ من معهن أزواجهن والمنفردات منهن . قيل له : قد اتفقنا على أنه لم يَرِدْ عموم الحكم في إيجاب الفرقة بالملك ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بشِرَى الأَمَةِ وهِبَتِها بالميراث وغيره من وجوه الأملاك الحادثة ، فلما لم يكن ذلك كذلك علمنا أن الفرقة لم تتعلق بحدوث الملك وكان ذلك دليلاً على مراد الآية ؛ وذلك لأنه إذا لم يَخْلُ مراد الله تعالى في المعنى الموجب للفرقة في المسبية من أحد وجهين : إما اختلاف الدارين بهما ، أو حدوث الملك ، ثم قامت دلالة السنة واتفاق الخصم معنا على نَفْي إيجاب الفرقة بحدوث الملك ، قَضَى ذلك على مراد الآية بأنه اختلاف الدارين ، وأوجب ذلك خصوص الآية في المَسْبِيَّاتِ دون أزواجهن .
ويدل على أن المعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الدارين ، أنهما لو خرجا مُسْلِمَيْنِ أو ذِمَّيَّيْنِ لم تقع بينهما فرقة ؛ لأنهما لم تختلف بهما الداران ، فدل ذلك على أن المعنى الموجب للفرقة بين المسبية وزوجها إذا كانت منفردة اختلافُ الدارين بهما ؛ ويدل عليه أن الحربية إذا خرجت إلينا مسلمة أو ذمية ثم لم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف ، وقد حكم الله تعالى بذلك في المهاجرات في قوله : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن آجورهن } [ الممتحنة : 10 ] ثم قال : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يقتضي إباحة الوطء بملك اليمين لوجود الملك ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رُوي عنه ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس : " لا توطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسحاق قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حَنَشٍ الصنعاني عن رُوَيْفع بن ثابت الأنصاري قال : قام فينا خطيباً فقال : أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين : " لا يَحلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أن يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ حتَّى يَسْتَبْرِئها بحَيْضَةٍ " . قال أبو داود : ذِكْرُ الاستبراء ههنا وَهمٌ من أبي معاوية ، وهو صحيح في حديث أبي سعيد . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا النفيلي قال : حدثنا مسكين قال : حدثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن أبي الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ، فرأى امرأة مُجحّاً فقال : " لَعَلَّ صَاحِبَها أَلَمَّ بِهَا ؟ " قالوا : نعم ، قال : " لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ ألْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ في قبْرِهِ ، كَيْفَ يُورِثُهُ وهو لا يحلُّ له وكَيْفَ يَسْتَخْدِمُه وهُوَ لا يحلُّ له " . فهذه الأخبار تمنع من استحدث ملكاً في جارية أن يطأها حتى يستبرئها إن كانت حائلاً ، وحتى تَضَعَ حَمْلَها إن كانت حاملاً ؛ وليس بين فقهاء الأمصار خلافٌ في وجوب استبراء المَسْبِيَّةِ على ما ذكرنا ؛ إلا أن الحسن بن صالح قال : " عليها العدّةُ حَيْضَتَيْنِ إذا كان لها زوج في دار الحرب " ، وقد ثبت بحديث أبي سعيد الذي ذكرنا الاستبراء بحيضة واحدة ، وليس هذا الاستبراء بعدّة لأنها لو كانت عدّة لفرَّقَ النبي صلى الله عليه وسلم بين ذوات الأزواج منهن وبين من ليس لها زوج منهن ؛ لأن العدة لا تجب إلا عن فراش ، فلما سَوَّى النبي صلى الله عليه وسلم بين من كان لها فراش وبين من لم يكن لها فراش دلّ ذلك على أن هذه الحيضة ليست بعدة .
فإن قيل : قد ذكر في حديث أبي سعيد الذي ذكرتَ : " إذا انقضت عدتهن " فجعل ذلك عدة . قيل له : يجوز أن تكون هذه اللفظة من كلام الراوي تأويلاً منه للاستبراء أنه عدة ، وجائز أن تكون العدة لما كان أصْلُها استبراء الرحم أجْري اسمُ العدَّة على الاستبراء على وجه المجاز .
قال أبو بكر : وقد رُوي في قوله تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } تأويلٌ آخر : روى زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : " ذوات الأزواج " ورجع ذلك إلى قوله : حرم الله الزنا . وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قال : " فزوجتك مما ملكت يمينك " ، يقول : حرم الله تعالى الزنا ، لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قال : " نَهْيٌ عن الزنا " . وعن عطاء بن السائب قال : " كل محصنة عليك حرام إلا امرأة تملكها بنكاح " . قال أبو بكر : وكأن تأويلها عند هؤلاء أن ذوات الأزواج حرام إلا على أزواجهن ؛ وليس يمتنع أن يكون ذلك من مراد الله تعالى بالآية لاحتمال اللفظ له ، وذلك لا يمنع إرادة المعاني التي تأولها الصحابة عليها من إباحة وَطْءِ السبايا اللاتي لهن أزواج حَرْبِيُّون فيكون محمولاً على الأمرين ، والأظهر أن ملك اليمين هي الأَمَةُ دون الزوجات ؛ لأن الله قد فرق بينهما ، فقال الله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 5 و 6 ] فجعل ملك اليمين غير الزوجات ؛ والإطلاق إنما يتناول الإماءَ المملوكات دون الزوجات ، وهي كذلك في الحقيقة ، لأن الزوج لا يملك من زوجته شيئاً وإنما له منها استباحة الوطء ومنافع بُضْعِها في ملكها دونه ، ألا ترى أنها لو وُطِئَتْ بشبهة وهي تحت زوج كان المهر لها دونه ؟ فدل ذلك على أنه لا يملك من زوجته شيئاً ، فوجب أن يحمل قوله تعالى : { إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } على من يملكها في الحقيقة وهي المسبية .
قوله تعالى : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } رُوِيَ عن عبيدة قال : " أربع " . وإنما نُصِبَ " كِتَابَ الله " لأنهم يقولون : إن معنى " كتاب الله عليكم " أي كَتَبَ اللَّهُ عليكم ذلك ؛ وقيل : معناه حرَّم ذلك كتاباً من الله عليكم ؛ وهذا تأكيد لوجوبه وإخبارٌ منه لنا بفرضه ، لأن الكتاب هو الفرض .
قوله تعالى : { وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } رُوي عن عبيدة السلماني والسُّدّي : " أُحِلَّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح " . وقال عطاء : " أُحِلَّ لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم " . وقال قتادة : { مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } : " مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم " . وقيل : " ما وراء ذوات المحارم وما وراء الزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحاً أو ملك يمين " . قال أبو بكر : هو عام فيما عدا المحرمات في الآية وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
باب المهور :
قال الله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ } فعقد الإباحة بشريطة إيجاب بدل البُضْعِ وهو مال ؛ فدل ذلك على معنيين ، أحدهما : أن بدل البضع واجب أن يكون ما يستحق به تسليم مال ، والثاني : أن يكون المهر ما يسمَّى أموالاً ؛ وذلك لأن هذا خطاب لكل أحد في إباحة ما وراء ذلك أن يبتغي البُضْعَ بما يسمى أموالاً ، كقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } خطاب لكل أحد في تحريم أمهاته وبناته عليه ، وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز أن يكون المهر الشيء التافه الذي لا يسمَّى أموالاً .
واختلف الفقهاء في مقدار المهر ، فرُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال : " لا مهر أقلّ من عشرة دراهم " ، وهو قول الشعبي وإبراهيم في آخرين من التابعين ، وقول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد . وقال أبو سعيد الخدري والحسن وسعيد بن المسيب وعطاء : " يجوز النكاح على قليل المهر وكثيره " . وتزوج عبدالرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب ، فقال بعض الرواة : قيمتها ثلاثة دراهم وثلث ، وقال آخرون : النواة عشرة أو خمسة . وقال مالك : " أقل المهر ربع دينار " . وقال ابن أبي ليلى والليث والثوري والحسن بن صالح والشافعي : " يجوز بقليل المال وكثيره ولو درهم " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } يدلّ على أن ما لا يسمَّى أموالاً لا يكون مهراً وأن شرطه أن يسمَّى أموالاً ، هذا مقتضى الآية وظاهرها ، ومن كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده أموال ، فلم يصح أن يكون مهراً بمقتضى الظاهر . فإن قيل : ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال وقد أجزتها مهراً . قيل له : كذلك يقتضي الظاهر ، لكن أَجَزْنَاهَا بالاتفاق ، وجائز تخصيص الآية بالإجماع ؛ وأيضاً قد رَوَى حرامُ بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا مهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ " . وقال علي بن أبي طالب : " لا مهر أقل من عشرة دراهم " . ولا سبيل إلى معرفة هذا الضرب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى من طريق الاجتهاد والرأي ، وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق ؛ وتقديره العشرة مهراً دون ما هو أقل منها يدل على أنه قاله توقيفاً ، وهو نظير ما رُوي عن أنس في أقلّ الحيض أنه ثلاثة أيام وأكثره عشرة ، وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي في أكثر النفاس أنه أربعون يوماً ؛ أن ذلك توقيفٌ ، إذْ لا يقال في مثله من طريق الرأي ؛ وكذلك ما رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إذا قعد في آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمّت صلاته ، فدل تقديره للفرض بمقدار التشهد أنه قاله من طريق التوقيف .
وقد احتج بعض أصحابنا لاعتبار العشرة أن البُضْعَ عضوٌ لا تجوز استباحته إلا بمال فأشْبَهَ القَطْعَ في السرقة ، فلما كانت اليد عضواً لا تجوز استباحته إلا بمال وكان المقدار الذي يستباح به عشرة على أصلهم ، فكذلك المهر يعتبر به . وأيضاً لما اتفق الجميع على أنه لا تجوز استباحة البُضع بغير بدل واختلفوا فيما تجوز استباحته به من المقدار ، وجب أن يكون باقياً على الحظر في منع استباحته إلا بما قام دليل جوازه ، وهو العشرة المتفق عليها وما دونها مختلف فيه ، فالبُضْعُ باقٍ على حكم الحظر . وأيضاً لما لم تَجُزِ استباحَتُه إلا ببدل كان الواجب أن يكون البدل الذي به يصح قيمة البضع هو مهر المثل وأن لا يحطّ عنه شيء إلا بدلالة ، ألا ترى أنه لو تزوجها على غير مهر لكان الواجب لها مهر مثلها ؟ وفي ذلك دليل على أن عقد النكاح يوجب مهر المثل ، فغير جائز إسقاط شيء من موجبه إلا بدلالة ، وقد قامت دلالة الإجماع على جواز إسقاط ما زاد على العشرة واختلفوا فيما دونه ، فوجب أن يكون واجباً بإيجاب العقد له إذْ لم تقم الدلالة على إسقاطه .
فإن قيل : لما قال الله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } [ البقرة : 237 ] اقتضى ذلك إيجابَ نصف الفرض قليلاً كان أو كثيراً . قيل له : لما ثبت بما ذكرنا أن المهر لا يكون أقل من عشرة دراهم كانت تَسْمِيَتُهُ لبعض العشرة تسمية لها ، كسائر الأشياء التي لا تتبعَّضُ تكونُ تسميته لبعضها تسمية لجميعها ، كالطلاق والنكاح ونحوهما ؛ وإذا كانت العشرة لا تتبعّض في العقد صارت تسميته لبعضها تسمية لجميعها ، فإذا طلّقها قبل الدخول وجب لها نصف العشرة لأن العشرة هي الفرض ، ألا ترى أنه لو طلق امرأته نصف تطليقة كان مطلِّقاً لها تطليقة كاملة ، ولو طلَّق نِصْفَها كان مطلقاً لجميعها ؟ وكذلك لو عفا عن نصف دم عمد كان عافياً عن جميعه ؟ فلما كان ذلك كذلك وجب أن تكون تسميته لخمسة تسمية العشرة ، لقيام الدلالة على أن العشرة لا تتبعَّضُ في عقد النكاح ، فمتى أَوْجَبْنَا بعد الطلاق خمسةً كان ذلك نصف الفرض . وأيضاً فإنا نوجب نصف المفروض فلسنا مخالفين لحكم الآية ، ونوجب الزيادة إلى تمام الخمسة بدلالة أخرى ، وإنما كان يكون مذهبنا خلاف الآية لو لم نوجب نصف الفرض ، فأما إذا أوجبناه وأوجبنا زيادة عليه بدلالة أخرى فليس في ذلك مخالفة للآية .
واحتج من أجاز أن يكون المهرُ أقلَّ من عشرة بحديث عامر بن ربيعة : أن امرأة جيءَ بها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد تزوجت رجلاً على نعلين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ ؟ " قالت : نعم ، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبحديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ أَعْطَى امْرَأَةً فِي نَكَاحٍ كَفَّ دَقِيقٍ أَو سَوِيقٍ أو طَعَاماً فَقَدِ اسْتَحَلَّ " . وبحديث الحجاج بن أرطاة عن عبدالملك بن المغيرة الطائفي عن عبدالرحمن بن السلماني قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أَنْكِحُوا الأيامَى مِنْكُمْ ! " فقالوا : يا رسول الله وما العلائق بينهما ؟ قال : " مَا تَرَاضَى به الأَهْلُونَ " . وبما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ " ؛ وأن عبدالرحمن بن عوف تزوج على وزن نواة من ذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ " ولم ينكر ذلك عليه . وبحديث أبي حازم عن سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم قد وهبت نفسي لك يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا لِي بالنِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ " ، فقال له رجل : زَوِّجْنِيها ! فقال : " هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُها إيّاه ؟ " فقال : إزاري هذا . فقال : " إنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ جَلَسْتَ ولا إزَارَ لَكَ " ، إلى أن قال : " الْتَمِسْ ولو خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ " ؛ فأجاز أن يكون المهر خاتماً من حديد ، وخاتمٌ من حديد لا يساوي عشرة .
والجواب عن إجازته النكاح على نَعْلَيْنِ أن النعلَيْن قد يجوز أن تُساويا عشرة دراهم أو أكثر ، فلا دلالة فيه على موضع الخلاف ؛ لأنه تزوجها على نعلين ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وجائز أن يكون قيمتهما عشرة أو أكثر ، وليس بعُمُوم لَفْظٍ في إباحة التزويج على نعلين أيّ نعلين كانتا ، فلا دلالة فيه على قول المخالف . وأَيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بجواز النكاح ، وجوازُ النكاح لا يدلّ على أنه هو المهر لا غيره ؛ لأنه لو تزوجها على غير مهر لكان النكاح جائزاً ؛ ولم يدل جواز النكاح على أن لا شيء لها ، كذلك جواز النكاح على نعلين قيمتهما أقل من عشرة دراهم لا دلالة فيه على أنه لا يجب غيرهما . وأما قوله : " مَنْ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ أو بكَفِّ دَقِيقٍ فَقَدِ اسْتَحَلَّ " فإنه إخبارٌ عن ملك البُضْعِ ، ولا دلالة فيه على أنه لا يجب غيره . وكذلك حديث عبدالرحمن في تزوجه على وزن نواة من ذهب ، وعلى أنه قد رُوي في الخبر أن قيمتها كانت خمسة أو عشرة . وأما قوله : " العَلاَئِقُ مَا تَرَاضَى به الأَهْلُونَ " فإنه محمول على ما يجوز مثله في الشرع ، ألا ترى أنهم لو تَرَاضَوْا بخمر أو خنزير أو شغار لما جاز تراضيهما ؟ كذلك في حكم التسمية يكون مرتباً على ما ثبت حكمه في الشرع من تسمية العشرة . وأما حديث سهل بن سعد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَهُ بتعجيل شيء لها ، وعلى ذلك كان مخرج كلامه ؛ لأنه لو أراد ما يصح به العقد من التسمية لاكتفى بإثباته في ذمته ما يجوز به العقد عن السؤال عما يعجل ، فدلّ ذلك على أنه لم يُرِدْ به ما يصح مهراً ، ألا ترى أنه لما لم يجد شيئاً قال : " زَوَّجْتُكَهَا بما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ " وما معه من القرآن لا يكون مهراً ؟ فدل ذلك على صحة ما ذكرنا .
واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة على خدمته سنة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف : " إذا تزوج امرأة على خدمته سنة فإن كان حرّاً فلها مهر مثلها ، وإن كان عبداً فلها خدمته سنة " . وقال محمد : " لها قيمة خدمته إن كان حرّاً " . وقال مالك : " إذا تزوجها على أن يؤاجرها نفسه سنة أو أكثر أو أقل ويكون ذلك صداقها فإنه يفسخ النكاح إن لم يدخل بها ، وإن دخل بها ثبت النكاح " . وقال الأوزاعي : " إذا تزوجها على أن يُحِجَّها ثم طلّقها قبل أن يدخل بها فهو ضامن لنصف حَجِّها من الحِمْلانِ والكِسْوَةِ والنفقة " . وقال الحسن بن صالح والشافعي : " النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتاً معلوماً " . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : " إذا تزوجها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهراً ولها مهر مثلها " ، وهو قول مالك والليث ؛ وقال الشافعي : " يكون ذلك مهراً لها ، فإن طلّقها قبل الدخول رجع عليها بنصف أجرة التعليم إن كان قد علمها " ، وهي رواية المزني ، وحكى الربيع عنه أنه يرجع عليها بنصف مهر مثلها . قال أبو بكر : قوله تعالى : { وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ } قد اقتضى أن يكون بَدَلُ البُضْعِ ما يستحق به تسليم مال ؛ لأن قوله : { أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ } يحتمل معنيين ، أحدهما : تمليك المال بدلاً من البضع ، والآخر : تسليمه لاستيفاء منافعه ، فدلّ ذلك على أن المهر الذي يُمْلَكُ به البُضْعُ إما أن يكون مالاً أو منافع في مال يستحق بها تسليمه إليها ، إذْ كان قوله : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } يشتمل عليهما ويقتضيهما .
ويدل على أن المهر حكمه أن يكون مالاً قولُه تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] وذلك لأن قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] أَمْرٌ يقتضى ظاهرُه الإيجابَ ، ودلّ بفحواه على أن المهر ينبغي أن يكون مالاً من وجهين ، أحدهما : قوله : { وآتوا } [ النساء : 4 ] معناه : أعطوا ، والإعطاء إنما يكون في الأعيان دون المنافع ، إذِ المنافعُ لا يتأَتَّى فيها الإعطاءُ على الحقيقة ؛ والثاني : قوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] ، وذلك لا يكون في المنافع وإنما هو في المأكول أو فيما يمكن صَرْفُه بعد الإعطاء إلى المأكول ؛ فدلّت هذه الآية على أن المنافع لا تكون مهراً .
فإن قيل : فهذا يوجب أن لا تكون خدمة العبد مهراً . قيل له : كذلك اقتضى ظاهر الآية ولولا قيام الدلالة لما جاز ، ويدل عليه نَهْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار ، وهو أن يزوجه أخته على أن يزوجه أخته أو يزوجه أَمَتَهُ على أن يزوجه أَمَتَهُ وليس بينهما مهر ، وهذا أصل في أن المهر لا يصح إلا أن يستحقّ به تسليم مال ، فلما أبطل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تكون منافع البُضْع مهراً لأنها ليست بمال دلّ ذلك على أن كل ما شُرِطَ من بدل البضع مما لا يستحق به تسليم مال لا يكون مهراً ، وكذلك قال أصحابنا لو تزوجها على عفو من دم عمد أو على طلاق فلانة أن ذلك ليس بمهر مثل منافع البضع إذا جعلها مهراً ، وقد قال الشافعي : " إنه إذا سمَّى في الشغار لإحداهما مهراً أن النكاح جائز ولكل واحدة منهما مهر مثلها " ولم يجعل البضع مهراً في الحال التي أجاز النكاح فيها ، ونَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار ؛ فدل ذلك على معنيين ؛ أحدهما : أنه إذا كان الشغار في الأَمَتَيْنِ كان المهر منافع البضع لأن المهر إنما يستحقه المولى ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منافع البضع بدلاً في النكاح ؛ والثاني : إذا كان الشغار في الحُرَّتَيْنِ ، وهو أن يقول : " أزوجك أختي على أن تزوجني أختك أو أزوجك بنتي على أن تزوجني بنتك " فيكون هذا عقداً عارياً من ذكر المهر لواحدة من المرأتين ؛ لأنه شرط المنافع لغير المنكوحة وهو الولي ، فالشغار في أحد الوجهين يكون عقد نكاح عارياً عن تسمية بدل للمنكوحة ، وفي الوجه الآخر يكون بدل البضع منافع بضع آخر ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أن يكون بدلاً فصار أصلاً في أن بدل البضع شرطه أن يستحق به تسليم مال .
فإن قيل : إن منافع بُضْعِ الأَمَةِ حَقٌّ في مالٍ ، فهلاَّ كانت كالتزويج على خدمة العبد ! قيل له : لأن خدمة العبد يستحق بها تسليم مال وهو رقبة العبد ، كالمستأجر له يستحق تسليم العبد إليه للخدمة ، وزَوجُ الأَمَةِ لا يستحق تسليمها إليه بعقد النكاح ؛ لأن للمولى أن لا يُبَوّئها بيتاً ؛ وقوله تعالى : { أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ } قد اقتضى أن يستحق عليه بعقد النكاح تسليم مال بدلاً من البضع .
وأما التزويج على تعليم سورة من القرآن فإنه لا يصح مهراً من وجهين ، أحدهما : ما ذَكَرْنا من أنه لا يستحق به تسليم مال كخدمة الحرّ . والوجه الآخر : أن تعليم القرآن فَرْضٌ على الكفاية ، فكلّ من علّم إنساناً شيئاً من القرآن فإنما قام بفرض ؛ وقد رَوَى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً " فكيف يجوز أن يجعل عِوَضاً للبضع ، ولو جاز ذلك لجاز التزويج على تعليمِ الإسلام ؟ وهذا باطل ؛ لأن ما أوجب الله تعالى على الإنسان فِعْلَهُ فهو متى فَعَلَهُ فعله فَرْضاً فلا يستحق أن يأخذ عليه شيئاً من أعراض الدنيا ، ولو جاز ذلك لجاز للحكام أخْذُ الرُّشَى على الحكم ، وقد جعل الله ذلك سُحْتاً محرماً .
فإن احتج مُحْتَجٌّ بحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم قد وهبت نفسي لك فقال رجل زَوِّجْنِيها ، إلى أن قال : " هَلْ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ " قال : نعم ، سورة كذا ، فقال عليه السلام : " قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ " ؛ وبما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حفص بن عبدالله قال : حدثني أبي قال : حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجّاج الباهلي عن عسل عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة بنحو قصة سهل بن سعد في أمر المرأة ، وقال فيه : " ما تَحْفَظُ مِنَ القُرْآنِ ؟ " قال : سورة البقرة أو التي تليها ، قال : " قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهي امْرَأَتُكَ " . قيل له : معناه لما معك من القرآن ، كما قال تعالى : { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } [ غافر :75 ] ومعناه : لما كنتم تفرحون . وأيضاً كَوْنُ القرآن معه لا يوجب أن يكون بدلاً ، والتعليم ليس له ذكر في هذا الخبر ، فعلمنا أن مراده : أني زوجْتُكَ تعظيماً للقرآن ولأجل ما معك من القرآن ؛ وهو كما رَوَى عبدالله بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس قال : خطب أبو طلحة أم سُلَيْم فقالت : إني آمنت بهذا الرجل وشهدت أنه رسول الله فإن تابعتني تزوجتك ، قال : فأنا على ما أنْتِ عليه ؛ فتزوجته ، فكان صداقها الإسلام . ومعناه أنها تزوجته لأجل إسلامه ؛ لأن الإسلام لا يكون صداقاً لأحَدٍ في الحقيقة . وأما حديث إبراهيم بن طهمان فإنه ضعيف السَّنَد ، وقد رَوَى هذه القصة مالكٌ عن أبي حازم عن سهل بن سعد ، فلم يذكر أنه قال : " عَلِّمْهَا " ، ولم يعارَضْ بحديث إبراهيم بن طهمان ، ولو صح هذا الحديث لم يكن فيه دلالة على أنه جعل تعليم القرآن مهراً ، لأنه جائز أن يكون أَمَرَهُ بتعليمها القرآن ويكون المهر ثابتاً في ذمته ، إذ لم يقل : إن تعليم القرآن مهر لها .
فإن قيل : قال الله تعالى : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } [ القصص :27 ] فجعل منافع الحرّ بدلاً من البُضْعِ . قيل له : لم يشرط المنافع للمرأة وإنما شرطها لشعيب النبي عليه السلام ، وما شُرِطَ للأب لا يكون مهراً ، فالاحتجاج به باطل في مسألتنا . وأيضاً لو صح أنها كانت مشروطة لها وأنه إنما أضافها إلى نفسه لأنه هو المتولّي للعقد ، أو لأن مال الولد منسوب إلى الوالد كقوله صلى الله عليه وسلم : " أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ " فهو منسوخٌ بالنهي عن الشغار .
وقوله تعالى : { أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ } يدل على أن عِتْقَ الأَمَةِ لا يكون صَدَاقاً لها ، إذْ كانت الآية مقتضية لكون بدل البضع ما يستحق به تسليم مال إليها ، وليس في العتق تسليم مال وإنما فيه إسْقَاطُ الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها ، ألا ترى أن الرِّقَّ الذي كان المَوْلَى يملكه لا ينتقل إليها وإنما يتلف به ملكه ؟ فإذا لم يحصل لها به مال أو لم تستحق به تسليم مال إليها لم يكن مهراً .
مطلب : في أنه عليه السلام كان له أن يتزوج بغير مهر
وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج بغير مهر ، وكان مخصوصاً به دون الأمّة ، قال الله تعالى : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } [ الأحزاب : 50 ] فكان صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بجواز ملك البضع بغير بدل كما كان مخصوصاً بجواز تزويج التسع دون الأُمَّة .
قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] يدل أيضاً على أن العتق لا يكون صداقاً من وجوه ، أحدها : أنه قال : { وآتوا } [ النساء : 4 ] وذلك أمْرٌ يقتضي الإيجاب ، وإعطاء العتق لا يصح . والثاني : قوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } [ النساء : 4 ] والعِتْقُ لا يصح فَسْخُه بطيب نَفْسِها عن شيء منه . والثالث : قوله تعالى : { فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] وذلك مُحَالٌ في العتق .
قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } . قال أبو بكر : يحتمل قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وجهين ، أحدهما : الحكم بكونهم محصنين بعقد النكاح والإخبار عن حالهم إذا نكحوا . والثاني : أن يكون الإحصانُ شرطاً في الإباحة المذكورة في قوله تعالى : { وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ؛ فإن كان المراد الوجه الأول فإطلاق الإباحة عمومٌ يصح اعتباره فيما انتظمه إلا ما قام دليله ، وإن أراد الوجه الثاني كان إطلاق الإباحة مُجْمَلاً لأنه معقود بشريطة حصول الإحصان به ، والإحصانُ لفظ مجمل مفتقر إلى البيان ، فلا يصح حينئذ الاحتجاج به ، والأوْلى حمله على الإخبار عن حصول الإحصان بالتزويج لإمكان استعماله ، وذلك لأنه متى ورد لفظ يحتمل أن يكون عموماً يمكننا استعمال ظاهره ويحتمل أن يكون مجملاً موقوف الحكم على البيان ، فالواجب حمله على معنى العموم دون الإجمال لما فيه من استعمال حكمه عند وروده ، فعلينا المصير إليه ؛ وغير جائز حمله على وجه يسقط عنّا استعماله إلا بورود بيان من غيره ، وفي نسق التلاوة وفحوى الآية ما يوجب أن يكون ذكر الإحْصَانِ إخباراً عن كونه مُحْصَناً بالنكاح ؛ وذلك لأنه قال : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } والسفاحُ هو الزنا ، فأخبر أن الإحصان المذكور هو ضدُّ الزنا وهو العفّة ، وإذا كان المراد بالإحصان في هذا الموضع العفاف فقد حصل على وجه لا يكون مجملاً ؛ لأن تقديره : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم عفّة غير زنا ؛ وهذا لفظ ظاهر المعنى بَيِّنُ المراد ، فيوجب ذلك معنيين ، أحدهما : إطلاق لفظ الإباحة وكونه عموماً ، والآخر : الإخبار بأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا محصنين غير مسافحين ، والإحصانُ لفظ مشترك متى أُطلق لم يكن عموماً كسائر الألفاظ المشتركة ؛ وذلك لأنه اسم يقع على معانٍ مختلفة وأصله المَنْعٌ ومنه سُمِّي الحِصْنُ لمنعه من صار فيه من أعدائه ، ومنه الدِّرْعُ الحَصِينَةُ أي المنيعة ، والحِصَانُ بالكسر الفحل من الأفراس لمنعه راكبه من الهلاك ، والحَصَانُ بالنصب العفيفةُ من النساء لمنعها فَرْجَها من الفساد ؛ قال حسان في عائشة رضي الله عنهما :
* حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِريبَةٍ * وتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوافِلِ *
وقال الله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات } [ النور :23 ] يعني العفائف . والإحْصَانُ في الشرع اسمٌ يقع على معانٍ مختلفة غير ما كان الاسم لها في اللغة :
فمنها الإسلام ، قال الله تعالى : { فإذَا أُحْصِنَّ } ، رُوي : فإذا أَسْلَمْنَ .
ويقع على التزويج ، لأنه قد رُوي في التفسير أيضاً أن معناه : فإذا تزوجن . وقال تعالى : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ومعناه : ذوات الأزواج .
ويقع على العفة في قوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات } [ النور : 23 ] .
ويقع على الوَطْء بنكاح صحيح في إحصان الرجم .
والإحصان في الشرع يتعلق به حكمان ، أحدهما : في إيجاب الحدّ على قاذفه في قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } [ النور : 4 ] فهذا يعتبر فيه العفاف والحرية والإسلام والعقل والبلوغ ، فما لم يكن على هذا الصِّفَةِ لم يجب على قاذفه الحدُّ ، لأنه لا حَدَّ على قاذف المجنون والصبي الزاني والكافر والعبد ؛ فهذه الوجوه من الإحصان مُعْتَبَرَةٌ في إيجاب الحدّ على القاذف .
والحكم الآخر هو الإحصان الذي يتعلق به إيجاب الرجم إذا زنا ، وهذا الإحصان يشتمل على الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح مع الدخول بها وهما على هذه الصفة ، فإن عُدِمَ شيء من هذه الخلال لم يكن عليه الرجم إذا زنا . والسفاح هو الزنا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَنَا مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْتُ مِنْ سِفَاحٍ " . وقال مجاهد والسدي في قوله تعالى : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } قالا : " غير زَانِين " . ويقال إن أصله من سَفْحِ الماء وهو صَبُّهُ ، ويقال : سَفَحَ دَمْعُهُ وَسَفَحَ دَمُ فلانٍ وَسَفَحَ الجَبَلُ أَسْفَلَهُ ، لأنه موضع مصبِّ الماء ، وسافح الرجل إذا زنا ، لأنه صَبَّ ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح ، فسُمِّي مسافحاً لأنه لم يكن له من فعله هذا غير صَبِّ الماء ، وقد أفاد ذلك نَفْيَ نَسَبِ الولد المخلوق من مائه وأنه لا يلحق به ولا تجب على المرأة العدة منه ولا تصير فراشاً ولا يجب عليه مهر ولا يتعلق بذلك الوَطْءِ شيءٌ من أحكام النكاح ؛ هذه المعاني كلها في مضمون هذا اللفظ ، والله أعلم بالصواب .
باب المتعة :
قال الله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } . قال أبو بكر : هو عطف على ما تقدم ذكره من إباحة نكاح ما وراء المحرمات في قوله تعالى : { وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ، ثم قال : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } يعني : دخلتم بهن ، { فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } كاملةً ، وهو كقوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] وقوله تعالى : { فلا تأخذوا منه شيئاً } [ النساء : 20 ] . والاستمتاعُ هو الانتفاع ، وهو ههنا كناية عن الدخول ، قال الله تعالى : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } [ الأحقاف :20 ] يعني تعجلتم الانتفاع بها ، وقال : { فاستمتعتم بخلاقكم } [ التوبة : 69 ] يعني : بحظكم ونصيبكم من الدنيا ؛ فلما حرَّم الله تعالى من ذكر تحريمه في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وعنى به نكاح الأمهات ومن ذُكر معهن ، ثم عطف عليه قوله : { وَأَحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ، اقتضى ذلك إباحة النكاح فيمن عدا المحرمات المذكورة ، ثم قال : { أَنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ }يعني والله أعلم : نكاحاً تكونون به مُحْصِنِينَ عَفَائِفَ غير مسافحين ، ثم عطف عليه حكم النكاح إذا اتصل به الدخول بقوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فأوجب على الزوج كمال المهر . وقد سمَّى الله المهر أجراً في قوله : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فسمى المهر أجراً ، وكذلك الأجور المذكورة في هذه الآية هي المهور . وإنما سُمِّي المهر أجراً لأنه بدل المنافع وليس ببدل عن الأعيان ، كما سمِّي بدلُ منافع الدار والدابة أجراً .
مطلب : في دليل قول أبي حنيفة من استأجر امرأة فزنى بها لا حدّ عليه
وفي تسمية الله المهر أجراً دليل على صحة قول أبي حنيفة فيمن استأجر امرأة فزنا بها أنه لا حَدَّ عليه ، لأن الله تعالى قد سَمَّى المهر أجراً ، فهو كمن قال : " أمهرك كذا " ؛ وقد رُوي نحوه عن عمر بن الخطاب . ومثل هذا يكون نكاحاً فاسداً ؛ لأنه بغير شهود ؛ وقال تعالى في آية أخرى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } [ الممتحنة : 10 ] . وقد كان ابن عباس يتأول قوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } على متعة النساء ؛ ورُوي عنه فيها أقاويل ، رُوي أنه كان يتأول الآية على إباحة المتعة . ويُرْوَى أن في قراءة أبيّ بن كعب : " فما استمتعتم به منهن إلى أجلٍ مُسَمًّى فآتوهن أجورهن " ورُوي عنه أنه لما قيل له إنه قد قيل فيها الأشعار قال : " هي كالمضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير " ، فأباحها في هذا القول عند الضرورة . ورُوي عن جابر بن زيد أن ابن عباس نزل عن قوله في الصرف وقوله في المتعة . وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا ابن بكير عن الليث عن بكير بن عبدالله بن الأشجّ عن عمار مولى الشريد قال : سألت ابن عباس عن المتعة أسِفَاحٌ هي أم نكاح ؟ فقال ابن عباس : لا سفاح ولا نكاح ، قلت : فما هي ؟ قال : المتعة كما قال الله تعالى ، قلت له : هل لها من عدة ؟ قال : نعم ، عدتها حيضةٌ ، قلت : هل يتوارثان ؟ قال : لا . وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } قال : نسختها { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } [ الطلاق : 1 ] ؛ وهذا يدل على رجوعه عن القول بالمتعة . وقد رُوي عن جماعة من السلف أنها زِناً ؛ حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث عن عقيل ويونس عن ابن شهاب عن عبدالملك بن المغيرة بن نوفل عن ابن عمر ، أنه سئل عن المتعة فقال : " ذلك السِّفَاحُ " . ورُوي عن هشام بن عروة عن أبيه قال : " كان نكاح المتعة بمنزلة الزنا " .
فإن قيل : لا يجوز أن تكون المتعة زنا ؛ لأنه لم يختلف أهلُ النقل أن المتعة قد كانت مباحة في بعض الأوقات أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يُبح الله تعالى الزنا قط . قيل له : لم تكن زِناً في وقت الإباحة ، فلما حَرَّمها الله تعالى جاز إطَلاقُ اسم الزنا عليها ، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الزَّانِيَةُ هي الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَها بغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وأَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بغَيْرِ إذْنِ مَوْلاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ " ؛ وإنما معناه التحريم لا حقيقة الزنا ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ والرِّجْلاَنِ تَزْنِيَانِ ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ وزِنَا الرِّجْلَيْنِ المَشْيُ ، ويُصدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الفَرْجُ أو يكذبه " ؛ فأطلق اسم الزنا في هذه الوجوه على وجه المجاز ، إذ كان محرماً ؛ فكذلك من أطلق اسم الزنا على المتعة فإنما أطلقه على وجه المجاز وتأكيد التحريم . وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال : سمعت أبا نضرة يقول : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير يَنْهَى عنها ؛ قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبدالله فقال : " على يدي دار الحديث ، تَمَتَّعْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قام عمر قال : إن الله كان يُحِلُّ لرسوله ما شاء بما شاء ، فأتِمُّوا الحجَّ والعمرة كما أمر الله وانتهوا عن نكاح هذه النساء ، لا أُوتَى برجل نكح امرأة إلى أَجَلٍ إلا رَجَمْتُهُ " فذكر عمر الرجم في المتعة ؛ وجائز أن يكون على جهة الوعيد والتهديد لينزجر الناس عنها . وقال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجّاج عن ابنٍ جريج قال : أخبرني عطاء قال : سمعت ابن عباس يقول : " رحم الله عمر ، ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم الله بها أمّةَ محمد صلى الله عليه وسلم ، ولولا نَهْيُهُ لما احتاج إلى الزنا إلاّ شفا " .
فالذي حصل من أقاويل ابن عباس القول بإباحة المتعة في بعض الروايات من غير تقييد لها بضرورة ولا غيرها . والثاني : أنها كالميتة تحل بالضرورة . والثالث : أنها محرمة ؛ وقد قدمنا ذكر سنده وقوله أيضاً إنها منسوخة . ومما يدل على رجوعه عن إباحتها ما رَوَى عبدالله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن بكير بن الأشجّ حدثه : أن أبا إسحاق مولى بني هاشم حدثه : أن رجلاً سأل ابن عباس فقال : كنت في سفر ومعي جارية لي ولي أصحابٌ فأَحْلَلْتُ جاريتي لأصحابي يستمتعون منها ؟ فقال : " ذاك السِّفَاحُ " ، فهذا أيضاً يدل على رجوعه .
وأمّا احتجاج من احتجَّ فيها بقوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وأن في قراءة أبيّ : " إلى أجل مسمًّى " فإنه لا يجوز إثباتِ الأجل في التلاوة عند أحدٍ من المسلمين ، فالأجَلُ إذاً غير ثابت في القرآن ، ولو كان فيه ذِكْرُ الأَجَلِ لما دلّ أيضاً على متعة النساء ؛ لأن الأجَلَ يجوز أن يكون داخلاً على المهر ، فيكون تقديره : فما دخلتم به منهن بمهر إلى أجل مسمًّى فآتوهن مهورهن عند حلول الأجل .
وفي فحوى الآية من الدلالة على أن المراد النكاح دون المتعة ثلاثة أوجه : أحدهما أنه عطف على إباحة النكاح في قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ، وذلك إباحةٌ لنكاح مَنْ عدا المحرمات لا محالة ؛ لأنهم لا يختلفون أن النكاح مراد بذلك ، فوجب أن يكون ذِكْرُ الاستمتاع بياناً لحكم المدخول بها بالنكاح في استحقاقها لجميع الصداق . والثاني : قوله تعالى : { مُحْصِنِينَ } ، والإحصانُ لا يكون إلا في نكاح صحيح ، لأن الواطىء بالمتعة لا يكون محصناً ولا يتناوله هذا الاسم ، فعلمنا أنه أراد النكاح . والثالث : قوله تعالى : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } فسمَّى الزنا سِفَاحاً لانتفاء أحكام النكاح عنه من ثبوت النسب ووجوب العدة وبقاء الفراش ، إلى أن يحدث له قَطْعاً ؛ ولما كانت هذه المعاني موجودةً في المتعة كانت في معنى الزنا ، ويشبه أن يكون من سماها سفاحاً ذهب إلى هذا المعنى إذْ كان الزاني إنما سُمِّيَ مُسَافِحاً لأنه لم يحصل له من وَطْئِها فيما يتعلق بحكمه إلا على سَفْحِ الماء باطلاً من غير استلحاق نسب به ؛ فمن حيث نفى الله تعالى بما أحل من ذلك وأثبتَ به الإحصان اسم السفاح وجب أن لا يكون المراد بالاستمتاع هو المتعة إذ كانت في معنى السفاح ، بل المراد به النكاح . وقوله تعالى : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } شَرْطٌ في الإباحة المذكورة ؛ وفي ذلك دليل على النهي عن المتعة ، إذْ كانت المتعة في معنى السفاح من الوجه الذي ذكرنا .
قال أبو بكر : فكان الذي شُهِرَ عنه إباحةُ المتعة من الصحابة عبدالله بن عباس ؛ واختلفت الروايات عنه مع ذلك ، فرُوي عنه إباحتها بتأويل الآية ، وقد بَيَّنَّا أنه لا دلالة في الآية على إباحتها ، بل دلالات الآية ظاهرة في حظرها وتحريمها من الوجوه التي ذكرنا . ثم رُوي عنه أنه جعلها بمنزلة الميتة ولحم الخنزير والدم وأنها لا تحل إلا لمضطرّ ؛ وهذا محالٌ لأن الضرورة المبيحة للمحرمات لا توجد في المتعة ، وذلك لأن الضرورة المبيحة للميتة والدم هي التي يَخَافُ معها تَلَفَ النفس إِنْ لم يَأْكُلْ ، وقد علمنا أن الإنسان لا يخاف على نفسه ولا على شيء من أعضائه التَّلَفَ بتَرْكِ الجماع وفَقْدِهِ ، وإذا لم تحلّ في حال الرفاهية والضرورة لا تقع إليها فقد ثبت حَظْرُها واستحال قول القائل إنها تحلّ عند الضرورة كالميتة والدم ، فهذا قول متناقض مستحيل ؛ وأَخْلَقُ بأن تكون هذه الرواية عن ابن عباس وَهْماً مِنْ رُواتها ؛ لأنه كان رحمه الله أفْقَهُ من أن يَخْفَى عليه مثله ؛ فالصحيح إذاً ما رُوي عنه من حَظْرِها وتحريمها وحِكَايَةُ من حَكَى عنه الرجوع عنها .
والدليل على تحريمها قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } [ المؤمنون : 5 - 7 ] فقصر إباحة الوَطْءِ على أحد هذين الوجهين وَحَظَرَ ما عداهما بقوله تعالى : { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } [ المؤمنون : 7 ] والمتعة خارجة عنهما فهي إذاً محرمة .
فإن قيل : ما أَنْكَرْتَ أن تكون المرأة المستمتع بها زوجة وأن المتعة غير خارجة عن هذين الوجهين اللذين قصر الإباحة عليهما ؟ قيل له : هذا غلطٌ ؛ لأن اسم الزوجة إنما يقع عليها ويتناولها إذا كانت منكوحة بعقد نكاح ، وإذا لم تكن المتعة نكاحاً لم تكن هذه زوجة . فإن قيل : ما الدليل على أن المتعة ليست بنكاح ؟ قيل له : الدليل على ذلك أن النكاح اسمٌ يقع على أحد معنيين : وهو الوطء والعقد ، وقد بيّنا فيما سلف أنه حقيقةٌ في الوَطْءِ مجازٌ في العقد ، وإذا كان الاسم مقصوراً في إطلاقه على أحد هذين المعنيين وكان إطلاقُه في العقد مجازاً على ما ذكرنا ووجدناهم أطلقوا الاسم على عقد تزويج مطلق أنه نكاح ، ولم نجدهم أطلقوا اسم النكاح على المتعة ؛ فلا يقولون إن فلاناً تزوج فلانة إذا شرط التمتع بها ، لم يَجُزْ لنا إطلاقُ اسم النكاح على المتعة ، إذ المجاز لا يجوز إطلاقه إلا أن يكون مسموعاً من العرب أو يَرِدَ به الشرع ، فلما عَدِمْنَا إطلاقَ اسم النكاح على المتعة في الشرع واللغة جميعاً وجب أن تكون المتعة ما عدا ما أباحه الله وأن يكون فاعلها عادياً ظالماً لنفسه مرتكباً لما حرّمه الله . وأيضاً فإن النكاح له شرائط قد اخْتُصَّ بها متى فُقِدَتْ لم يكن نكاحاً ؛ منها أن مُضِيَّ الوقت لا يؤثر في عقد النكاح ولا يوجب رفعه ، والمتعةُ عند القائلين بها توجب رفع النكاح بمضيِّ المدة . ومنها أن النكاح فراشٌ يَثْبُتُ به النسب من غير دعوة ، بل لا ينتفي الولد المولود على فراش النكاح إلا باللعان ؛ والقائلون بالمتعة لا يثبتون النسب منه ، فعلمنا أنها ليست بنكاح ولا فراش . ومنها أن الدخول بها على النكاح يوجب العدة عند الفرقة ، والموت يوجب العدة دخل بها أو لم يدخل ، قال الله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] والمتعة لا توجب عدة الوفاة ، وقال تعالى : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } [ النساء : 12 ] ولا تَوَارُثَ عندهم في المتعة . فهذه هي أحكام النكاح التي يختص بها ، إلا أن يكون هناك رِقٌّ أو كفر يمنع التوارث ؛ فلما لم يكن في المتعة مانع من الميراث من أحدهما بكفر أو رِقًّ ولا سبب يوجب الفرقة ولا مانع من ثبوت النسب مع كون الرجل ممن يستفرش ويلحقه الأنساب لفراشه ، ثبت بذلك أنها ليست بنكاح ؛ فإذا خرجت عن أن تكون نكاحاً أو ملك يمين كانت محرمة بتحريم الله إياها في قوله : { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } [ المؤمنون : 7 ] .
فإن قيل : انقضاء المدة الموجبة للبينونة هو الطلاق . قيل له : إن الطلاق لا يقع إلا بصريح لفظ أو كناية ، ولم يكن منه واحد منهما ، فكيف يكون طلاقاً ! ومع ذلك فيجب على أصل هذا القائل أن لا تَبِينَ لو انقضت المدة وهي حائض ؛ لأن القائلين بإباحة المتعة لا يَرَوْنَ طلاق الحائض جائزاً ، فلو كانت البينونة الواقعة بمضيّ المدة طلاقاً لوجب أن لا يقع في حال الحيض ، فلما أوقعوا البينونة الواقعة بمضيّ الوقت وهي حائض دلّ ذلك على أنه ليس بطلاق وإن كانت تَبِينُ بغير طلاق ، ولا سبب من قِبَلِ الزوج يوجب الفرقة ، ثبت أنها ليست بنكاح .
فإن قيل على ما ذكرنا مِن نَفْي النسب والعدة والميراث : ليس انتفاءُ هذه الأحكام بمانع من أن تكون نكاحاً ؛ لأن الصغير لا يلحق به نسب ويكون نكاحه صحيحاً ، والعبد لا يرث والمسلم لا يرث الكافر ، ولم يخرجه انتفاء هذه الأحكام عنه من أن يكون نكاحاً . قيل له : إن نكاح الصغير قد تعلق به ثبوت النسب إذا صار ممن يستفرش ويتمتع ، وأنت لا تلحقه نسب ولدها مع الوطء الذي يجوز أن يلحق به النسب في النكاح ، والعبد والكافر إنما لم يرثا للرقِّ والكفر وهما يمنعان التوارث بينهما ، وذلك غير موجود في المتعة لأن كل واحد منهما من أهل الميراث من صاحبه ؛ فإذا لم يكن بينهما ما يقطع الميراث ثم لم يرث مع وجود المتعة علمنا أن المتعة ليست بنكاح لأنها لو كانت نكاحاً لأوجبت الميراث مع وجود سببه من غير مانع له من قِبَلِهِمَا . وأيضاً قد قال ابن عباس : إنها ليست بنكاح ولا سفاح ؛ فإذا كان ابن عباس قد نَفَى عنها اسم النكاح وجب أن لا تكون نكاحاً ؛ لأن ابن عباس لم يكن ممن يَخْفَى عليه أحكام الأسماء في الشرع واللغة ، فإذا كان هو القائل بالمتعة من الصحابة ولم يرها نكاحاً ونَفَى عنها الاسم ثبت أنها ليست بنكاح .
ومما يوجب تحريمها من جهة السُّنَّة ما حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا القعنبيُّ قال : حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عبدالله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن عليّ رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن متعة النساء وعن أكْلِ لحوم الحمر الإنسية " ؛ وقال فيه غير مالك : إن عَلِيّاً قال لابن عباس : " إنك امْرُؤٌ تَيَّاهٌ ، إنما المتعة إنما كانت رُخْصَةً في أول الإسلام نَهَى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية " . ورُوي هذا الحديث من طرق عن الزهري ، رواه سفيان بن عيينة وعبيدالله بن عمر في آخرين . ورَوَى عكرمة بن عمار عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تَبُوكَ : " إنَّ الله تَعَالى حَرَّمَ المُتْعَةَ بِالطَّلاقِ وَالنّكَاحِ وَالعِدَّةِ والمِيراثِ " . ورَوَى عبدالواحد بن زياد قال : حدثنا أبو عميس عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذِنَ في متعة النساء عام أَوْطَاسَ ثم نَهَى عنها " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل البلخي قال : حدثنا محمد بن جعفر بن موسى قال : حدثنا محمد بن الحسن قال : حدثنا أبو حنيفة عن نافع عن ابن عمر قال : " نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وما كنا مُسَافِحِينَ " . قال أبو بكر : قوله : " وما كنا مسافحين " يحتمل وجوهاً ، أحدها : أنهم لم يكونوا مسافحين حين أُبيحت لهم المتعة ، يعني أنها لو لم تُبَحْ لم يكونوا ليسافحوا ، ونفى بذلك قول من قال إنها أُبيحت للضرورة كالميتة والدم ثم نُهي عنها بَعْدُ . والثاني : أنهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك بعد النهي فيكونوا مسافحين ، ويحتمل أنهم لم يكونوا في حال الإباحة مسافحين بالتمتع إذْ كانت مباحة . وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبدالوارث عن إسماعيل بن أمية عن الزهري قال : كنا عند عمر بن عبدالعزيز فتذاكرنا مُتْعَةَ النساء ، فقال له رجل يقال له ربيع بن سبرة : أشْهَدُ على أبي أنه حدّث : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها في حَجَّة الوداع " . وروى عبدالعزيز بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده ، أن ذلك كان عام الفتح ؛ ورواه إسماعيل بن عياش عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه مثله ، وذكر أنه كان عام الفتح ؛ ورواه أنس بن عياض الليثي عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه مثله ، وقال : " كان في حجة الوداع " . فلم تختلف الرواة في التحريم ، واختلفوا في التاريخ ، فسقط التاريخ كأنه ورد غير مؤرَّخ ، وثبت التحريم لاتفاق الرواة عليه . ورواه أبو حنيفة عن الزهري عن محمد بن عبدالله عن سبرة الجهني : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم فتح مكة " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا ابن ناجية قال : حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : حدثنا صدقة عن عبيد الله بن علي عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال : خرج النساء اللاتي استمتعنا بهنّ معنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هُنَّ حَرَامٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " .
فإن قيل : هذه الأخبار متضادة لأن في حديث سبرة الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها لهم في حجة الوداع ، وقال بعضهم : عام الفتح ، وفي حديث علي وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر ، وخيبر كانت قبل الفتح وقبل حجة الوداع ، فكيف تكون مباحة عام الفتح أو في حجة الوداع وقد حرمت قبل ذلك عام خيبر ؟ قيل له : الجواب عن هذا من وجهين ، أحدهما : أن حديث سبرة مختلَفٌ في تاريخه ، فقال بعضهم : عام الفتح ، وقال بعضهم : في حجة الوداع ؛ وفي كلا الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها في تلك السفرة ثم حرمها ، فلما اختلفت الرواة في تاريخه سقط التاريخ وحصل الخبر غير مؤرَّخ ، فلا يضادّ حديث علي وابن عمر الذي اتفقا على تاريخه أنه حرمها يوم خيبر . والوجه الآخر أنه جائز أن يكون حرّمها يوم خيبر ثم أحلَّها في حجة الوداع أو في فتح مكة ثم حَرَّمها ، فيكون التحريم المذكور في حديث عليّ وابن عمر منسوخاً بحديث سَبْرَةَ الجهنيّ ، ثم تكون الإباحة منسوخة بما في حديث سبرة أيضاً ؛ لأن ذلك غير ممتنع .
فإن قيل : روى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود قال : " كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء ، فقلنا : يا رسول الله ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ورخّص لنا أن ننكح بالثَّوْب إلى أجَلٍ ، ثم قال : { لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] الآية " . قيل له : هذه المتعة هي التي حرّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار التي ذَكَرْنَا ، ولم ننكر نحن أنها قد كانت أُبيحت في وقت ثم حُرِّمت ، وليس في حديث ابن مسعود ذِكْرُ التاريخ ، فأخبار الحظر قاضيةٌ عليها لأن فيها ذِكْرَ الحَظْرِ بعد الإباحة ؛ وأيضاً لو تساويا لكان الحظر أوْلى لِمَا بيّناه في مواضع ؛ وأما تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم الآية عند إباحة المتعة ، وهو قوله تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } [ المائدة : 87 ] فإنه يحتمل أن يريد به النهي عن الاستخصاء وتحريم النكاح المباح ، ويحتمل المتعة في حال ما كانت مباحة . وقد رُوي عن عبدالله أنها منسوخة بالطلاق والعِدّة والميراث ؛ ويدل عليه أنه قد علم أنها قد كانت مباحة في وقت ، فلو كانت الإباحةُ باقيةً لورد النقل بها مستفيضاً متواتراً لعموم الحاجة إليه ولعرفتها الكافَّةُ كما عرفتها بديّاً ولَمَا اجتمعت الصحابة على تحريمها لو كانت الإباحة باقية ، فلما وجدنا الصحابة منكرين لإباحتها مُوجِبِينَ لحظرها مع علمهم بَدِيّاً بإباحتها دلّ ذلك على حَظْرِها بعد الإباحة ، ألا ترى أن النكاح لما كان مباحاً لم يختلفوا في إباحته ؟ ومعلوم أن بلواهم بالمتعة لو كانت مباحة كَبَلْوَاهُمْ بالنكاح فالواجب إذاً أن يكون ورود النقل في بقاء إباحتها من طريق الاستفاضة . ولا نعلم أحداً من الصحابة رُوي عنه تجريد القول في إباحة المتعة غير ابن عباس ، وقد رجع عنه حين استقرّ عنده تحريمها بتواتر الأخبار من جهة الصحابة ؛ وهذا كقوله في الصرف وإباحته الدرهم بالدرهمين يداً بيد ، فلما استقر عنده تحريم النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه وتواترت عنده الأخبارُ فيه من كل ناحية رجع عن قوله وصار إلى قول الجماعة ، فكذلك كان سبيله في المتعة .
ويدل على أن الصحابة قد عرفت نَسْخَ إباحة المتعة ، ما رُوي عن عمر أنه قال في خطبته : " مُتْعَتَانِ كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنْهَى عنهما وأعاقب عليهما " ، وقال في خبر آخر : " لو تقدمت فيها لرجَمْتُ " ، فلم ينكر هذا القول عليه مُنْكِرٌ ، لا سيّما في شيء قد علموا إباحته وإخباره بأنهما كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلا يخلو ذلك من أحد وجهين : إما أن يكونوا قد علموا بقاء إباحتها فاتفقوا معه على حظرها ، وحاشاهم من ذلك ! لأن ذلك يوجب أن يكونوا مخالفين لأمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم عياناً ، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم خير أمّة أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف ويَنْهَوْنَ عن المنكر ؛ فغير جائز منهم التواطؤ على مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأن ذلك يؤدّي إلى الكفر وإلى الانسلاخ من الإسلام ؛ لأن من علم إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للمتعة ثم قال هي محظورة من غير نَسْخٍ لها فهو خارجٌ من الملّة . فإذا لم يَجُزْ ذلك علمنا أنهم قد علموا حَظْرَها بعد الإباحة ولذلك لم ينكروه ، ولو كان ما قال عمر مُنْكَراً ولم يكن النسخُ عندهم ثابتاً لما جاز أن يُقَارُّوه على تَرْكِ النكير عليه ؛ وفي ذلك دليل على إجماعهم على نسخ المتعة ، إذ غير جائز حَظْرُ ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ من طريق النسخ .
ومما يدل على تحريم المتعة من طريق النظر ، أنّا قد علمنا أن عَقْدَ النكاح وإن كان واقعاً على استباحة منافع البُضْعِ ، فإن استحقاق تلك المنافع بعقد النكاح بمنزلة العقود على المملوكات من الأعيان وأنه مخالف لعقود الإجارات الواقعة على منافع الأعيان ، ألا ترى أن عقد النكاح يصحّ مطلقاً من غير شرط مدة مذكورة له وأن عقود الإجارات لا تصحّ إلا على مُدَدٍ معلومة أو على عمل معلوم ؟ فلما كان ذلك حكم العقد على منافع البُضْعِ أشْبَهَ عُقُودَ البياعات وما جرى مجراها إذا عقدت على الأعيان ، فلا يصح وقوعه موقتاً كما لا يصحّ وقوع التمليكات في الأعيان المملوكة موقتة ، ومتى شُرِطَ فيه التوقيت لم يكن نكاحاً فلا تصح استباحة البُضْعِ به كما لا يصحّ البيع إذا شُرِطَ فيه توقيت الملك ، وكذلك الهبات والصدقات ؛ ولا يملكه بشيء من هذه العقود ملكاً موقتاً ؛ وكذلك منافع البُضْعِ لما جرت مجرى الأعيان المملوكة لم يصح فيها التوقيت .
ومما يحتجُّ به القائلون بإباحة المتعة اتفاق الجميع على أنه قد كانت مباحةً في وقت من الزمان ثم اختلفنا في الحظر ، فنحن ثابتون على ما حصل الاتفاق عليه ولا نزول عنه بالاختلاف . فيقال لهم : الأخبار التي بها تَثْبُتُ الإباحة بها يَثْبُتُ الحظر ؛ وذلك لأن كل خبر ذكر فيه إباحة المتعة ذكر فيه حَظْرُها ، فمن حيث تَثْبُتُ الإباحة وجب أن يثبت الحظر وإن لم يثبت الحظر لم تثبت الإباحة ، إذ كانت الجهة التي بها تثبت الإباحة بها ورد الحظر . وأيضاً فإن قول القائل : " إنّا لما اتفقنا على كذا ثم اختلفنا فيه لم نُزَلْ عن الإجماع بالاختلاف " قول فاسدٌ ؛ لأن الموضع الذي فيه الخلاف ليس هو موضع الإجماع ، فإذا لم يكن إجماعاً فلا بد من دلالة يقيمها على صحة دعواه . وأيضاً فإنّ كون الشيء مباحاً في وقت غَيْرُ موجبٍ بقاءَ إباحته فيما يجوز فيه النسخ ، وقد دللنا على ثبوت الحظر بعد الإباحة من ظاهر الكتاب والسنة وإجماع السلف .
قال أبو بكر : قد ذكرنا في المتعة وحكمها في التحريم ما فيه بلاغٌ لمن نَصَحَ نفسه ، ولا خلاف فيها بين الصدر الأوّل على ما بيَّنا ؛ وقد اتفق فقهاء الأمصار مع ذلك على تحريمها ولا يختلفون فيه .
واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة أياماً معلومة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي والشافعي : " إذا تزوج امرأة عشرة أيام فهو باطل ولا نكاح بينهما " . وقال زفر : " النكاح جائز والشرط باطل " . وقال الأوزاعي : " إذا تزوج امرأة ومِنْ نِيَّتِهِ أن يطلقها وليس ثَمَّ شرطٌ فلا خَيْرَ في هذا ، هذا متعة " .
قال أبو بكر : لا خلاف بينهم وبين زُفَرَ أن عقد النكاح لا يصح بلفظ المتعة ، وأنه لو قال : " أتمتع بك عشرة أيام " أن ذلك ليس بنكاح ، وإنما الخلاف إذا عقده بلفظ النكاح فقال : " أتزوجك عشرة أيام " فجعله زُفَرُ نِكاحاً صحيحاً وأبطل الشرط فيه ؛ لأن النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة ، كما لو قال : " أتزوجك على أن أطلقك بعد عشرة أيام " كان النكاحُ جائزاً والشرط باطلاً ؛ وإنما الخلاف بينهم وبين زفر في أن هذا نكاحٌ أو متعة ؟ فقال الجمهور : هذا متعة وليس بنكاح . والدليل على صحة هذا القول إن النكاح إلى أجَل هو متعة وإن لم يلفظ بالمتعة ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن الربيع بن سَبْرَةَ الجُهَنِيِّ أن أباه أخبره : أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حتى نزلوا عُسْفَانَ ؛ وذكر قصة أمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم بالإحلال بالطواف إلا من كان معه هَدْيٌ ؛ قال : فلما أَحْلَلْنَا قال : " اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ " والاستمتاعُ التزويج عندنا ، فعَرَضْنا ذلك على النساء فأبَيْنَ إلا أن نضرب بيننا وبينهن أجلاً ، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " افْعَلُوا " . فخرجت أنا وابن عمي وأنا أَشَبُّ منه - ومعي بُرْدٌ ومعه بُرْدٌ ، فأتينا امرأة فأعجبها بُرْدُه وأعجبها شبابي ، فقالت : بُرْدٌ كبُرْدٍ وهذا أشبُّ ؛ وكان بيني وبينها عَشْرٌ فَبِتُّ عندها ليلة ثم أصبحت فخرجت إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الركن والمقام يقول : " يا أيُّها النَّاسُ إنّي كُنْتُ أذِنْتُ لَكُمْ فِي الاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ ، ألا وإنّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، فَمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَها ولا تَأْخُذُوا مما آتَيْتُموهُنَّ شَيئاً " . فأخبر سبرة في هذا الحديث أن الاستمتاع كان التزويجُ ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رَخّص لهم في توقيت المدة فيه ثم نَهَى عنه بعد الإباحة ؛ فثبت بذلك أن النكاح إلى أجَلٍ هو مُتْعَةٌ . ويدل على ذلك أيضاً حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبدالله بن مسعود قال : " كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساءٌ ، فقلنا : يا رسول الله ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ورخّص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجَلٍ ، ثم قرأ : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } " [ المائدة : 87 ] . فأخبر عبدالله بن مسعود أن المتعة كانت نكاحاً إلى أجل . ويدل على ذلك حديث جابر عن عمر بن الخطاب ، وقد تقدم سنده في باب المتعة ، أنه قال : " إن الله كان يحلّ لرسوله ما شاء فأتِمُّوا الحجَّ والعمرة كما أمر الله واتّقوا نكاح هذه النساء ؛ لا أُوتَى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رَجَمْتُه " . فأخبر عمر أن النكاح إلى أجَلٍ هو متعة ؛ وإذا ثبت له هذا الاسم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المتعة انتظم ذلك تحريمَ النكاح إلى أجل لدخوله تحت الاسم . وأيضاً لما كانت المتعة اسماً للنفع القليل كما قال تعالى : { إنما هذه الحياة الدنيا متاع } [ غافر : 39 ] يعني نفعاً قليلاً ، وسَمَّى الواجب بعد الطلاق متعةً بقوله : { فمتعوهن } [ الأحزاب : 49 ] ، وقال : { وللمطلقات متاع بالمعروف } [ البقرة : 241 ] لأنه أقلّ من المهر ، علمنا أن ما أُطلق عليه اسم المتعة أو المتاع فقد أُريد به التقليل وأنه نَزْرٌ يسير بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد ويوجبه ، فسُمّي ما يعطي بعد الطلاق مما لا يوجب بنفس العقد متاعاً ومتعةً لقلته بالإضافة إلى المهر المستحق بالعقد ، وسُمّي النكاحُ الموقت متعةً لقصر مدته وقلة الانتفاع به بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد من بقائه مؤبداً إلى أن يفرق بينهما الموت أو سبب حادث يوجب التفريق ، فوجب أن لا يختلف على ذلك في إطلاق اسم المتعة أن يكون بلفظ المتعة أو بلفظ النكاح بعد أن يكون موقتاً ، لأن اسم المتعة يتناولهما من الوجه الذي ذكرنا . وأيضاً لا يخلو العاقد عقد النكاح على عشرة أيام من أن يجعله موقتاً على ما شرط أو يبطل الشرط ويجعله مؤبداً ؛ فإن جعله موقتاً كان متعة بلا خلاف ، وإن جعله مؤبداً لم يصح ذلك مِنْ قِبَلِ أن ما بعد الوقت ليس عليه عقد فلا يجوز له أن يستبيح بُضْعها بلا عقد ، ألا ترى أن من اشترى صبرة من طعام على أنها عشرة أقْفِزَةٍ أو قال : " قد اشتريت منك عشرة أقفزة من هذه الصبرة " أن العقد واقع على عشرة أقفزة دون ما عداها ؟ فكذلك إذا عقد النكاح على عشرة أيام فما بعد العشرة ليس عليه عقد نكاح ، فغير جائز استباحة بعضها فيه بالعقد ، ولا يجوز أن يجعله موقتاً فيكون صريح المتعة ، فوجب بذلك إفساد العقد . وليس هذا بمنزلة قوله : " قد تزوجتك على أن أطلقك بعد عشرة أيام " فيجوز النكاح ويبطل الشرط ؛ لأنه عَقَدَ النكاح مؤبداً وشَرَطَ فيه قَطْعَه بالطلاق ، ألا ترى أنه إذا لم يطلّقْ كان النكاح باقياً ؟ فعلمت أن النكاح قد وقع على وجه التأبيد ، وإنما شَرَطَ قطعه بالطلاق ، وذلك شرط فاسدٌ ، والنكاح لا تفسده الشروط ، فيبطل الشرط ويجوز العقد . وليس كذلك إذا تزوجها عشرة أيام ؛ لأن ما بعد العشرة ليس عليه عقد ، ألا ترى أنه لو استأجر داراً عشرة أيام كان العقد واقعاً على عشرة أيام وما بعدها ليس عليها عقد ، ولو سكنها بعد العشرة كان غاضباً ساكناً لها على غير وجه العقد ولا أجْرَ عليه ، ولو قال : " آجرتك هذه الدار على أن أفسخ العقد بعد عشرة أيام " كانت إجارةً فاسدةً مؤبدةً ما سكن منها من المدة في العشرة وبعدها يلزمه أجْرُ المِثْلِ ؟ فكذلك النكاح إذا عُقِدَ على عشرة فليس على ما بَعْدَ العشرة عقد .
فإن قيل : فلو قال : " قد تزوَّجْتُكِ على أنك طالِقٌ بعد عشرة أيام " . كان النكاح موقّتاً ؛ لأنه يبطل بعد مُضِيِّ العشرة . قيل له : ليس هذا نكاحاً موقتاً بل هو مؤبد ، وإنما قطعه بالطلاق ؛ ولا فرق بين ذِكْرِ الطلاق مع العقد وإيقاعه بعد المدة ؛ لأن النكاح قد وقع بديّاً مؤبداً ، وإنما أوقع طلاقاً لوقت مستقبل ، فلا يوجب ذلك توقيت العقد .
قوله تعالى : { فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } معناه المهور ، فسمَّى المهر أجراً لأنه بَدَلُ مَنَافِع البُضْع . ويدلّ على أن المراد المهر أنه ذكره لمن كان محصناً بالنكاح في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } ، وكقوله تعالى : { فَانْكِحُوهُنَّ بإذْنِ أهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصِنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } ، فذكر الإحصان عقيب ذكر النكاح وسمَّى المهر أجراً . وقوله : { فَرِيضَةً } تأكيد لوجوبه وإسقاط للظنّ وتوهم التأويل فيه ، إذْ كان الفَرْضُ ما هو في أعلى مراتب الإيجاب ؛ والله أعلم بالصواب .
باب الزيادة في المهور :
قال الله تعالى بعد ذكر المهر : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } ، والفريضة ههنا التسمية والتقدير ، كفرائض المواريث والصدقات ، وقد بينا ذلك فيما سلف ، ورُوي عن الحسن في قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } أنه ما تراضيتم به من حَطِّ بعض الصّداقِ أو تأخيره أو هبة جميعه . وفي هذه الآية دلالة على جواز الزيادة في المهر لقوله تعالى : { فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ } وهو عمومٌ في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء ، وهو بالزيادة أخَصُّ منه بغيرها ؛ لأنه علقه بتراضيهما ، والبراءةٌ والحَطُّ والتأخيرُ لا يُحْتَاجُ في وقوعه إلى رِضَى الرجل ، والزيادةُ لا تصحّ إلا بقبولها ؛ فلما علق ذلك بتراضيهما جميعاً دلّ على أن المراد الزيادة . ولا يجوز الاقتصار به على البراءة والحطِّ والتأجيل ؛ لأن عموم اللفظ يقتضي جواز الجميع ، فلا يُخَصُّ بغير دلالة ؛ ولأن الاقتصار به على ما ذكرت يسقط فائدة ذِكْرِ تراضيهما جميعاً وإضافة ذلك إليهما ، وغير جائز إِسْقَاطُ حكم اللفظ والاقتصار به على ما يجعل وجوده وعدمه سواء .
وقد اختلف الفقهاء في الزيادة في المهر ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : " الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها ، وإن طلّقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نِصْفُ المُسَمَّى في العقد " . وقال زفر بن الهُذَيْلِ والشافعي : " الزيادة بمنزلة هِبَةٍ مُسْتَقْبِلَةٍ " إذا قبضتها جازت في قولهما جميعاً ، وإن لم تقبضها بطلت . وقال مالك بن أنس : " تصح الزيادة ، فإن طلقها قبل الدخول رجع نصف ما زادها إليه وهي بمنزلة مال وَهَبَهُ لها يَقُوَّمُ به عليه ، وإن مات عنها قبل أن تقبض فلا شيء لها منه لأنها عَطِيَّةٌ لم تُقْبض " .
قال أبو بكر : قد ذكرنا وجه دلالة الآية على جواز الزيادة ؛ ومما يدل على جواز الزيادة أن عقد النكاح في ملكهما ، والدليل على ذلك أنه جائز له أن يخلعها على البُضْعِ فيأخذ منها بَدَلَهُ فهما مالكان للتصرف في البضع ، فلما كان العقد في ملكهما وجب أن تجوز الزيادة فيه كما جازت في ابتداء عقد النكاح من حيث كانا مالِكَيْنِ للعقد ؛ إذْ كان الملك هو التصرف وتصرفهما جائز فيه . ويدل عليه اتفاق الجميع على أنه إذا قبضها جاز ، فلا يخلو بعد الإقباض من أن تكون هِبَةً مستقبلة على ما قال زفر والشافعي أو زيادة في المهر لاحقة بالعقد على ما ذكرنا ، وغير جائز أن تكون هبةً مستقبلة ؛ لأنهما لم يدخلا فيها على أنها هبة وإنما أوْجَبَاها على أنها بَدَلٌ من البُضْعِ لاحقةٌ بالعقد ، ولا يجوز لنا أن نُلْزِمَهُما عقداً لم يعقداه على أنفسهما لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " ، فإذا عَقَدا على أنفسهما عقداً لم يَجُزْ لنا إلزامُهما عقداً غيره بظاهر الآية والسنّة ، إذْ كانت الآية إنما اقتضت إيجابَ الوفاء بنفس العقد الذي عقده لا بغيره ؛ لأن إلزامه عقداً غيره لا يكون وفاءً بالعقد الذي عقده ، وكذلك قوله : " المسلمون عند شروطهم " يقتضي الوفاء بالشرط ، وليس في إسقاط الشرط وإلزامهما معنى غيره الوفاء بالشرط ؛ فدلّت الآية والسنّة معاً على بطلان قول المخالف من وجهين ، أحدهما : اقتضاء عمومهما لإيجاب الوفاء بالعقد والشرط ، والآخر : ما انتظمتا من امتناع إلزام عقد أو شرط غير ما عقداه ؛ ولما بطل إلزامهما الهبة بعد القبض وصحَّ التمليك دلّ على أنها مُلِكَتْ من جهة الزيادة .
ويدل على أنه غير جائز أن يجعلها هبة ، أنها متى كانت زيادة كانت مضمونة على المرأة بالقبض ؛ لأنها بَدَلٌ من البُضْعِ ، وإذا كانت هبةً لم تكن مضمونة عليها ، وإذا كانت زيادة سقطت بالطلاق قبل الدخول ، وإذا كانت هبة لم يؤثر الطلاق فيها ، وإذا دخلا فيها على عقد يوجب الضمان لم يَجُزْ لنا إلزامهما عقداً لا ضمان فيه ، ألا ترى أنهما إذا تعاقدا عَقْدَ بَيْعٍ لم يَجُزْ إلزامهما عقد هبة ولو تعاقدا عقد إقالة لم يلزمهما عقد بيع مستَقْبَلٍ ؟ وفي ذلك دليل على أنه غير جائز إثباتُ الهِبَةِ بعقد الزيادة ، وإذا لم تكن هبة وقد صح التمليك كانت زيادة لاحقة بالعقد بدلاً من البضع مع التسمية . وأما قول مالك في جعله إياها هِبَةٌ ، ثم قوله : " إنه إذا طلقها قبل الدخول رجع إليه نصف الزيادة " فإنه قَوْلٌ غير منتظم ؛ لأنها إن كانت هبةً فلا تعلق لها بعقد النكاح ولا بالمهر ولا تأثير للطلاق في رجوع شيء منها إليه ، وإن كانت زيادة في المهر فغير جائز بطلانها بالموت . وإنما قال أصحابنا : " إنه إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة كلها " مِنْ قِبَلِ أن الزيادة لما لم تكن موجودة في العقد وإنما كانت مُلْحَقَةً به ، وجب أن يكون بقاؤها موقوفاً على سلامة العقد أو الدخول بالمرأة ، ألا ترى أن الزيادة في البيع إنما تلحق به على شرط بقاء العقد وأنه متى بطل العقد بطلت الزيادة ؟ فكذلك الزيادة في المهر .
مطلب : المهر المسمَّى يبطل جميعه بالطلاق قبل الدخول وإنما يجب نصف المسمى لها على معنى المتعة
فإن قيل : التسمية الموجودة في العقد إنما يبطل بعضها بورود الطلاق عليها قبل الدخول ، فهلاّ كانت الزيادة كذلك ، إذ كانت إذا صحت ولحقت به كانت بمنزلة وجودها . فيه فلا فرق بينها وبين المسمى فيه ! قيل له : عندنا أن المسمَّى في العقد يبطل كله أيضاً إذا طلق قبل الدخول لبطلان العقد المسمَّى فيها كهلاك المبيع قبل القبض ، وإنما يجب النصف على جهة الاستقبال كالمتعة . وقد رُوي عن إبراهيم النخعي أنه قال فيمن طلق قبل الدخول وقد سَمَّى لها : " إن نصف المسمَّى هو متعتها " وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي ؛ وعلى هذا المعنى قالوا في شَاهِدَيْن شهدا على رجل بطلاق امرأته قبل الدخول وهو يجحد ثم رجعا : " إنهما يضمنان للزوج نصف المهر الذي غرم " ؛ لأن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المهر والنصف الذي يلزمه في التقدير كأنه دين مستأنف ألزماه بشهادتهما ، فعلى هذا لا يختلف حكم الزيادة والتسمية في سقوطهما بالطلاق قبل الدخول .
فإن قيل : هذا التأويل يؤدي إلى مخالفة قوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } [ البقرة : 237 ] لأنك قلت إن الجميع يسقط ويجب النصف على وجه الاستيناف . قيل له : ليس في الآية نفي لأن يكون النصف الواجب بعد الطلاق مهراً على وجه الاستيناف ، وإنما فيه وجوب نصف المفروض غير مقيَّد بوصف ولا شرط ، ونحن نوجب النصف أيضاً ، فليس فيما ذكرنا من وجوبه في التقدير على وجه الاستيناف على أنه متعتها مخالفة للآية . ويدل على أن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع الزيادة ، أنّا قد علمنا أن العقد إذا خلا من التسمية يوجب مهر المثل ، إذْ غير جائز أن يملك البضع بلا بدل ؛ ثم إذا رد الطلاق قبل الدخول أسقطه ، إذْ لم يكن مسمًّى في العقد ، كذلك الزيادة لما لم تكن مسماة في العقد وجب أن يسقطها الطلاق قبل الدخول وإن كانت قد وجبت بإلحاقها بالعقد ، والله أعلم .