باب نكاح الإماء
مطلب : تخصيص الحكم بشيء في اللفظ لا يدل على نفيه عما عداه
قال الله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحَصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ } قال أبو بكر : الذي اقتضته هذه الآية إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطّول إلى الحرائر المؤمنات ؛ لأنه لا خلاف أن المراد بالمحصنات ههنا الحرائر وليس فيها حظر لغيرهن ، لأن تخصيص هذه الحال بذكر الإباحة فيها لا يدل على حظر ما عداها ، كقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] لا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحال ، وقوله تعالى : { لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] لا يدل على إباحته إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة ، وقوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به } [ المؤمنون : 117 ] ليس بدلالة على أن أحدنا يجوز أن يقوم له برهان على صحة القول بأن مع الله إلهاً آخر ، تعالى الله عن ذلك ؛ وقد بينا ذلك في أصول الفقه . فإذاً ليس في قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } الآية ، إلا إباحة نكاح الإماء لمن كانت هذه حاله ، ولا دلالة فيه على حكم من وجد طَوْلاً إلى الحرة لا بحظر ولا إباحة .
وقد اختلف السلف في معنى الطَّوْلِ ، فرُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي أنهم قالوا : " هو الغِنَى " . ورُوي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم قالوا : " إذا هَوِي الأَمَةَ فله أن يتزوجها وإن كان موسراً إذا خاف أن يزني بها " . فكان معنى الطول عند هؤلاء في هذا الموضع أن لا ينصرف قلبه عنها بنكاح الحرة لميله إليها ومحبته لها ، فأباحوا له في هذه الحال نكاحها . والطَّوْلُ يحتمل الغنى والقدرة ويحتمل الفضل ، قال الله تعالى : { شديد العقاب ذي الطول } [ غافر : 3 ] ، قيل فيه : ذو الفضل ، وقيل : ذو القدرة ، والفضلُ والغِنَى يتقاربان في المعنى ، فاحتمل الطّوْلُ المذكور في الآية الغِنَى والقدرة ، واحتمل الفضل والسعة . فإذا كان معناه الغنى احتمل وجهين : أحدهما حصول الغنى له بكون الحرة تحته ، والثاني : غنى المال وقدرته على تزوج حُرَّة . وإذا كان معناه الفضل احتمل إرادة الغنى ؛ لأن الفضل يوجب ذلك ، والثاني : اتساع قلبه لتزوج الحرة والانصراف عن الأَمَةِ ، وأنه إن لم يتسع قلبه لذلك وخشي الإقدام من نفسه على محظور جاز له أن يتزوجها وإن كان موسراً على ما رُوي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم ؛ هذه الوجوه كلها تحتملها الآية .
وقد اختلف السلف في ذلك ، فرُوي عن ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير والشعبي ومكحول : " لا يتزوج الأَمَةَ إلا أن لا يجد طَوْلاً إلى الحرة " . ورُوي عن مسروق والشعبي قالا : " نِكَاحُ الأَمَةِ بمنزلة المَيْتَةِ والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا لمضطرّ " . ورُوي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب روايةً وإبراهيم والحسن روايةً والزهري قالوا : " ينكح الأمة وإن كان موسراً " . وعن عطاء وجابر بن زيد : " أنه إن خشي أن يزني بها تزوجها " . ورُوي عن عطاء : " أنه يتزوج الأَمَةَ على الحرّة " . وعن عبدالله بن مسعود قال : " لا يتزوج الأَمَةَ على الحرة إلا المملوكُ " . وقال عمر وعليّ وسعيد بن المسيب ومكحول في آخرين : " لا يتزوج الأمة على الحرة " . وقال إبراهيم : " يتزوج الأمة على الحرّة إذا كان له منها ولد " وقال : " إذا تزوج أَمَةً وحرة في عقد واحد بطل نكاحهما جميعاً " . وقال ابن عباس ومسروق : " إذا تزوج حُرَّةً فهو طلاق الأَمَةِ " .
وقال إبراهيم روايةً : " يفرِّقُ بينه وبين الأَمَةِ إلا أن يكون له منها ولد " . وقال الشعبي : " إذا وجد الطَّوْلَ إلى الحرة بطل نكاح الأمة " . ورَوَى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : " لا تُنكَحُ الأَمَةُ على الحرة إلا أن تشاء الحرة ويَقْسِمُ للحرة يومين وللأمة يوماً " . قال أبو بكر : وهذا يدل على أنه كان لا يرى تزويج الأمَةِ على الحرة جائزاً إن لم تَرْضَ الحرة .
واختلفوا فيمن يجوز أن يتزوج من الإماء ، فرُوي عن ابن عباس أنه قال : " لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة " . وقال إبراهيم ومجاهد والزهري : " يجمع أربع إماءٍ إن شاء " . فاختلف السلف في نكاح الأَمَةِ على هذه الوجوه ؛ واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضاً ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد : " للرجل أن يتزوج أَمَةً إذا لم تكن تحته حُرَّةٌ وإن وجد طَوْلاً إلى الحرة ، ولا يتزوجها إذا كانت تحته حرة " . وقال سفيان الثوري : " إذا خشي على نفسه في المملوكة فلا بأس بأن يتزوجها وإن كان موسراً " . وقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي : " الطَّوْلُ المالُ ؛ فإذا وَجَدَ طَوْلاً إلى الحرة لا يتزوج أَمَةً ، وإن لم يجد طولاً لم يتزوجها أيضاً حتى يخشى العَنَتَ على نفسه " . واتفق أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة ، ولا يفرقون بين إذن الحرة في ذلك وغير إذنها . وقال ابن وهب عن مالك : " لا بأس بأن يتزوج الرجلُ الأَمَةَ على الحرةِ والحرَّةُ بالخيار " . وقال ابن القاسم عنه في الأمة تُنْكح على الحرة : " أرى أن يفرق بينهما " ثم رجع وقال " تُخَيَّر الحرة ، إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت " . قال : وسئل مالك عن رجل تزوج أمة وهو ممن يجد طَوْلاً إلى الحرة ، قال : " أرى أن يفرق بينهما " فقيل له : إنه يخاف العنت ، قال : " السوط يضرب به " ، ثم خفّفه بعد ذلك ، قال : وقال مالك : " إذا تزوج العبدُ أَمَةً على حرة فلا خيار للحرة لأن الأمة من نسائه " . وقال عثمان البتّي : " لا بأس أن يتزوج الرجلُ الأَمَةَ على الحرّةِ " .
والدليل على جواز نكاح الأمة وإن قدر على تزوج الحرة إذا لم تكن تحته ، قول الله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 3 ] ، قد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع القدرة على نكاح الحرة ، أحدهما : إباحة النكاح على الإطلاق في جميع النساء من العدد المذكور من غير تخصيص لحرةٍ من أمة . والثاني : قوله تعالى في نسق الخطاب : { أو ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 3 ] ، ومعلوم أن قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 3 ] غير مكتفٍ بنفسه في إفادة الحكم وأنه مفتقر إلى ضمير وضميره هو ما تقدم ذكره مظهراً في الخطاب وهو عقد النكاح ، فكان تقديره : فاعقدوا نكاحاً على ما طاب لكم من النساء أو على ما ملكت أيمانكم ؛ وغير جائز إضمارُ الوَطْءِ فيه ، إذْ لم يتقدم له ذكر فثبت بدلالة هذه الآية أنه مخير بين تزويج الأمة أو الحرة .
فإن قيل : قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] إباحةٌ معقودة بشرط ، وهي أن تكون مما طاب لنا ، فدل على أنه مما طاب حتى يجوز العقد ، وهو إذا كان كذلك كان بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان . قيل له : قوله تعالى : { ما طاب لكم } [ النساء : 3 ] يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون معناه ما استطبتموه ، فيكون مفيداً للتخيير ، كقول القائل : " اجلس ما طاب لك في هذه الدار وكُلْ ما طاب لك من هذا الطعام " فيفيد تخييرَهُ في فِعْلِ ما شاء منه . والوجه الآخر : ما حلّ لكم . فإن كان المراد الوجه الأوّل فقد اقتضى تخييره في نكاح من شاء وذلك عموم في الحرائر والإماء ، وإن كان معناه ما حلَّ لكم ، فإنه قد عقبه ببيان ما طاب لكم منها ، وهو قوله تعالى : { مثنى وثُلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 3 ] ، فقد خرج بذلك عن حَيِّزِ الإجمال إلى حَيِّزِ العموم ، واستعمالُ العموم واجبٌ كيف تصرفت الحال . وعلى أنها لو كانت محتملةً للعموم والإجمال جميعاً لكان حَمْلُها على معنى العموم أوْلى لإمكان استعماله ، ومتى أمكننا استعمال حكم اللفظ على وجهٍ فعلينا استعمالُه ؛ ويدل عليه قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتغُوا بأمْوَالِكُمْ } وذلك عموم في الحرائر والإماء . ويدل عليه قوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم وطعامكم حِلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] ، والإحصانُ اسم يقع على الإسلام وعلى العَقْدِ ، يدل عليه قوله تعالى : { فإذَا أُحْصِنَّ } رُوي عن بعض السلف : " فإذا أسلمن " ، وقال بعضهم : " فإذا تزوجن " . ومعلوم أنه لم يُرِدْ به التزويج في هذا الموضع ، فثبت أنه أراد العفاف ، وذلك عموم في الحرائر والإماء . وقوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] هو عموم أيضاً في تزوج الإماء الكتابيات ، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } [ النور : 32 ] ، وذلك عموم يوجب جواز نكاح الإماء كما اقتضى جواز نكاح الحرائر . ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } [ البقرة : 221 ] ، ومحال أن يخاطَبَ بذلك إلا من قدر على نكاح المشركة الحرة ، ومن وَجَدَ طَوْلاً إلى الحرة المشركة فهو يجد طَوْلاً إلى الحرة المسلمة ، فاقتضى ذلك جواز نكاح الأمة مع وجود الطَّوْلِ إلى الحرة المسلمة كما اقتضاه مع وجوده إلى الحرة المشركة . ويدل عليه من طريق النظر أن القدرة على نكاح امرأة لا تحرم نكاح أخرى ، كالقدرة على تزويج البنت لا يحرّم تزويج الأم ، والقدرة على نكاح المرأة لا يحرم نكاح أختها ، فوجب على هذا أن لا تمنع قدرته على نكاح الحرة من تزويج الأمة بل الأمةُ أيسر أمراً في ذلك من الأختين والأم والبنت ؛ والدليل عليه جواز اجتماع الحرة والأمة تحته عند جميع فقهاء الأمصار وامتناع اجتماع الأم والبنت والأختين تحته ، فلما لم يكن إمكان تزويج البنت الذي هو أغلظ حكماً مانعاً من الأم الحرة والأمة وجب أن لا يكون لإمكان تزوج الحرة تأثير في منع نكاح الأمة .
واحتج من خالف في ذلك بقوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ } إلى قوله تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ، وأنه أباح نكاح الأمة بشرط عدم الطَّوْلِ إلى الحرة وخشية العَنَتِ ، فلا تجوز استباحته إلا بوجود الشرطين جميعاً ؛ وهذه الآية قاضية على ما تلوت من الآي لما فيها من بيان حكم الأمة في التزويج . قيل له : ليس في هذه الآية حَظْرُ نكاح الأمة في حال وجود الطَّوْلِ إلى الحرة ، وإنما فيها إباحته في حال عدم الطّوْل إليها ، وسائر الآي التي تَلَوْنا يقتضي إباحة نكاحها في سائر الأحوال ، فليس في أحدهما ما يوجب تخصيص الأخرى لورودهما جميعاً في حكم الإباحة ، وليس في واحدة منهما حظر ، فلا يجوز أن يقال إن هذه مخصصة لها ؛ والجميع وارد في حكم واحد .
فإن قيل : هذا كقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً } [ المجادلة : 4 ] فكان مقتضى جميع ذلك امتناع جوازه مع وجود ما قبله . قيل له : لأنه جعل الفرض بدياً عِتْقَ رقبة ، فاقتضى ذلك أن يكون الفرض هو العتق لا غير ، فلما نقله عند عدم الرقبة إلى الصيام اقتضى ذلك أن لا يجزي غيره إذا عدم الرقبة ، فلما قال : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً } [ المجادلة : 4 ] كان حكم الكفّارة مقصوراً على المذكور في الآية على ما اقتضته من الترتيب ، وليس معك آية تحظّر نكاح الإماء حتى إذا ذكرت إباحتهن بشرط وحال كان عدم الشرط والحال موجباً لحظرهنّ ، بل سائر الآي الواردة في إباحة النكاح ليس فيها فرق بين الحرائر والإماء ، فليس إذاً في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ } دلالةٌ على حَظْرِهِنّ عند وجود الطّولْ إلى الحرائر .
وذكر إسماعيل بن إسحاق هذه الآية وذكر اختلاف السلف فيها ، ثم ذكر قول أصحابنا في تجويزهم نكاح الأمة مع القدرة على تزويج الحرة ، فقال : وهذا قول تجاوز فساده ولا يحتمل التأويل ؛ لأنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أُبيحت . قال أبو بكر : قوله : " لا يحتمل التأويل " خلافُ الإجماع ؛ وذلك لأن الصحابة قد اختلفوا فيه ، وقد حكينا أقاويلهم ، ولولا خشية الإطالة لذكرنا أسانيدها ؛ ولو كان لا يحتمل التأويل لما قال به من قال من السلف إذ غير جائز لأحد تأويل آية على معنى لا تحتمله ، وقد ظهر هذا الاختلاف في السلف فلم ينكر بعضهم على بعض القول فيها على الوجوه التي اختلفوا فيها ، ولو كان هذا القول غير محتمل ولا يسوغ التأويل فيه لأنكره من لم يقل به منهم على قائليه ، فإذا كان هذا القول مستفيضاً فيهم من غير نكير ظهر من أحد منهم على قائليه فقد حصل بإجماعهم تسويغُ الاجتهاد فيه واحتمال الآية للتأويل الذي تأولته ؛ فقد بان بما وَصَفْنا أن إنكاره لاحتمال التأويل غير صحيح . وأما قوله : " إنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أُبيحت " فإنه لا يخلو من أن يريد أنه محظور فيه نصّاً أو دليلاً ، فإن ادَّعى نصّاً طولب بتلاوته وإظهاره ولا سبيل له إلى ذلك ، وإن ادَّعَى على ذلك دليلاً طولب بإيجاده وذلك معدوم ، فلم يحصل من قوله إلا على هذه الدعوى لنفسه والتعجب من قول خصمه ، اللهم إلا أن يزعم أن تخصيصه الإباحة بهذه الحال والشرط دليلٌ على حَظْرِ ما عداه ، فإن كان إلى هذا ذهب فإن هذا دليل يحتاج إلى دليل ، وما نعلم أحداً استدلّ بمثله قبل الشافعي ، ولو كان هذا دليلاً لكانت الصحابة أوْلى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها من المسائل مع كثرة ما اختلفوا فيه من أحكام الحوادث التي لم يَخْلُ كثير منها من إمكان الاستدلال عليها بهذا الضرب كما استدلوا عليها بالقياس والاجتهاد وسائر ضروب الدلالات ، وفي تركهم الاستدلال بمثله دليلٌ على أن ذلك لم يكن عندهم دليلاً على شيء ؛ فإذاً لم يحصل إسماعيل من قوله : " هو محظور في الكتاب " على حجة ولا شبهة . وقد حكى داود الأصبهاني أن إسماعيل سئل عن النص ما هو ؟ فقال : النصّ ما اتفقوا عليه ، فقيل له : فكلّ ما اختلفوا فيه من الكتاب فليس بنصٍّ ؟ فقال : القرآن كله نصّ ، فقيل له : فلم اختلف أصحاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن كله نصّ ؟ فقال داود : ظلمه السائل ، ليس مثله يُسأل عن هذه المسألة ، هو أقلّ من أن يبلغ علمه هذا الموضع . فإن كانت حكاية داود عنه صحيحة فإن ذلك لا يليق بإنكاره على القائلين بإباحة نكاح الأَمَةِ مع إمكان تزوج الحرة ؛ لأنه حكي عنه أنه قال مرة : " ما اتفقوا عليه فهو نصّ " وقال مرة : " القرآن كله نصّ " ، وليس في القرآن ما يخالف قولنا ولا اتفقت الأمّة أيضاً على خلافه . وفي حكاية داود هذا عن إسماعيل عهدة ، وهو غير أمين ولا ثقة فيما يحكيه وغير مصدق على إسماعيل خاصة لأنه كان نفاه من بغداد وقذفه بالعظائم ، وما أظنّ تعجب إسماعيل من قولنا إلا من جهة أنه كان يعتقد في مثله أنه دلالة على حَظْرِ ما عدا المذكور ؛ وقد بيّنا أن ذلك ليس بدليل واستقصينا القول فيه في أصول الفقه .
ومما يدل على صحة قولنا إن خَوْفَ العَنَتِ وعَدَمِ الطَّوْلِ ليسا بضرورة ؛ لأن الضرورة ما يُخاف فيها تَلَفُ النفس ، وليس في فقد الجماع تلف النفس ، وقد أُبيح له نكاح الأَمَةِ ، فإذا جاز نكاح الأمة في غير ضرورة فلا فرق بين وجود الطول وعدمه إذ عدم الطول ليس بضرورة في التزويج إذ لا تقع لأحد ضرورة إلى التزويج إلا أن يُكره عليه بما يوجب تَلَفَ النفس أو بعض الأعضاء . ويدل على أن الإباحة المذكورة في الآية غير معقودة بضرورة قوله في نسق الخطاب : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } وما اضطر إليه الإنسان من ميتة أو لحم خنزير أو نحوه لا يكون الصبر عليه خيراً له ؛ لأنه لو صبر عليه حتى مات كان عاصياً . وأيضاً فليس النكاح بفرض حتى تعتبر فيه الضرورة ، وأصله تأديبٌ ونَدْبٌ ؛ وإذا كان كذلك وقد جاز في غير الضرورة وجب أن يجوز في حال وجود الطول كما جاز في حال عدمه .
وقوله تعالى : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } في نسق التلاوة قيل فيه : إن كلكم من آدم ، وقيل فيه : كلكم مؤمنون . يدل على أنه أراد المساواة بينهم في النكاح ، وهذا يدل على وجوب التسوية بين الحرة والأمة إلا فيما تقوم فيه دلالة التفضيل . وأما من قال : " إن نكاح الحرة طلاقٌ للأَمَةِ " فقوله واهٍ ضعيفٌ لا مَسَاغَ له في النظر ؛ لأنه لو كان كما ذكر لوجب أن يكون الطَّوْلُ إلى الحرّة فاسخاً لنكاح الأمة كما قال الشعبي ، كالمتيمم إذا وجد الماء ينتقض تيممه توضأ أو لم يتوضأ .
مطلب : في تأويل أبي يوسف قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً }
وقد روي عن أبي يوسف أنه تأول قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } على عدم الحرة في ملكه وأن وُجُودَ الطَّوْلِ هو كَوْنُ الحرة تحته . وهذا تأويل سائغ ؛ لأن مَنْ ليس عنده حرة فهو غير مستطيع للطول إليها ، إذ لا يصل إليها ولا يقدر على وَطْئها ، فكان وجود الطول عنده هو ملك وَطْءِ الحرة . وهو أوْلى بمعنى الآية من تأويل من تأوله على القدرة على تزوجها ؛ لأن القدرة على المال لا توجب له ملك الوطء إلا بعد النكاح ، فوجود الطول بحال ملك الوطء أخصّ منه بوجود المال الذي به يتوصل إلى النكاح . ويدل عليه أنا وجدنا لملك وطء الزوجة تأثيراً في منع نكاح أخرى ، ولم نجد هذه المَزِيّة لوجود المال ، فإذاً لا حظَّ لوجود المال في منع نكاح الأمة ؛ فتأويلُ أبي يوسف الآية على ملك وَطْءِ الحرة أصحّ من تأويل من تأولها على ملك المال .
فإن قيل : وجود ثمن رقبة الظهار كوجود الرقبة في ملكه ، فهلاّ كان وجود مهر الحرة كوجود نكاحها ! قيل له : هذا خطأ منتقضٌ من وجوه ، أحدها : أنك لم تعقده بمعنى يوجب الجمع بينهما وبدلالة يدل بها على صحة المعنى ، وما خلا من ذلك من دعوى الخصم فهو ساقط غير مقبول . والثاني : أن ذلك يوجب أن يكون وجود مهر امرأة في ملكه كوجود نكاحها في منع تزويج أمّها أو أختها ، فلما لم يكن ذلك كذلك بان به فساد ما ذكرت ؛ وعلى أن الرقبة ليست عَرُوضاً للنكاح لأن الرقبة فرض عليه عِتْقُها ، وغير جائز له الانصراف عنها مع وجودها ، وجائز للرجل أن لا يتزوج مع الإمكان ؛ فلما كان كذلك كان وجود ثمن الرقبة في ملكه كوجودها إذ كانت فرضاً هو مأمور بعتقها على حسب الإمكان ، وليس النكاح بفرض فيلزمه التوصل إليه لوجود المهر ، فليس إذاً لوجود المهر في ملكه تأثير في منع نكاح الأمة وكان واجده بمنزلة من لم يجد . وإنما قال أصحابنا إنه لا يتزوج الأمة على الحُرَّة لما رَوَى الحسن ومجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تُنْكَحُ الأَمَةُ على الحُرَّةِ " ، ولولا ما ورد من الأثر لم يكن تزويج الأمة على الحرة محظوراً ، إذ ليس في القرآن ما يوجب حظره والقياس يوجب إباحته ، ولكنهم اتبعوا الأثر في ذلك والله تعالى أعلم .
باب نكاح الأَمَةِ الكتابية
قال أبو بكر : اختلف أهلُ العلم فيه ، فرُوي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن عبدالعزيز وأبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم كراهة ذلك ، وهو قول الثوري . وقال أبو ميسرة في آخَرِين : " يجوز نكاحُها " ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزُفَر . ورُوي عن أبي يوسف أنه كرهه إذا كان مولاها كافراً والنكاح جائز ؛ ويشبه أن يكون ذهب إلى أن ولدها يكون عبداً لمولاها وهو مسلم بإسلام الأب ، كما يكره بيع العبد المسلم من الكافر . وقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد : " لا يجوز النكاح " . والدليل على جوازه جميع ما ذكرنا من عموم الآي في الباب الذي قبله الموجبة لجواز نكاح الأمة مع وجود الطَّوْلِ إلى الحرة ، ودلالتها على جواز نكاح الأمة الكتابية كهي على إباحة نكاح المسلمة . ومما يختص منها بالدلالة على هذه المسألة قوله عز وجل : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] . وروى جرير عن ليث عن مجاهد في قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] قال : " العفائف " . وروى هشيم عن مطرف عن الشعبي : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] قال : " إحصانها أن تغتسل من الجنابة وتُحْصِنُ فَرْجها من الزنا " . فثبت بذلك أن اسم الإحصان قد يتناول الكتابية ، قال تعالى : { والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فاستثنى ملك اليمين من المحصنات ، فدل على أن الاسم يقع عليهن لولا ذلك لما استثناهن ، وقال تعالى : { فإذَا أُحْصِنَّ فإنْ أَتَيْنَ بفَاحِشَةٍ } فأطلق اسم الإحصان في هذا الموضع على الإماء . ولما ثبت أن اسم المحصنات يقع على الكتابيات من الحرائر والإماء وأطلق الله نكاح الكتابيات المحصنات بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] كان عامّاً في الحرائر والإماء منهن .
فإن احتجوا بقوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] وكانت هذه مشركة ، وقال في آية أخرى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ } ، فكيف إباحة نكاح الإماء مقصورةً على المسلمات منهن دون الكتابيات ، وجب أن يكون نكاحُ الإماء الكتابيات باقياً على حكم الحظر . قيل له : إطلاق اسم المشركات لا يتناول الكتابيات وإنما يقع على عَبَدَةِ الأوثان دون غيرهم ؛ لأن الله تعالى قد فرق بينهما في قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } [ البينة : 1 ] فعطف المشركين على أهل الكتاب ، وهذا يدل على أن إطلاق الاسم إنما يتناول عَبَدَةَ الأوثان دون غيرهم فلم يعمّ الكتابيات ، فغير جائز الاعتراض به في حَظْرِ نكاح الإماء الكتابيات . وأيضاً فلا خلاف بين فقهاء الأمصار أن قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] قاضٍ على قوله : { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] ؛ وذلك لأنهم لا يختلفون في جواز نكاح الحرائر الكتابيات ، فليس يخلو حينئذ قوله : { ولا تنكحوا المشركات } [ البقرة : 221 ] من أن يكون عامّاً في إطلاقه للكتابيات والوثنيات أو أن يكون إطلاقه مقصوراً على الوثنيات دون الكتابيات ؛ فإن كان الإطلاق إنما يتناول الوثنيات دون الكتابيات فالسؤال عنا ساقط فيه ، إذ ليس بنافٍ فيه لنكاح الكتابيات ، وإن كان الإطلاق ينتظم الصنفين جميعاً لو حملناه على ظاهره فقد اتفقوا أنه مرتب على قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] لاتفاق الجميع على استعماله معه في الحرائر منهن . وإذا كان كذلك لم يَخْلُ من أن تكون الآيتان نزلتا معاً ، أو أن تكون إباحة نكاح الكتابيات متأخّرة عن حَظْرِ نكاح المشركات ، أو أن يكون حَظْرُ نكاح المشركات متأخراً عن إباحة نكاح الكتابيات . فإن كانتا نزلتا معاً فهما مستعملتان جميعاً على جهة ترتيب حظر نكاح المشركات على إباحة نكاح الكتابيات ، أو أن يكون نكاح الكتابيات نازلاً بعده فيكون مستعملاً أيضاً ، أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخراً عن إباحة نكاح الكتابيات ، فإن كان كذلك فإنه ورد مرتباً على إباحة نكاح الكتابيات ؛ فالإباحة مستعملة في الأحوال كلها كيف تصرفت الحال . وعلى أنه لا خلاف أن قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] نزل بعد تحريمه نكاح المشركات ؛ لأن آية تحريم المشركات في سورة البقرة ، وإباحةُ نكاح الكتابيات في سورة المائدة وهي نزلت بعدها ، فهي قاضية على تحريم المشركات إن كان إطلاق اسم المشركات يتناول الكتابيات . ثم لما لم تفرّق الآية المبيحة لنكاح الكتابيات بين الحرائر منهن وبين الإماء واقتضى عمومُها الفريقين منهن ، وجب استعمالها فيهما جميعاً وأن لا يعترض بتحريم نكاح المشركات عليهن كما لم يَجُزِ الاعتراض به على الحرائر منهن . وأما تخصيص الله تعالى المؤمنات من الإماء في قوله : { مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ } فقد بيّنا في المسألة المتقدمة أن التخصيص بالذكر لا يدل على أن ما عدا المخصوص حكمه بخلافه .
فإن قيل : لا يصح الاحتجاج بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] في إباحة النكاح ؛ وذلك لأن الإحصان اسمٌ مشترك يتناول معاني مختلفة ، وليس بعموم فيُجْرَى على مقتضى لفظه بل هو مجمل موقوف الحكم على البيان ، فما ورد به البيان من توقيف أو اتفاق صِرْنا إليه وكان حكم الآية مقصوراً عليه ، وما لم يَرِدْ به بيان فهو على إجماله لا يصحّ الاحتجاج بعمومه ؛ فلما اتفق الجميع على أن الحرائر من الكتابيات مرادات به استعملنا حكم الآية فيهنّ ، ولما لم تقم الدلالة على إرادة الإماء الكتابيات احْتَجَنا في إثباتها إلى دليل من غيرها . قيل له : لما رُوي عن جماعة من السلف في قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] أنهن العفائف منهن ، إذ كان اسم الإحصان يقع على العفّة ، وَجَبَ اعتبار عموم اللفظ في جميع العفائف ، إذ قد ثبت أن العفة مرادة بهذا الإحصان ، وما عدا ذلك من ضروب الإحصان لم تقم الدلالة على أنها مرادة . وقد اتفقوا على أنه ليس من شرط هذا الإحصان استكمال شرائطه كلها ، فما وقع عليه الاسم واتفق الجميع على أنه مراد أثبتناه ، وما عداه يحتاج مثبته شرطاً في الإباحة إلى دلالة .
فإن قيل : اسم الإحصان يقع على الحرية ، فما أنكرْتَ أن يكون المراد بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] الحرائر منهن ؟ قيل له : لما كان معلوماً أنه لم يُرِدْ بذكر الإحصان في هذا الموضع استيفاءَ شرائطه ، لم يَجُزْ لأحد أن يقتصر بمعنى الإحصان فيه على بعض ما يقع عليه الاسم دون بعض ، بل إذا تناوله الاسم من وجه وجب اعتبار عمومه فيه ، فلما كانت الأَمَةُ قد يتناولها اسم الإحصان على الإطلاق في بعض الوجوه من طريق العفّة أو غيرها جاز اعتبار عموم اللفظ فيه ، وإذا جاز لك أن تقتصر باسم الإحصان على الحرية دون غيرها فجائز لغيرك أن يقتصر به على العفاف دون غيره ، وغير جائز لنا إجمال حكم اللفظ مع إمكان استعماله على العموم ؛ وقد أطلق الله اسم الإحصان على الأَمَةِ فقال تعالى : { فإذَا أُحْصِنَّ فإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ } فقال بعضهم : أراد : فإذا أسلمن ، وقال بعضهم : فإذا تزوجن ؛ فكان اعتبار هذا العموم سائغاً في إيجاب الحد عليهن . وقد قال في الآية : { والمحصنات من المؤمنات } [ المائدة : 5 ] ولم يُرِدْ به حصول جميع شرائط الإحصان وإنما أراد به العفائف منهن ، وحرم ذوات الأزواج بقوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فكان عموماً في تحريم ذوات الأزواج إلا ما استثناهن ؛ فكذلك قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] لا يمنع ذكر الإحصان فيه من اعتبار عمومه فيمن يقع عليه الاسم من جهة العفاف على ما رُوي عن السلف . ومن جهة النظر أنه لا خلاف بين الفقهاء في إباحة وَطْءِ الأَمَةِ الكتابية بملك اليمين ، ولك من جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بملك النكاح على الوجه الذي يجوز عليه نكاح الحرة المنفردة ، ألا ترى أن المسلمة لما جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بالنكاح ، وأن الأخت من الرضاعة وأم المرأة وحليلة الابن وما نكح الآباء لما لم يجز وطؤهن بملك اليمين حرم وطؤهن بالنكاح ؟ فلما اتفق الجميع على جواز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وجب جواز وطئها بالنكاح على الوجه الذي يجوز فيه وطء الحرة المنفردة .
فإن قيل : قد يجوز وَطْءُ الأَمَةِ الكتابية بملك اليمين ولا يجوز بالنكاح كما إذا كانت تحته حرّةٌ . قيل له : لم نجعل ما ذكرنا علّة لجواز نكاحها في سائر الأحوال ، وإنما جعلناه علّة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها ، ألا ترى أن الأَمَةَ المسلمة يجوز وطؤها بملك اليمين ويجوز نكاحها منفردة ، ولو كانت تحته حرةٌ لما جاز نكاحها لأنه لم يجز نكاحها من طريق جمعها إلى الحرة كما لا يجوز نكاحها لو كانت أختها تحته وهي أَمَةٌ ؟ فعِلَّتُنا صحيحة مستمرة جارية في معلولاتها غير لازم عليها ما ذكرتَ ، إذ كانت منصوبة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها ؛ وبالله التوفيق .
باب نكاح الأَمَةِ بغير إذن مولاها
قال الله تعالى : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ } . قال أبو بكر : قد اقتضى ذلك بطلان نكاح الأمة إلا أن يأذن سيدها ؛ وذلك لأن قوله تعالى : { فَانْكِحُوهُنَّ بإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } يدل على كون الإذن شرط في جواز النكاح وإن لم يكن النكاح واجباً ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " ؛ أن السلم ليس بواجب ، ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط ، كذلك النكاح وإن لم يكن حتماً فعليه إذا أراد أن يتزوج الأمة أن لا يتزوجها إلا بإذن سيدها . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في نكاح العبد ؛ حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن شاذان قال : أخبرنا معلّى قال : حدثنا عبدالوارث قال : حدثنا القاسم بن عبدالواحد عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تَزَوَّجَ العَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ " . حدثنا عبدالباقي قال : حدثنا محمد بن الخطابي قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا الحسن بن صالح عن عبدالله بن محمد بن عقيل قال : سمعت جابر بن عبدالله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ " . ورَوَى عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : " نكاح العبد بغير إذن سيده زنا " . وروى هشيم عن يونس عن نافع : " أن مملوكاً لابن عمر تزوج بغير إذنه فضربهما وفرق بينهما وأخذ كل شيء أعطاها " . وقال الحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي : " إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فالأمر إلى المولى إن شاء أجاز وإن شاء رد " . وقال عطاء : " نكاح العبد بغير إذن سيده ليس بزنا ولكنه أخطأ السنّة " . وروى قتادة عن خِلاس : " أن غلاماً لأبي موسى تزوج بغير إذنه ، فرفع ذلك إلى عثمان ، ففرق بينهما وأعطاها الخمسين وأخذ ثلاثة أخماس " .
قال أبو بكر : واتفق من ذَكَرْنا قوله من السلف أنه لا حَدَّ عليهما ، وإنما رُوي الحَدُّ عن ابن عمر ، وجائز أن يكون جلدهما تعزيراً لا حدّاً فظن الراوي أنه حَدٌّ . واتفق علي وعمر في المتزوجة في العدة أنه لا حدَّ عليها ، ولا نعلم أحداً من الصحابة خالفهما في ذلك . والعبد الذي تزوج بغير إذن مولاه أيسر أمراً من المتزوجة في العدّة ؛ لأن ذلك نكاح تلحقه الإجازة عند عامة التابعين وفقهاء الأمصار ، ونِكَاحُ المعتدَّة لا تلحقه إجازة عند أحد ؛ وتحريم نكاح المعتدَّة منصوص عليه في الكتاب في قوله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } [ البقرة : 235 ] ، وتحريمُ نِكاحِ العبد من جهة خبر الواحد والنظر .
فإن قيل : قال النبي صلى الله عليه وسلم في العبد يتزوج بغير إذن مولاه : " هو عَاهِرٌ " ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ولِلْعَاهِر الحَجَرُ " . قيل له : لا خلاف أن العبد غير مراد بقوله : " وللعاهر الحجر " لأنه لا يرجم إذا زنى ، وإنما سماه عاهراً على المجاز والتشبيه بالزاني لإقدامه على وَطْءٍ محظور ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ والرِّجْلانِ تَزْنِيَانِ " وذلك مجاز ، فكذلك قوله في العبد . وأيضاً فقد قال : " أيّما عَبْدٍ تَزَوَّج بغير إذْنِ مولاه فهو عَاهِرٌ " ولم يذكر الوطء ، ولا خلاف أنه لا يكون عاهراً بالتزويج ؛ فدل أن إطلاقه ذلك على وجه المجاز تشبيهاً له بالعاهر .
وقوله تعالى : { فَانْكِحُوهُنَّ بإذْنِ أَهْلِهِنَّ } يدل على أن للمرأة أن تُزَوِّج أَمَتَها ؛ لأن قوله : { أهلهن } المراد به الموالي ؛ لأنه لا خلاف أنه لا يجوز لها أن تتزوج بغير إذن مولاها ، وأنه لا اعتبار بإذن غير المولى إذا كان المولى بالغاً عاقلاً جائز التصرف في ماله . وقال الشافعي : " لا يجوز للمرأة أن تزوج أَمَتَها وإنما توكّل غيرها بالتزويج " ، وهو قول يردّه ظاهر الكتاب ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين عقدها التزويج وبين عقد غيرها بإذنها . ويدل على أنها إذا أذنت لامرأة أخرى في تزويجها أنه جائز لأنها تكون منكوحة بإذنها ، وظاهرُ الآية مقتضٍ لجواز نكاحها بإذن مولاها ، فإذا وكل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن يجوز ذلك ؛ لأن ظاهر الآية قد أجازه ، ومن منع ذلك فإنما خصَّ الآية بغير دلالة . وأيضاً فإن كانت هي لا تملك عقد النكاح عليها فغير جائز توكيلها غيرها به ؛ لأن توكيل الإنسان إنما يجوز فيما يملكه فأما ما لا يملكه فغير جائز توكيل غيره به في العقود التي تتعلق أحكامها بالموكل دون الوكيل ، وقد يصح عندنا توكيل من لا يصح عقده إذا عقد في العقود التي تتعلق أحكامها بالوكيل دون الموكّل وهي عقود البياعات والإجارات ، فأما عقد النكاح إذا وكّل به فإنما يتعلق حكمه بالموكل دون الوكيل ، ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يلزمه المهر ولا تسليمه البُضْعَ ؟ فلو لم تكن المرأة مالكة لعقد النكاح لما صحّ توكيلها به لغيرها إذ كانت أحكام العقود غير متعلقة بالوكيل ، فلما صحَّ توكيلها به مع تعلق أحكامه بها دون الوكيل دلّ على أنها تملك العقد . وهذا أيضاً دليل على أن الحرة تملك عقد النكاح على نفسها كما جاز توكيلها على غيرها به وهو وَلِيُّها .
وقوله تعالى : { وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ } يدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمَّى لها مهراً أو لَمْ يُسَمِّ ؛ لأنه لم يفرق بين من سمَّى وبين من لم يسمّ في إيجابه المهر . ويدل على أنه قد أُريد به مهر المثل قوله تعالى : { بِالمَعْرُوفِ } ، وهذا إنما يُطلق فيما كان مبنيّاً على الاجتهاد وغالب الظنّ في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } [ البقرة : 233 ] .
وقوله تعالى : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يقتضي ظاهره وجوب دفع المهر إليها ، والمهرُ واجبٌ للمولى دونها ؛ لأن المولى هو المالك للوطء الذي أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله ، كما لو آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجرة دونها ، كذلك المهر ؛ ومع ذلك فإن الأَمَةَ لا تملك شيئاً فلا تستحق قبض المهر . ومعنى الآية على أحد وجهين : إما أن يكون المراد إعطاءهن المهر بشرط إذن المولى فيه ، فيكون الإذن المذكور بَدِيّاً مُضْمَراً في إعطائها المهر كما كان مشروطاً في التزويج ، فيكون تقديره : فأنكحوهن بإذن أَهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهم ؛ فيدل ذلك على أنه غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى ، وهو كقوله تعالى : { والحافظين فروجهم والحافظات } [ الأحزاب : 35 ] والمعنى : والحافظات فروجهنّ ، وقوله تعالى : { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] ومعناه : والذاكرات الله ؛ وتكون دلالة هذا الضمير ما في الآية من نَفْي ملكها لتزويجها نفسها وأن المولى أَمْلَكُ بذلك منها ؛ وقوله تعالى : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء } [ النحل : 75 ] فَنَفَى ملكه نفياً عامّاً ؛ وفيه الدلالة على أن الأَمَةَ لا تستحق مهرها ولا تملكه . والوجه الآخر أن يكون أضاف الإعطاء إليهنّ والمراد المولى ، كما لو تزوج صبية صغيرة أو أَمَةً صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما ، ويكون المراد إعطاء الأب أو المولى ، ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد مطله به إنه مانع لليتيم حقّه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط اليتيم حقه ؟ وقال تعالى : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } [ الإسراء : 26 ] وقد انتظم ذلك الصغارَ والكبارَ من أهل هذه الأصناف ؛ وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز أن يكون المراد بقوله : { وآتُوهُنَّ } إيتاءَ من يستحق ذلك من مواليهن .
وزعم بعض أصحاب مالك أن الأَمَةَ هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها ، واحتج للمهر بقوله تعالى : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ، وقد بيّنّا وجه ذلك ومعناه ، وعلى أنه إن كان المهر يجب لها لأنه بَدَلُ بُضْعِها فكذلك يجب أن تكون الأجرة لها لأنه بدل منافعها . ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكاً لبضعها ، فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها ، لأنه بدل ملك المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بُضْعِها ولا منافع بدنها ، والمولى هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح ، فلا فرق بينهما . وحكى هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يُزَوِّج المولى أَمَتَهُ عَبْدَهُ بغير صَدَاقٍ ؛ وهذا خلاف الكتاب زَعْمٌ . قال أبو بكر : ما أشدَّ إقدام مخالفينا على الدعاوى على الكتاب والسنة ! ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلّت دعاويه بما لا سبيل له إلى إثباته ؛ فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته عبده بغير تسمية مهر ، فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } [ البقرة : 236 ] فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مُسَمًّى . فدعواه أن ذلك خلاف الكتاب قد أكذبها الكتابُ ، وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا ما لا نعلم أحداً من العراقيين قاله ؛ فحصل هذا القائل على معنيين باطلين ، أحدهما دعواه على الكتاب ، وقد بيّنا أن الكتاب بخلاف ما قال . والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل أحد منهم ذلك ، بل قولهم في ذلك إنه إذا زوج أَمَتَهُ من عبده وجب لها المهر بالعقد لامتناع استباحة البُضْع بغير بدل ، ثم يسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين ، فههنا حالان : إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد ، والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد ، فيسقط كما أن رجلاً لو كان له على آخر مال فقضاه إياه كان لما قبضه حالان : إحداهما حال قبضه فيملكه مضموناً بمثله ثم يصير قصاصاً بماله عليه ، وكما نقول في الوكيل في الشّرَى إن المُشْتَرَى انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في الثاني ملكه إلى الموكل ، ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاض بالمعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم .
قوله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } يعني والله أعلم : فانكحوهن محصنات غير مسافحات ؛ وأمر بأن يكون العقد عليها بنكاح صحيح وأن لا يكون وَطْؤُهَا على وجه الزنا ؛ لأن الإحصان ههنا النكاح والسفاح الزنا . { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } يعني : لا يكون وَطْؤُها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان ؛ قال ابن عباس : " كان قومٍ منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلّون ما خفي منه " ؛ والخِدْنُ هو الصديق للمرأة يزني بها سرّاً ، فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك يمين .
مطلب : الفتاة تطلّق على الأمة ولو عجوزاً
وسمَّى الله الإماء الفتيات بقوله : { مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ } والفتاة اسم للشابة ، والعجوز الحرة لا تسمَّى فتاة ، والأَمَةُ الشابة والعجوز كل واحدة منهما تسمَّى فتاة ؛ ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت عجوزاً لأنها إذا كانت أَمَةً لا توقر توقير الكبيرة . والفتوة حال الغِرَّة والحداثة ؛ والله أعلم بالصواب .
باب حَدِّ الأَمَةِ والعبد
قال الله تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ } . قال أبو بكر : قرىء " فإذا أَحْصَنَّ " بفتح الألف ، وقرىء بضم الألف ؛ فرُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة أن : { أُحْصِنَّ } بالضم معناه تزوجن . وعن عمر وابن مسعود والشعبي وإبراهيم : " أَحْصَنَّ " بالفتح ، قالوا : معناه أسلمن ؛ وقال الحسن : " يحصنها الزوج ويحصنها الإسلام " .
واختلف السلف في حَدِّ الأَمَةِ متى يَجبُ ، فقال من تأول قوله { فإذا أُحصن } بالضم على التزويج : " إن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت ما لم تتزوج " ، وهو مذهب ابن عباس والقائلين بقوله . ومن تأول قوله : { فإذا أَحْصَنَّ } بالفتح على الإسلام ، جعل عليها الحد إذا أسلمت وزنت وإن لم تتزوج ، وهو قول ابن مسعود والقائلين بقوله . وقال بعضهم : تأويل من تأوله على أَسْلَمْنَ بعيدٌ ؛ لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن بقوله : { مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَات } قال : فيبعد أن يقال : " من فتياتكم المؤمنات فإذا آمن " . وليس هذا كما ظنَّ ؛ لأن قوله : { مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَات } إنما هو في شأنِ النكاح ، وقد استأنف ذكر حكم آخر غيره وهو الحدّ ، فجاز استيناف ذكر الإسلام ، فيكون تقديره : " فإذا كنّ مسلمات فأتين بفاحشة فعليهن " هذا لا يدفعه أحد ؛ ولو كان ذلك غير سائغ لما تأوله عمر وابن مسعود والجماعة الذين ذكرنا قولهم عليه . وليس يمتنع أن يكون الأمران جميعاً من الإسلام والنكاح مرادَيْنِ باللفظ ، لاحتماله لهما وتأويل السلف الآية عليهما .
وليس الإسلامُ والتزويج شرطاً في إيجاب الحدّ عليها حتى إذا لم تحصن لم يجب ، لما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبدالله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأَمَةِ إذا زنت ولم تحصن ، قال : " إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوها ، ثمّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوها ولو بِضَفِيرٍ " ، والضفير الحبل . وفي حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال في كل مرة : " فَلْيُقَمْ عَلَيْهَا كِتَابُ الله تَعَالى " فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الحدّ عليها مع عدم الإحصان .
فإن قيل : فما فائدة شرط الله الإحصان في قوله : { فَإذَا أُحْصِنَّ } وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه ؟ قيل له : لما كانت الحرّة لا يجب عليها الرجم إلا أن تكون مسلمة متزوجة ، أخبر الله تعالى أنهن وإن أُحْصِنَّ بالإسلام وبالتزويج فليس عليهن أكثر من نصف حدّ الحرّة ، ولولا ذلك لكان يجوز أن يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه ، فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم وإذا كانت غير محصنة فنصف الحد ، فأزال الله تعالى توهُّم من يظن ذلك وأخبر أنه ليس عليها إلا نِصْفُ الحد في جميع الأحوال ؛ فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدها . ولما أوجب عليها نصف حَدِّ الحرة مع الإحصان علمنا أنه أراد الجلد ، إذ الرجم لا يتنصّف ؛ وقوله تعالى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ } أراد به الإحصان من جهة الحرية لا الإحصان الموجب للرجم ؛ لأنه لو أراد ذلك لم يصح أن يقال عليها نصف الرجم لأنه لا يتبعض .
مطلب : إذا علقت الأحكام بمعان فحيث وجدت فالحكم ثابت
وخصَّ الله الأَمَةَ بإيجاب نصف حدّ الحرة عليها إذا زنت ، وعقلت الأُمَّةُ من ذلك أن العبد بمثابتها ، إذ كان المعنى الموجب لنقصان الحدّ معقولاً من الظاهر وهو الرقّ وهو موجود في العبد . وكذلك قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } [ النور : 4 ] خصَّ المحصناتِ بالذكر وعقلت الأُمَّةُ حكم المحصنين أيضاً في هذه الآية إذا قذفوا ، إذ كان المعنى في المحصنة العفّةَ والحريةَ والإسلامَ ، فحكموا للرجل بحكم النساء بالمعنى . وهذا يدل على أن الأحكام إذا عقلت بمعانٍ فحيثما وجدت فالحكم ثابت حتى تقوم الدلالة على الاقتصار على بعض المواضع دون بعض .
فصل
قوله تعالى : { فَانْكِحُوهُنَّ بإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يدل على جواز عطف الواجب على النَّدْبِ ؛ لأن النكاح نَدْبٌ ليس بفرض ، وإيتاء المهر واجب ؛ ونحوه قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] ثم قال : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] . ويصحّ عَطْفُ النَّدْبِ على الواجب أيضاً كقوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى } [ النحل : 90 ] فالعدل واجبٌ والإحسان نَدْبٌ .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية العوفي : " هو الزنا " . وقال آخرون : هو الضرر الشديد في دين أو دنيا ، من قوله تعالى : { ودّوا ما عنتم } [ آل عمران : 118 ] . وقوله : { لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } راجع إلى قوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ } ، وهذا شَرْط إلى المندوب إليه من تَرْكِ نِكاح الأَمَةِ والاقتصار على تزوج الحرة لئلا يكون ولده عبداً لغيره ، فإذا خشي العَنَتَ ولم يأْمَنْ مواقعة المحظور فهو مباح لا كراهة فيه لا في الفعل ولا في الترك . ثم عقب ذلك بقوله تعالى : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فأبان عن موضع الندْب ، والاختيارُ هو تَرْكُ نكاح الأَمَةِ رأساً ؛ فكانت دلالة الآية مقتضية لكراهية نكاح الأمةَ إذا لم يَخْشَ العَنَتَ ، ومتى خشي العَنَتَ فالنكاح مباحٌ إذا لم تكن تحته حرَّةٌ . والاختيارُ أن يتركه رأساً وإن خشي العنت ، لقوله : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } . وإنما ندب الله تعالى إلى ترك نكاح الأَمَة رأساً مع خَوْفِ العَنَتِ لأن الولد المولود على فراش النكاح من الأَمَةِ يكون عبداً لسيدها ، ولم يكره استيلاد الأمة بملك اليمين لأن ولده منها يكون حرّاً .
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق معنى الآية في كراهة نكاح الأمة ؛ حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي قال : حدثنا محمد بن عقبة بن هرم السدوسي قال : حدثنا أبو أمية بن يعلى قال : حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انْكَحُوا الأَكْفَاءَ وأَنْكِحُوهُنَّ واخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ وإيَّاكُمْ والزِّنْجَ فَإِنّه خَلْقٌ مُشَوَّهٌ " . قوله : " انكحوا الأكفاء " يدل على كراهة نكاح الأمة لأنها ليست بكفُوٍ للحرّ ؛ وقوله : " اختاروا لنطفكم " يدل على ذلك أيضاً لئلا يصير ولده عبداً مملوكاً وماؤه ماء حر فينتقل بتزويجه إلى الرقّ . ورُوي في خبر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فإنّ عِرْقَ السُّوءِ يُدْركُ ولو بَعْدَ حِينٍ " .