قوله تعالى : { وَالهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } يَحْتجّ به من يُجيزُ ذبح هَدْي الإحصار في غير الحرم ، لإخباره بكونه محبوساً عن بلوغ محلّه ، ولو كان قد بلغ الحرم وذُبح فيه لما كان محبوساً عن بلوغ المحل ؛ وليس هذا كما ظنّوا لأنه قد كان ممنوعاً بديّاً عن بلوغ المحل ثم لما وقع الصلح زال المنع فبلغ محلّه وذُبح في الحرم ، وذلك لأنه إذا حصل المنع في أدنى وقت فجائز أن يقال قد مُنع كما قال تعالى : { قالوا يا أبانا مُنع منا الكيل } [ يوسف : 63 ] وإنما مُنع في وقت وأُطلق في وقت آخر .
وفي الآية دلالة على أن المحَلَّ هو الحرم ، لأنه قال : { وَالهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } فلو كان محله غير الحرم لما كان معكوفاً عن بلوغه ، فوجب أن يكون المحل في قوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } [ البقرة : 196 ] هو الحرم .
باب رمي المشركين مع العلم بأن فيهم أطفال المسلمين وأسراهم
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري : " لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيها أسارى وأطفال من المسلمين ، ولا بأس بأن يحرقوا الحصون ويقصدوا به المشركين ، وكذلك إن تَتَرَّسَ الكفارُ بأطفال المسلمين رُمي المشركون ، وإن أصابوا أحداً من المسلمين في ذلك فلا دِيَة ولا كفارة " ؛ وقال الثوري : " فيه الكفارة ولا دية فيه " .
وقال مالك : " لا تُحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى من المسلمين ، لقوله تعالى : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ، إنما صرف النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لما كان فيهم من المسلمين ، ولو تَزَيَّلَ الكفار عن المسلمين لعذب الكفار " . وقال الأوزاعي : " إذا تَتَرَّسَ الكفار بأطفال المسلمين لم يُرْمَوْا ، لقوله : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ } الآية " .
قال : " ولا يحرق المركب فيه أسارى المسلمين ، ويُرمى الحصنُ بالمَنْجَنِيقِ وإن كان فيه أسارى مسلمون ، فإن أصاب أحداً من المسلمين فهو خطأ ، وإن جاؤوا يتترّسون بهم رُمي وقُصِدَ العدوُّ " ، وهو قول الليث بن سعد . وقال الشافعي : " لا بأس بأن يُرْمَى الحصن وفيه أسارى أو أطفال ، ومن أُصيب فلا شيء فيه ، ولو تترّسوا ففيه قولان ، أحدهما : يُرْمَوْن ، والآخر : لا يُرْمَوْن إلا أن يكونوا ملتحمين ، فيُضرب المشرك ويتوفّى المسلم جهده ، فإن أصاب في هذه الحال مسلماً فإن علمه مسلماً فالدية مع الرقبة وإن لم يعلمه مسلماً فالرقبة وحدها " .
قال أبو بكر : نقل أهل السِّيَرِ أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان ، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه قد يصيبهم وهو لا يجوز تعمّدهم بالقتل ، فدلّ على أن كون المسلمين فيما بين أهل الحرب لا يمنع رَمْيَهم ، إذْ كان القصد فيه المشركين دونهم . ورَوَى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن الصعب بن جثّامة قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيُصاب من ذراريهم ونسائهم ، فقال : " هُمْ مِنْهُمْ " . وبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال : " أَغِرْ على أُبْنَى صَباحاً وَحَرِّقْ " ، وكان يأمر السرايا بأن ينتظروا بمن يغزو بهم ، فإن أذّنوا للصلاة أمسكوا عنهم ، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا ؛ وعلى ذلك مضى الخلفاء الراشدون .
ومعلوم أن من أغار على هؤلاء لا يخلو من أن يصيب من ذراريهم ونسائهم المحظور قتلهم ، فكذلك إذا كان فيهم مسلمون وجب أن لا يمنع ذلك من شنّ الغارة عليهم ورَمْيِهم بالنشّاب وغيره وإن خِيفَ عليه إصابة المسلم .
فإن قيل : إنما جاء ذلك لأن ذراريَّ المشركين منهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصعب بن جثامة . قيل له : لا يجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم في ذراريّهم أنهم منهم في الكفر ؛ لأن الصِّغار لا يجوز أن يكونوا كفاراً في الحقيقة ولا يستحقّون القتل ولا العقوبة لفعل آبائهم في باب سقوط الدية والكفارة . وأما احتجاج من يحتجّ بقوله : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ } الآية ، في مَنْع رَمْي الكفّار لأجل مَنْ فيهم من المسلمين ، فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف ؛ وذلك لأن أكثر ما فيها أن الله كَفَّ المسلمين عنهم لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم ؛ وذلك إنما يدلّ على إباحة ترك رَمْيهم والإقدام عليهم ، فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين ؛ لأنه جائز أن يبيح الكفّ عنهم لأجل المسلمين وجائز أيضاً إباحة الإقدام على وجه التخيير ، فإذاً لا دلالة فيها على حظر الإقدام .
فإن قيل : في فحوى الآية ما يدل على الحظر ، وهو قوله : { لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بغَيْرِ عِلْمٍ } فلولا الحظر ما أصابتهم معرَّةٌ مِنْ قتلهم بإصابتهم إياهم . قيل له : قد اختلف أهلُ التأويل في معنى المَعَرَّةِ ههنا ، فرُوي عن ابن إسحاق أنه غُرْمُ الدية ، وقال غيره : الكفارة ، وقال غيرهما : الغمّ باتفاق قتل المسلم على يده ؛ لأن المؤمن يغتمّ لذلك وإن لم يقصده ؛ وقال آخرون : العيب . وحُكي عن بعضهم أنه قال : " المعرة الإثم " ، وهذا بالط ، لأنه تعالى قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منّا لقوله تعالى : { لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه ، ولم يضع الله عليه دليلاً ، قال الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } [ الأحزاب : 5 ] ، فعلمنا أنه لم يُرِدِ المأثم .
ويُحتمل أن يكون ذلك كان خاصّاً في أهل مكة لحرمة الحرم ، ألا ترى أن المستحق للقتل إذا لجأ إليها لم يُقتل عندنا ؟ وكذلك الكافر الحربي إذا لجأ إلى الحَرَم لم يُقتل ، وإنما يقتل من انتهك حرمة الحرم بالجناية فيه ؛ فمَنْعُ المسلمين من الإقدام عليهم خصوصية لحرمة الحرم .
ويحتمل أن يريد : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد علم أنهم سيكونون من أولاد هؤلاء الكفار إذا لم يقتلوا ؛ فمَنَعَنَا قَتْلَهُمْ لما في معلومه من حدوث أولادهم مسلمين ، وإذا كان في علم الله أنه إذا أبقاهم كان لهم أولاد مسلمون أبقاهم ولم يأمر بقتلهم ؛ وقوله : { لَوْ تَزَيَّلُوا } على هذا التأويل ، لو كان هؤلاء المؤمنون الذين في أصلابهم قد ولَدُوهم وزايلوهم لقد كان أمر بقتلهم ، وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترّسوا بالمسلمين ؛ لأن القصد في الحالين رَمْي المشركين دونهم ومن أُصِيبَ منهم فلا دِيَةَ فيه ولا كفارة ، كما أن من أُصيب برمي حصون الكفار من المسلمين الذين في الحصن لم تكن فيه دية ولا كفارة ؛ ولأنه قد أُبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة ، فصاروا في الحكم بمنزلة من أُبيح قتله فلا يجب به شيء . وليست المعرَّةُ المذكورة دِيَةً ولا كفارة ، إذْ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره ، والأظهر منه ما يصيبه من الغمّ والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك .
وقول من تأوله على العيب محتمل أيضاً ؛ لأن الإنسان قد يُعاب في العادة باتفاق قتل الخطأ على يده وإن لم يكن ذلك على وجه العقوبة .