قوله تعالى : { لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }
قيل فيه ثلاثة أوجه كلها محتمل ، أحدها : مُحْرِمُون بحجّ أو عمرة . والثاني : دخول الحرم ، يقال أحْرَمَ الرجل إذا دخل الحرم ، كما يقال أنْجَدَ إذا أتَى نَجْداً ، وأعْرقَ إذا أتى العِرَاقَ ، وأتْهَمَ إذا أتى تُهَامَةَ . والثالث : الدخول في الشهر الحرام ، كما قال الشاعر :
* قتل الخليفة مُحْرِمَا *
يعني في الشهر الحرام ، وهو يريد عثمان بن عفان رضي الله عنه . ولا خلاف أن الوجه الثالث غير مُرادٍ بهذه الآية ، وأن الشهر الحرام لا يحظر الصيد ، والوجهان الأولان مرادان . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن صيد الحرم للحلال والمحرم ، فدلّ أنه مراد بالآية ، لأنه متى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ينتظمه لفظ القرآن فالواجب أن يحكم بأنه صدر عن الكتاب غير مبتدأ .
وقوله عز وجل : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يقتضي عمومُه صَيْدَ البر والبحر لولا ما خصّه بقوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ } فثبت أن المراد بقوله : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } صيد البر خاصة دون صيد البحر . وقد دل قوله : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أن كل ما يقتله المحرم من الصيد فهو غير ذكيّ ، لأن الله تعالى سماه قتلاً ، والمقتول لا يجوز أكله وإنما يجوز أكل المذبوح على شرائط الذكاة ، وما ذُكّي من الحيوان لا يسمَّى مقتولاً ، لأن كونه مقتولاً يفيد أنه غير مذكّى . وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ " قد دلّ على أن هذه الخمسة ليست مما يؤكل ، لأنه مقتول غير مذكّى ، ولو كان مذكّى كانت إفاتَةُ روحه لا تكون قتلاً ولم يكن يسمَّى بذلك . وكذلك قال أصحابنا فين قال : " لله عليَّ ذبحُ شاةٍ " إن عليه أن يذبح ، ولو قال : " لله عليَّ قَتْلُ شاة " لم يلزمه شيء . وكذلك قال أصحابنا فيمن قال : " لله عليَّ ذبحُ ولدي أو نحره " فعليه شاة ، ولو قال : " لله عليَّ قتل ولدي " لم يلزمه شيءٌ ، لأن اسم الذبح متعلق بحكم الشرع في الإباحة والقربة ، وليس كذلك القتل . ورُوي عن سعيد بن المسيب في قوله : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قال : " قتله حرام في هذه الآية وأكله حرام في هذه الآية " يعني أكل ما قتله المحرم منه . ورَوَى أشعث عن الحسن قال : " كل صيد يجب فيه الجزاء فذلك الصيد ميتة لا يحل أكله " ؛ وروى عنه يونس أيضاً أنه لا يؤكل . ورَوَى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن في الصيد يذبحه المحرم قال : " يأكله الحلال " . وعن عطاء : " إذا أصاب المحرم الصيد لا يأكله الحلال " . وقال الحكم وعمرو بن دينار : " يأكله الحلالُ " . وهو قول سفيان . وقد ذكرنا دلالة الآية على تحريم ما أصابه المحرم من الصيد وأنه لا يكون مذكًّى ؛ ويدلّ على أن تحريمه عليه من طريق الدين على أنه حقّ الله تعالى فأشبه صَيْدَ المجوسيّ والوثنيِّ وما تُرك فيه التسمية أو شيء من شرائط الذكاة ، وليس بمنزلة الذبح بسكّين مغصوب أو ذبح شاة مغصوبة ؛ لأن تحريمه تعلق بحق آدمي ، ألا ترى أنه لو أباحه جاز فلم يمنع صحة الذكاة ؟ إذ كانت الذكاة حقّاً لله تعالى ، فشروطها ما كان حقّاً لله تعالى .
باب ما يقتله المحرم
قوله تعالى : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } لما كان خاصّاً في صيد البرّ دون صيد البحر لما ذكرنا في سياق الآية من التخصيص ، اقتضى عمومه تحريمَ سَائِرِ صيد البر إلاّ ما خصّه الدليل . وقد رَوَى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ في الحِلِّ والحَرَمِ : الحَيَّةُ والعَقْرَبُ والغُرَابُ والفَأْرَةُ والكَلْبُ العَقُورُ " على اختلافٍ منهم في بعضها ، وفي بعضها : " هُنَّ فَوَاسِقُ " . ورُوي عن أبي هريرة قال : " الكلب العقور الأسد " . ورَوَى حجاج بن أرطاة عن وبرة قال : سمعت ابن عمر يقول : " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب والفأرة والغراب والحِدأَةِ " . فذكر في هذا الحديث الذئب . وذكر القعنبيُّ عن مالك قال : " الكلب العقور الذي أُمِرَ المحرم بقتله ما قَتَلَ الناسَ وعَدَا عليهم ، مثل الأسد والنمر والذئب وهو الكلب العقور ، وأما ما كان من السباع لا يَعْدُو مثل الضبع والثعلب والهرّة وما أشبههنّ من السباع فلا يقتلهن المحرم ، فإن قتل منهن شيئاً فداه " . قال أبو بكر : قد تلقَّى الفقهاء هذا الخبر بالقبول واستعملوه في إباحة قتل الأشياء الخمسة للمحرم ؛ وقد اختُلف في الكلب العقور ، فقال أبو هريرة على ما قدمنا الرواية فيه : " إنّه الأسد " ويشهد لهذا التأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال : " أَكَلَكَ كَلْبُ الله ! " فأكله الأسدُ . قيل له : إن الكلب العقور هو الذئب . ورُوي في بعض أخبار ابن عمر في موضع " الكلب " " الذئب " ، ولما ذكر الكلب العقور أفاد بذلك كلباً من شأنه العَدْوُ على الناس وعَقْرُهُمْ ، وهذه صفة الذئب ، فأوْلى الأشياء بالكلب ههنا الذئب . وقد دلّ على أن كل ما عَدَا على المحرم وابتدأه بالأذى فجائز له قتله من غير فدية ، لأن فحوى ذكره الكلب العقور يدلّ عليه ، وكذلك قال أصحابنا فيمن ابتدأه السبع فقتله فلا شيء عليه ، وإن كان هو الذي ابتدأ السبع فعليه الجزاء ، لعموم قوله تعالى : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } . واسم الصيد واقعٌ على كل ممتنع الأصل متوحّش ، ولا يختص بالمأكول منه دون غيره ، ويدلّ عليه قوله تعالى : { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } [ المائدة : 94 ] فعلّق الحكم منه بما تناله أيدينا ورماحنا ، ولم يخصص المباح منه دون المحظور الأكل . ثم خصّ النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء المذكورة في الخبر وذكر معها الكلب العقور ، فكان تخصيصه لهذه الأشياء وذِكْرُهُ للكلب العقور دليلاً على أن كل ما ابتدأ الإنسان بالأذَى من الصيد فمباحٌ للمحرم قتله ؛ لأن الأشياء المذكورة من شأنها أن تبتدئ بالأذى ، فجعل حكمها حكم حالها في الأغلب وإن كانت قد لا تبتدىء في حال ؛ لأن الأحكام إنما تتعلق في الأشياء بالأعمِّ الأكثر ، ولا حكم للشاذّ النادر . ثم لما ذكر الكلب العقور وقيل هو الأسد فإنما أباح قتله إذا قصد بالعَقْرِ والأذَى ، وإن كان الذئبَ فذلك من شأنه في الأغلب ؛ فما خصّه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بالخبر وقامت دلالته فهو مخصوص من عموم الآية ، وما لم يخصّه ولم تقم دلالة تخصيصه فهو محمول على عمومها . ويدلّ عليه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الضَّبْعُ صَيْدٌ وفيه كَبشٌ إذا قَتَلَهُ المُحْرِمُ " . وقد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكْل كل ذي ناب من السباع ، والضبعُ من ذي الناب من السباع ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها كبشاً .
فإن قيل : هلاَّ قِسْتَ على الخمس ما كان في معناها وهو ما لا يؤكل لحمه ؟ قيل له : إنما خُصَّ هذه الأشياء الخمسة من عموم الآية ، وغير جائز عندنا القياس على المخصوص إلاّ أن تكون علته مذكورة فيه أو دلالة قائمة فيما خُصَّ ، فلما لم تكن للخمس علّة مذكورة فيها لم يَجُزِ القياس عليها في تخصيص عموم الأصل . وقد بينا وجه دلالته على ما يبتدىء الإنسان بالأذى من السباع ، وكونه غير مأكول اللحم لم تقم عليه دلالة من فَحْوَى الخبر ولا علّته مذكورة فيه ، فلم يجز اعتباره . وأيضاً فإنه لا خلاف فيما ابتدأ المحرم في سقوط الجزاء ، فجاز تخصيصه بالإجماع وبقي حكم عموم الآية فيما لم يخصه الخبر ولا الإجماع . ومن أصحابنا من يأبى القياس في مثله ، لأنه حصره بعدد فقال : " خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ " وفي ذلك دليلٌ على أن ما عداه محظورٌ ، فغير جائز استعمال القياس في إسقاط دلالة اللفظ . ومنهم من يأبى صحة الاعتلال بكونه غير مأكول ؛ لأن ذلك نفيٌ والنفيُ لا يكون علة ، وإنما العلل أوْصَافٌ ثابتة في الأصل المعلول ، وأما نفي الصفة فليس يجوز أن يكون علّة . فإن غيَّر الحكمَ بإثبات وَصْفٍ وجَعَلَ العلّة أنه محرم الأكل لم يصحَّ ذلك أيضاً ؛ لأن التحريم هو الحكم بنفي الأكل ، فلم يَخْلُ من أن يكون نافياً للصفة ، فلم يصحّ الاعتلال بها . وزعم الشافعي أن ما لا يؤكل من الصيد فلا جزاء على المحرم فيه .
قوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً } . قال أبو بكر : اختلف الناس في ذلك على ثلاثة أوجه : فقال قائلون وهم الجمهور : " سواء قتله عمداً أو خطأ فعليه الجزاء " وجعلوا فائدة تخصيصه العَمْدَ بالذكر في نسق التلاوة من قوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ، وذلك يختصّ بالعَمْدِ دون الخطأ ؛ لأن المخطىء لا يجوز أن يلحقه الوعيد ، فخصّ العمد بالذكر وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصحّ رجوع الوعيد إليه ؛ وهو قول عمر وعثمان والحسن روايةً وإبراهيم وفقهاء الأمصار . والقول الثاني : ما رَوَى منصور عن قتادة عن رجل قد سمّاه عن ابن عباس : " أنه كان لا يرى في الخطأ شيئاً " وهو قول طاوس وعطاء وسالم والقاسم وأحد قولي مجاهد في رواية الجعفي عنه . والقول الثالث : ما رَوَى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً } قال : " إذا كان عامداً لقتله ناسياً لإحرامه فعليه الجزاء ، وإن كان ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله فلا جزاء عليه " وفي بعض الروايات : " قد فسد حجّه وعليه الهدي " . وقد رُوي عن الحسن نحو قول مجاهد في أن الجزاء إنما يجب إذا كان عامداً لقتله ناسياً لإحرامه . والقول الأول هو الصحيح ؛ لأنه قد ثبت أن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغير المعذور في باب وجوب الفدية ، ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذًى من رأسه ولم يُخْلِهِمَا من إيجاب الكفارة ؟ وكذلك لا خلاف في فوات الحج لعذر أو غيره أنه غير مختلف الحكم ؛ ولما ثبت ذلك في جنايات الإحرام وكان الخطأ عذراً لم يكن مسقطاً للجزاء .
فإن قال قائل : لا يجوز عندكم إثبات الكفّارات قياساً ، وليس في المخطىء نصٌّ في إيجاب الجزاء . قيل له : ليس هذا عندنا قياساً ، لأن النصَّ قد ورد بالنهي عن قتل الصيد في قوله : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وذلك عندنا يقتضي إيجابَ البَدَلِ على مُتْلِفِهِ ، كالنهي عن قتل صيد الآدمي أو إتلاف ماله يقتضي إيجاب البدل على متلفه ؛ فلما جرى الجزاء في هذا الوجه مجرى البدل وجعله الله مثلاً للصيد اقتضى النهيُ عن قتله إيجابَ بَدَلِهِ على مُتْلِفِهِ ، ثم ذلك البدل يكون الجزاء بالاتفاق . وأيضاً فإنه لما ثبت استواء حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام كان مفهوماً من ظاهر النية تساوي حال العامد والمخطئ ؛ وليس ذلك عندنا قياساً ، كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في بريرة ليس بقياس ، وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة وحكمنا في الزيت بحكم السمن إذا مات فيه ليس هو قياساً على الفأرة وعلى السمن ؛ لأنه قد ثبت تساوي ذلك قبل ورود الحكم بما وَصَفْنا ، فإذا ورد في شيء منه كان حُكْماً في جميعه ، ولذلك قال أصحابنا : إن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء صوم الآكل ناسياً هو حكمٌ فيه ببقاء صوم المجامع ناسياً ، لأنهما غير مختلفين فيما يتعلق بهما من الأحكام في حال الصوم . وكذلك قالوا فيمن سبقه الحدث في الصلاة من بَوْلٍ أو غائط إنه بمنزلة الرّعاف والقيء اللذين جاء فيهما الأثر في جواز البناء عليهما ؛ لأن ذلك غير مختلف فيما يتعلق بهما من أحكام الطهارة والصلاة ، فلما ورد الأثر في بعض ذلك كان ذلك حكماً في جميعه وليس ذلك بقياس ، كذلك حكم قاتل الصيد خطأ . وأما مجاهد فإنه تاركٌ لظاهر الآية ، لأن الله تعالى قال : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } فمن كان ذاكراً لإحرامه عامداً لقتل الصيد فقد شمله الاسم ، فواجب عليه الجزاء ، ولا معنى لاعتبار كونه ناسياً لإحرامه عامداً لقتله .
فإن قال قائل : نَصَّ الله تعالى على كفارة قاتل الخطأ فلم تردّوا عليه قاتل العمد ، كذلك لما نصَّ الله تعالى على قاتل العمد بإيجاب الجزاء لم يَجُزْ إيجابها على قاتل الخطأ . قيل له : الجواب عن هذا من وجوه ، أحدها : أن الله تعالى لما نصَّ على حكم كل واحد من القَتْلَيْنِ وجب استعمالهما ولم يَجُزْ قياسُ أحدهما على الآخر ، لأنه غير جائز عندنا قياس المنصوصات بعضها على بعض . ومن جهة أخرى أن قتل العمد لم يَخْلُ من إيجاب القَوَدِ الذي هو أعظم من الكفارة والدية ، ومتى أخْلَيْنَا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء لم يجب عليه شيء آخر فيكون لَغْواً عارياً من حكم ، وذلك غير جائز . وأيضاً فإن أحكام القتل في الأصول مختلفة في العمد والخطأ والمباح والمحظور ، ولم يختلف ذلك في الصيد ، فلذلك استوى حكم العمد والخطأ فيه واختلف في قتل الآدمي .
قوله تعالى : { فَجَزَاء مِثْلُ مَا قَتَلَ } . اختُلِفَ في المراد بالمِثْلِ ، فرُوي عن ابن عباس : " أن المثل نظيره ؛ في الأرْوَى بقرةٌ وفي الظبيةِ شاةٌ وفي النعامة بعيرٌ " . وهو قول سعيد بن جبير وقتادة في آخرين من التابعين ، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والشافعي ؛ وذلك فيما له نظير من النَّعَمِ ، فأما ما لا نظير له منه كالعصفور ونحوه ففيه القيمة . ورَوَى الحجّاج عن عطاء ومجاهد وإبراهيم في المِثْلِ أنه القيمة دراهم ، ورُوي عن مجاهد رواية أخرى أنه الهَدْي . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : " المِثْلُ هو القيمة ، ويشتري بالقيمة هدياً إن شاء ، وإن شاء اشترى طعاماً وأعطى كل مسكين نصف صاع ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً " .
قال أبو بكر : المِثْلُ اسمٌ يقع على القيمة وعلى النظير من جنسه وعلى نظيره من النَّعَم ، ووجدنا المثل الذي يجب في الأصول على أحد وجهين : إما من جنسه كمن استهلك لرجل حنظةً فيلزمه مثلها ، وإما من قيمته كمن استهلك ثوباً أو عبداً ؛ والمثلُ من غير جنسه ولا قيمته خارج عن الأصول . واتفقوا أن المثل من جنسه غير واجب ، فوجب أن يكون المثل المراد بالآية هو القيمة . وأيضاً لما كان ذلك متشابهاً محتملاً للمعاني وَجَبَ حمله على ما اتفقوا على معناه من المثل المذكور في القرآن ، وهو قوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] فلما كان المِثْلُ في هذا الموضع فيما لا مثل له من جنسه هو القيمة ، وجب أن يكون المثل المذكور للصيد محمولاً عليه من وجهين : أحدهما أنّ المثل في آية الاعتداء مُحْكَمٌ متفقٌ على معناه منه . والوجه الثاني : أنه قد ثبت أن المِثْلَ اسمٌ للقيمة في الشرع ولم يثبت أنه اسم للنظير من النَّعَمِ ، فوجب حمله على ما قد ثبت اسماً له ولم يَجُزْ حمله على ما لم يثبت أنه اسم له . وأيضاً قد اتفقوا أن القيمة مرادةٌ بهذا المثل فيما لا نظير له من النَّعَمِ ، فوجب أن تكون هي المرادة من وجهين : أحدهما أنه قد ثبت أن القيمة مرادةٌ فهو بمنزلته لو نصَّ عليها فلا ينتظم النظير من النعم . والثاني : أنه لما ثبت أن القيمة مرادةٌ انتفى النظيرُ من النعم لاستحالة إرادتهما جميعاً في لفظ واحد ، لأنهم متفقون على أن المراد أحدهما من قيمة أو نظير من النَّعَم ، ومتى ثبت أن القيمة مرادة انتفى غيرها . ومن جهة أخرى أن قوله تعالى : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } لما كان عامّاً فيما له نظير وفيما لا نظير له ، ثم عطف عليه قوله : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ } وجب أن يكون ذلك المثل عامّاً في جميع المذكور والقيمة بذلك أوْلى ، لأنه إذا حُمل على القيمة كان المثل عامّاً في جميع المذكور ، وإذا حُمل على النظير كان خاصّاً في بعضه دون بعض ؛ وحُكْمُ اللفظ استعماله على عمومه ما أمكن ذلك ، فلذلك وجب أن يكون اعتبار القيمة أوْلى ، ومن اعتبر النظير جعل اللفظ خاصّاً في بعض المذكور دون البعض .
فإن قيل : إذا كان اسمُ المثل يقع على القيمة تارةً وعلى النظير أخرى ، فمن استعملهما فيما له نظير على النظير وفيما لا نظير له من النعم على القيمة ، فلم يَخْلُ من استعمال لفظ المثل على عمومه إما في القيمة أو المثل . قيل له : ليس كذلك ، بل هو مستعمل في القيمة على الخصوص وفي النظير على الخصوص أيضاً ، واستعماله على العموم في جميع ما انتظمه الاسم باعتبار القيمة أوْلى من استعماله على الخصوص في كل واحد من المعنيين .
فإن قال قائل : المِثْلُ اسمٌ للنظير وليس باسم للقيمة ، وإنما أُوجبت القيمةُ فيما لا نظير له من الصيد بالإجماع لا بالآية . قيل له : هذا غلطٌ من وجوه : أحدها أن الله تعالى قد سمَّى القيمة مِثْلاً في قوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] واتفق فقهاء الأمصار فيمن استهلك عبداً أن عليه قيمته ، وحَكَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مُعْتِقٍ عَبْدٍ بينه وبين غيره بِنِصْفِ قيمته إذا كان موسراً ، فبان بذلك غلطٌ هذا القائل في نَفْيِهِ اسْمَ المثل عن القيمة . ووجه آخر : وهو أن قولك " إن الآية لم تقتض إيجاب الجزاء فيما لا نظير له " تخصيصٌ لها بغير دليل ، مع دخول ذلك في عموم قوله : { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُمْ حُرُمٌ } وقوله : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً } ، والهاء في : { قَتَلَهُ } كناية عن جميع المذكور من الصيد ، فإذا أخرجتَ منه بعضه فقد خصصتَه بغير دليل ، وذلك غير سائغ . ويدل على أن المِثْلَ القيمةُ دون النظير أن جماعة من الصحابة قد رُوي عنهم : " في الحمامةِ شاةٌ " ولا تَشَابُهَ بين الحامة والشاة في المنظر ، فعلمنا أنهم أوْجَبُوها على وجه القيمة .
فإن قيل : رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في الضبع كبشاً . قيل له : لأن تلك كانت قيمته ، ولا دلالة فيه على أنه أوجبه من حيث كان نظيراً له . فإن قال قائل : إنما كان يَسُوغُ هذا التأويلُ وحَمْلُ الآية على القيمة لو لم يكن في الآية بيان المراد بالمثل ، وقد فسّر في نَسَقِ الآية معنى المثل في قوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } فأخبر أن المثل من النعم ولا مساغ للتأويل مع النص . قيل له : إنما كان يكون على ما ادّعيتَ لو اقتصر على ذلك ولم يَصِلْهُ بما أسقط دعواك ، وهو قوله : { مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلَ ذَلِكَ صِيَاماً } فلما وصله بما ذكر وأدخل عليه حرف التخيير ثبت بذلك أن ذكر النعم ليس على وجه التفسير للمثل ، ألا ترى أنه قد ذكر الطعام والصيام جميعاً وليسا مِثْلاً وأدخل " أو " بينهما وبين النعم ؟ ولا فرق إذْ كان ذلك ترتيب الآية بين أن يقول فجزاء مثل ما قتل طعاماً أو صياماً أو من النعم هدياً ؛ لأن تقديم ذكر النَّعَم في التلاوة لا يوجب تقديمه في المعنى ، بل الجميع كأنه مذكور معاً ، ألا ترى أن قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } لم يقتض كون الطعام مقدماً على الكسوة ولا الكسوة مقدمة على العتق في المعنى ، بل الكل كأنه مذكور بلفظ واحد معاً ؟ فكذلك قوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } موصولاً بقوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } لم يكن ذكر النعم تفسيراً للمثل . وأيضاً فإن قوله تعالى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ } كلام مُكْتَفٍ بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره ، وقوله : { مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل ، فلم يجز أن يجعل المثل مضمَّناً بالنعم مع استغناء الكلام عنه ، لأن كل كلام فله حكم غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه . وأيضاً قوله : { مِنَ النَّعَمِ } معلومٌ أن فيه ضمير إرادة المحرم ، فمعناه : " من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً " إن أراد الهدي ، والطعام إن أراد الطعام ، فليس هو إذاً تفسيراً للمثل ، كما أن الطعام والصيام ليسا تفسيراً للمثل المذكور .
فإن قيل : رُوي عن جماعة من الصحابة أنهم حكموا في النّعامة ببَدَنَةٍ ، ومعلوم أن القِيَمَ تختلف ، وقد أطلقوا القول في ذلك من غير اعتبار الصيد في زيادة القيمة ونقصانها . قيل له : فما تقول أنت ، هل توجب في كل نعامة بدنة من غير اعتبار الصيد في ارتفاع قيمته وانخفاضها فتوجب في أدنى النعام بدنة رفيعة وتوجب في أرفع النعام بدنة وضيعة ؟ فإن قيل : لا ، وإنما أوجب بدنة على قدر النعامة ، فإن كانت رفيعة فبدنة رفيعة وإن كانت وضيعة فبدنة على قدرها ؛ قيل له : فقد خالفت الصحابة ، لأنهم لم يسألوا عن حال الصيد ولم يفرّقوا بين الرفيعة منها والدنيَّة فاعتبرتَ خلاف ما اعتبروا . فإن قيل : هذا محمولٌ على أنهم حكموا بالبَدَنَةِ على حسب حال النعامة وإن لم يذكروا ذلك ولم ينقله الراوي . قيل له : فكذلك يقول لك القائلون بالقيمة إنهم حكموا بالبدنة لأن ذلك كان قيمتها في ذلك الوقت ، وإن لم ينقل إلينا أنهم حكموا بالبدنة على أن قيمتها كانت قيمة النعامة . ويقال لهم : هل يدلّ حكمهم في النعامة ببدنة على أنه لا يجوز غيرها من الطعام والصيام ؟ فإن قالوا : لا ، قيل لهم : فكذلك حكمهم فيها بالبدنة غير دالّ على نفي جواز القيمة .
فصل
وقُرئ قوله تعالى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ } برفع المثل ، قرئ بخفضه وإضافة الجزاء إليه . والجزاء قد يكون اسماً للواجب بالفعل ويكون مصدراً فيكون فعلاً للمجازى ، فمن قرأه بالتنوين جعل المِثْلَ صفةً للجزاء المستحقّ بالفعل وهو القيمة أو النظير من النعم على اختلافهم فيه ؛ ومن أضافه جعله مصدراً وأضافه إلى المثل ، فكان ما يخرجه من الواجب مضافاً إلى المثل المذكور . ويحتمل أن يكون الجزاء الذي هو الواجب مضافاً إلى المثلِ ، والمِثْلُ يكون مثلاً للصيد ، فيفيد أن الصيد ميتة محرم لا قيمة له ، وأن الواجب اعتبار مثل الصيد حيّاً في إيجاب القيمة ، فالإضافة صحيحة المعنى في الحالين سواءٌ كان الجزاء اسماً أو مصدراً ؛ والنَّعَمُ من الإبل والبقر والغنم . وقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } يحتمل القولين جميعاً من القيمة أو النظير من النَّعَم ، لأن القِيَمَ تختلف على حسب اختلاف أحوال الصيد ، فيحتاج في كل حين وفي كل صيد إلى استيناف حكم الحكمين في تقويمه . ومن قال بالنظير فرجع إلى قول الحكمين ، لاختلاف الصيد في نفسه من ارتفاع أو انخفاض حتى يوجبا في الرفيع منه الرفيعَ من النظير وفي الوسط الوسَطَ وفي الدنيِّ الدنيَّ ، وذلك يحتاج فيه إلى اجتهاد الحكمين .
ورُوي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس وابن عمر ، قالا في مُحْرِمٍ قتل قَطَاةً : " فيه ثلثا مُدٍّ وثلثا مُدٍّ خيرٌ من قطاةٍ في بطن مسكين " . ورَوَى معمر عن صدقة بن يسار قال : سألت القاسم وسالماً عن حَجَلَةٍ ذبحها وهو محرم ناسياً ، فقال أحدهما لصاحبه : أحَجَلَةٌ في بطن رجل خيرٌ أو ثلثا مد ؟ فقال : بل ثلثا مدّ ، فقال : هي خير أو نصف مد ؟ قال : بل نصف مد ، قال : هي خير أو ثلث مد ؟ قال : قلت : أتجزي عني شاة ؟ قالا : أو تفعل ذلك ؟ قلت : نعم ، قالا : فاذهب . ورُوي أن عمر وضع رداءه على عود في دار الندوة ، فأطار حماماً فقتله وهو محرمٌ ، فقال لعثمان ونافع بن عبدالحارث : احكما عليَّ ! فحكما بعَنَاقٍ بنية عفراء ، فأمر بها عمر . وروى عبدالملك بن عمير عن قبيصة بن جابر : " أن محرماً قتل ظبياً ، فسأل عمر رجلاً إلى جنبه ، ثم أمره بذبح شاة وأن يتصدق بلحمها ؛ قال قبيصة : فلما قمنا من عنده قلت له : أيها المستفتي ابن الخطاب إنّ فُتْيَا ابن الخطاب لم تُغْنِ عنك من الله شيئاً ، فانحر ناقتك وعظِّمْ شعائر الله ! فوالله ما علم ابن الخطاب ما يقول حتى سأل الرجل الذي إلى جنبه ، فقمت إلى عمر وإذا عمر قد أقبل ومعه الدَّرَّةُ على صاحبي صَفْعاً وهو يقول : قاتلك الله ! أتقتل الحرام وتعدي الفتيا وتقول ما علم عمر حتى سأل من إلى جنبه ! أما تقرأ : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } ؟ " فهذا يدل على أن حكم الحكمين في ذلك من طريق الاجتهاد ، ألا ترى أن عمر وابن عباس وابن عمر والقاسم وسالماً كلّ واحد منهم سأل صاحبه عن اجتهاده في المقدار الواجب ، فلما اتفق رأيهما على شيء حكما به ؟ وهذا يدلّ على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث ، لإباحة الله تعالى الاجتهاد في تقويم الصيد وما يجب فيه . ويدل أيضاً على أن تقويم المستهلكات موكول إلى اجتهاد عَدْلَيْن يحكمان به على المستهلك ، كما أوجب الرجوع إلى قول الحكمين في تقويم الصيد . والحَكَمَانِ عند أبي حنيفة يحكمان عليه بالقيمة ثم يختار المحرم ما شاء من هَدْي أو طعام أو صيام . وقال محمد : " الحكمان يحكمان بما يريان من هدي أو طعام أو صيام ، فإن حكما بالهَدْي كان عليه أن يُهدي " .
وأما قوله تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ } فإن الهدي من الإبل والبقر والغنم ، وقال الله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } [ البقرة : 196 ] ولا خلاف أن له أن يهدي من أحد هذه الأصناف أيّها شاء منها . هذا في الإحصار ، فأما في جزاء الصيد فإن من يجعل الواجب عليه قيمة الصيد فإنه يخيّره بعد ذلك ، فإن اختار الهدي وبلغت قيمته بدنة نَحَرَهَا ، وإن لم تبلغ بدنة وبلغ بقرة ذبحها ، فإن لم تبلغ وبلغ شاة ذبحها ، وإن اشترى بالقيمة جماعة شاءٍ أجزأه . ومن يوجب النظير من النعم ، فإنه إن حكم عليه بالهدي أهْدَى بما حكم به من بدنة أو بقرة أو شاة .
وقد اخْتُلِف في السنّ الذي يجوز في جزاء الصيد ، فقال أبو حنيفة : " لا يجوز أن يُهدي إلا ما يُجْزِي في الأُضحية وفي الإحصار والقِرَانِ " . وقال أبو يوسف ومحمد : " يُجْزِي الجفرة والعناق على قدر الصيد " . والدليل على صحة القول الأول أن ذلك هديٌ تعلق وجوبه بالإحرام ، وقد اتفقوا في سائر الهدايا التي تعلق وجوبها بالإحرام أنها لا يجزي منها إلا ما يجزي في الأضاحي ، وهو الجذع من الضأن أو الثنيُّ من المعز والإبل والبقر فصاعداً ، فكذلك هَدْيُ جزاء الصيد . وأيضاً لما سماه الله تعالى هَدْياً على الإطلاق كان بمنزلة سائر الهدايا المطلقة في القرآن ، فلا يجزي دون السنّ الذي ذكرنا . وذهب أبو يوسف ومحمد إلى ما رُوي عن جماعة من الصحابة أن في اليربوع جفرةٌ وفي الأرنب عناقٌ ، وعلى أنه لو أهْدَى شاة فولدت ذبح ولدها معها . فأما ما رُوي عن الصحابة فجائز أن يكون على وجه القيمة ، وأما وَلَدُ الهَدْي فإنه تَبَعٌ لها ، فيسري الحق الذي في الأمّ من جهة التبع ، وليس يجوز اعتبار ما كان أصلاً في نفسه بالاتباع ؛ ألا ترى أنه يصح أن يكون ابن أم الولد بمنزلة أمه في كونه غير مال وعتقه بموت المولى من غير سعاية ولا يصح ابتداء إيجاب هذا الحكم له على غير وجه التبع والدخول في حكم الأم ؟ وكذلك ولد المكاتبة هو مكاتب وهو علوق ولو ابتدأ كتابة العلوق لم يصح ؛ ونظائر ذلك كثيرة .
وقوله تعالى : { بَالِغَ الكَعْبَةِ } صفة للهدي ، وبلوغُهُ الكعبة ذَبْحُهُ في الحرم لا خلاف في ذلك . وهذا يدل على أن الحرم كله بمنزلة الكعبة في الحرمة وأنه لا يجوز بيع رباعها ، لأنه عبر بالكعبة عن الحرم ، وهو كما رُوي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن الحرم كله مسجد " ؛ وكذلك قوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام } [ التوبة : 8 ] المراد به الحرم كله ومعالم الحجّ ، لأنهم منعوا بهذه الآية من الحج .
وقد اختُلف في مواضع تقويم الصيد ، فقال إبراهيم : " يقوم في المكان الذي أصابه ، فإن كان في فلاة ففي أقرب الأماكن من العمران إليها " ، وهو قول أصحابنا . وقال الشعبي : " يقوم بمكة أو بمِنًى " . والأول هو الصحيح ؛ لأنه كتقويم المستهلكات ، فيعتبر الموضع الذي وقع فيه الاستهلاك لا في الموضع الذي تؤدَّى فيه القيمة ؛ ولأن تخصيص مكة ومِنًى من بين سائر البقاع تخصيص الآية بغير دليل ، فلا يجوز .
فإن قال قائل : رُوي عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أنهما حكما في الظبي بشاة ولم يسألا السائل عن الموضع الذي قتله فيه . قيل له : يجوز أن يكون السائل سأل عن قتله في موضع علم أن قيمته فيه شاة .
وأما قوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } فإنه قرىء : " كفَّارةُ " بالإضافة ، وقرئ بالتنوين بلا إضافة . وقد اختلف في تقدير الطعام ، فقال ابن عباس روايةً وإبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم : " يقوَّمُ الصيد دراهم ثم يُشْتَرَى بالدراهم طعام ، فيطعم كل مسكين نصف صاع " . ورُوي عن ابن عباس روايةً : " يقوِّمُ الهَدْيَ ثم يشتري بقيمة الهدي طعاماً " ، وروى مثله عن مجاهد أيضاً . والأول قول أصحابنا ، والثاني قول الشافعي ؛ والأول أصحّ ، وذلك لأن جميع ذلك جزاء الصيد ، فلما كان الهدي من حيث كان جزاءً معتبراً بالصيد إما في قيمته أو في نظيره ، وجب أن يكون الطعام مثله ، لأنه قال : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ } إلى قوله : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } فجعل الطعام جزاءً وكفارة كالقيمة ؛ فاعتباره بقيمة الصيد أوْلى من اعتباره بالهدي ، إذ هو بدلٌ من الصيد وجزاءٌ عنه لا من الهدي . وأيضاً قد اتفقوا فيما لا نظير له من النعم أن اعتبار الطعام إنما هو بقيمة الصيد ، فكذلك فيما له نظير ؛ لأن الآية منتظمة للأمرين ، فلما اتفقوا في أحدهما أن المراد اعتبار الطعام بقيمة الصيد كان الآخر مثله . وقال أصحابنا : إذا أراد الإطعامَ اشترى بقيمة الصيد طعاماً فأطعم كل مسكين نصف صاع من بُرٍّ ولا يجزيه أقل من ذلك ، ككفّارة اليمين وفدية الأذى ، وقد بيناه فيما سلف .
وقوله تعالى : { أو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً } ، فإنه رُوي عن ابن عباس وإبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم وقتادة أنهم قالوا : " لكل نصف صاع يوماً " ، وهو قول أصحابنا . ورُوي عن عطاء أيضاً أنه قال : " لكل مُدٍّ يوماً " . وما ذكره الله تعالى في هذه الآية من الهَدْي والإطعام والصيام فهو على التخيير ، لأن " أو " يقتضي ذلك ، كقوله تعالى في كفارة اليمين : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ، وكقوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } [ البقرة : 196 ] . ورُوي نحو ذلك عن ابن عباس وعطاء والحسن وإبراهيم روايةً ؛ وهو قول أصحابنا . ورُوي عن ابن عباس رواية أخرى أنها على الترتيب . ورُوي عن مجاهد والشعبي والسدي مثله ؛ وعن إبراهيم رواية أخرى أنها على الترتيب . والصحيح هو الأوّل ، لأنه حقيقة اللفظ ، ومن حمله على الترتيب زاد فيه ما ليس منه ، ولا يجوز إلاّ بدلالة .
قوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } . رُوي عن ابن عباس والحسن وشريح : " إن عاد عمداً لم يحكم عليه والله تعالى ينتقم منه " . وقال إبراهيم : " كانوا يسألون هل أصبت شيئاً قبله ؟ فإن قال نعم لم يحكموا عليه ، وإن قال لا حُكم عليه " . وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد : " يحكم عليه أبداً " . وسأل عُمَرَ قبيصةُ بنُ جبار عن صيد أصابه وهو محرم ، فسأل عمر عبدالرحمن بن عوف ثم حكم عليه ولم يسأله هل أصبت قبله شيئاً . وهو قول فقهاء الأمصار ، وهو الصحيح ، لأن قوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ } يوجب الجزاء في كل مرة ، كقوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله } [ النساء : 92 ] . وذِكْرُهُ الوعيدَ للعائد لا ينافي وجوب الجزاء ، ألا ترى أن الله تعالى قد جعل حد المحارب جزاءً له بقوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] ، ثم عقبه بذكر الوعيد بقوله : { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [ المائدة : 33 ] ؟ فليس إذاً في ذكر الانتقام من العائد نفيٌ لإيجاب الجزاء . وعلى أن قوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } لا دلالة فيه على أن المراد العائدُ إلى قتل الصيد بعد قتله لصيد آخر قبله ، لأن قوله : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يحتمل أن يريد به : " عفا الله عما قبل التحريم ومن عاد يعني بعد التحريم " وإن كان أول صيد بعد نزول الآية ؛ وإذا كان فيه احتمال ذلك لم يدلّ على أن العائد في قتل الصيد بعد قتله مرة أخرى ليس عليه إلا الانتقام .
فصل
قوله تعالى : { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ }
يُحتجُّ به لأبي حنيفة في المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل يتصدق به ؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغُرْمَ ليذوق وبال أمره بإخراج هذا القدر من ماله ، فإذا أكل منه فقد رجع من الغرم في مقدار ما أكل منه ، فهو غير ذائق بذلك وبال أمره ؛ لأن من غرم شيئاً وأخذ مثله لا يكون ذائقاً وبال أمره ؛ فدلّ ذلك على صحة قوله . وقال أصحابنا : " إن شاء المحرم صام عن كل نصف صاع من الطعام يوماً ، وإن شاء صام عن بعض وأطعم بعضاً " فأجازوا الجمع بين الصيام والطعام ، وفرّقوا بينه وبين الصيام في كفارة اليمين مع الإطعام فلم يجيزوا الجمع بينهما ، وفرقوا أيضاً بينه وبين العتق والطعام في كفارة اليمين بأن يعتق نصف عبد ويطعم خمسة مساكين . فأما الصوم في جزاء الصيد فإنما أجازوا الجمع بينه وبين الطعام مِنْ قِبَلِ أن الله تعالى جعل الصيام عَدْلاً للطعام ومثلاً له بقوله : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً } ، ومعلوم أنه لم يُردْ بقوله : { عَدْلُ ذَلِكَ } أن يكون مِثْلاً له في حقيقة معناه ، إذ لا تشابه بين الصيام وبين الطعام ، فعلمنا أن المراد المماثلة بينهما في قيامه مقام الطعام ونيابته عنه لمن صام بعضاً ، فكأنه قد أطعم بقدر ذلك فجاز ضمه إلى الطعام فكان الجميع طعاماً . وأما الصيام في كفارة اليمين فإنما يجوز عند عدم الطعام وهو بَدَلٌ منه ، فغير جائز الجمع بينهما ؛ إذْ لا يخلو من أن يكون واجداً أو غير واجد ، فإن كان واجداً للطعام لم يُجْزِهِ الصيام ، وإن كان غير واجد فالصوم فرضه بدلاً منه ، وغير جائز الجمع بين البدل والمبدل منه ، كالمسح على أحد الخفين وغسل الرجل الأخرى وكالتيمم والوضوء وما جرى مجرى ذلك . ولا نعلم خلافاً في امتناع جواز الجمع بين الصيام والطعام في كفارة اليمين ، وأما العتق والطعام فإنما لم يَجُزِ الجمعُ لأن الله تعالى جعل كفارة اليمين أحد الأشياء الثلاثة فإذا أعتق النصف وأطعم النصف فهو غير فاعل لأحدهما فلم يُجْزِهِ ، والعتقُ لا يتقوَّم فيجزي عن الجميع بالقيمة ، وليس هو مثل أن يكسو خمسة ويطعم خمسة فيجزي بالقيمة ؛ لأن كل واحد من هذين متقوّم فيجزي عن أحدهما بالقيمة .
فصل
قوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ }
ينتظم الواحد والجماعة إذا قتلوا في إيجاب جزاء تامّ على كل واحد ؛ لأن " مِنْ " يتناول كل واحد على حياله في إيجاب جميع الجزاء عليه ؛ والدليل عليه قوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } [ النساء : 92 ] قد اقتضى إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين إذا قتلوا نفساً واحدة ؛ وقال تعالى : { ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً } [ الفرقان : 19 ] وعيداً لكل واحد على حياله . وقوله عز وجل : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } [ النساء : 93 ] وعيدٌ لكل واحد من القاتلين ؛ وهذا معلوم عند أهل اللغة لا يتدافعونه ، وإنما يجهله من لا حظَّ له فيها .
فإن قال قائل : فلو قتل جماعةٌ رجلاً كانت على جميعهم دِيَةٌ واحدة ، والديةُ إنما دخلت في اللفظ حسب دخول الرقبة . قيل له : الذي يقتضيه حقيقة اللفظ وعمومه إيجابَ دِيَاتٍ بعدد القاتلين ، وإنما اقتصر فيه على دية واحدة بالإجماع ، وإلا فالظاهر يقتضيه ؛ ألا ترى أنهما لو قتلاه عمداً كان كل واحد منهما كأنه قاتل له على حياله ويقتلان جميعاً به ؟ ألا ترى أن كل واحد من القاتلين لا يرث وأنه لو كان بمنزلة عن قتل بعضه لوجب أن لا يُحرم الميراث مما قتله منه غيره ؟ فلما اتفق الجميع على أنهما جميعاً لا يرثان وأن كل واحد منهما كأنه قاتلٌ له وحده ، كذلك في إيجاب الكفارة إذ كانت النفس لا تتبعض ، وكذلك قاتلوا الصيد كل واحد كأنه متلفٌ للصيد على حياله ؛ فتجب على كل واحد كفارة تامة . ويدلّ عليه أن الله تعالى سمَّى ذلك كفارة بقوله : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } وجعل فيها صوماً ، فأشبهت كفارة القتل .
فإن قال قائل : لما قال الله تعالى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ } دلّ على أن الجزاء إنما هو جزاء واحد ولم يفرق بين أن يكونوا جماعة أو واحداً ، وأنت تقول يجب عليهم جزاءان وثلاثة وأكثر من ذلك . قيل له : هذا الجزاء ينصرف إلى كل واحد منهم ، ونحن لا نقول إنه يجب على كل واحد منهم جزاءان وثلاثة وإنما يجب عليه جزاء واحد ؛ والذي يدلّ على أنه منصرف إلى كل واحد قوله تعالى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ } ولم يقل : " قتلوا " فدلّ على أنه أراد واحداً ؛ وقد بينا ذلك في كتاب " شرح المناسك " .
والخصمُ يحتجُّ علينا بهذه الآية في القارن ، فإنه لا يجب عليه إلاّ جزاءٌ واحد بظاهر الكتاب . والجواب عن هذا أنه محرم عندنا بإحرامَيْنِ على ما سنذكره في موضعه ، وإذا صحّ لنا ذلك ثم أدخل النقص عليهما وجب أن يجبرهما بدمين .
قال أبو بكر : ولا خلاف بين الفقهاء أن الهَدْيَ لا يُجزي إلا بمكة ، وأن بلوغه الكعبة أن يذبحه هناك في الحرم ، وأنه لو هلك بعد دخوله الحرم قبل أن يذبحه أن عليه هَدْياً آخر غيره . وقال أصحابنا : إن ذبحه في الحرم بعد بلوغ الكعبة فإن سرق بعد ذلك لم يكن عليه شيء لأن الصدقة تعينت فيه بالذبح ، فصار كمن قال لله عليَّ أن أتصدق بهذا اللحم ، فسرق فلا يلزمه شيء . واتفق الفقهاء أيضاً على جواز الصوم في غير مكة ، واختلفوا في الطعام ، فقال أصحابنا : " يجوز أن يتصدق به حيث شاء " ؛ وقال الشافعي : " لا يجزي إلاّ أن يعطي مساكين مكة " . والدليل على جوازه حيث شاء قوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } وذلك عمومٌ في سائرهم ، وغير جائز تخصيصه بمكان إلاّ بدلالة ، ومن قَصَرَهُ على مساكين مكة فقد خصَّ الآية بغير دليل . وأيضاً ليس في الأصول صدقة مخصوصة بمكان لا يجوز أداؤها في غيره ، فلما كان ذلك صدقة وجب جوازها في سائر المواضع قياساً على نظائرها من الصدقات ؛ ولأن تخصيصه بمكان خارج عن الأصول ، وما خرج عن الأصول وظاهر الكتاب من الأقاويل فهو ساقط مرذول .
فإن قال قائل : فالهَدْيُ سبيله الصدقة وهو مخصوص بالحرم . قيل له : ذَبْحُهُ مخصوص بالحرم ، فأما الصدقة فحيث شاء ؛ وكذلك قال أصحابنا أنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه فتصدق به في غيره أجزأه . وأيضاً لما اتفقوا على جواز الصيام في غير مكة وهو جزاء للصيد وليس بذبح ، وجب مثله في الطعام لهذه العلة .