قوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } . يقال إن الإدراك أصله اللحوق ، نحو قولك : أدْرَكَ زمانُ المنصور ، وأدْرَكَ أبا حنيفة ، وأدرك الطعامُ أي لحق حال النضج ، وأدرك الزرعُ والثمرةُ ، وأدرك الغلامُ إذا لحق حال الرجال . وإدراك البصر للشيء لحوقه له برؤيته إياه ، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن قول القائل : أدركت ببصري شخصاً معناه رأيته ببصري ، ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركاً له ، فقوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } معناه : لا تراه الأبصار ، وهذا تمدُّحٌ ينفي رؤية الأبصار كقوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] ، وما تمدَّح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضدّه ذمٌّ ونقص ، فغير جائز إثبات نقيضه بحال ، كما لو بطل استحقاق الصفة ب { لا تأخذه سنة ولا نوم } لم يبطل إلا إلى صفة نقص ، فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال ، إذ كان فيه إثبات صفة نقص . ولا يجوز أن يكون مخصوصاً بقوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 و 23 ] لأن النظر محتمل لمعانٍ ، منه انتظار الثواب كما رُوي عن جماعة من السلف ، فلمّا كان ذلك محتملاً للتأويل لم يَجُز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه . والأخبار المرويَّةُ في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحّت ، وهو علم الضرورة الذي لا تَشُوبُهُ شبهةٌ ولا تعرض فيه الشكوك ؛ لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة .