قوله تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الآية . رُوي عن طاوس أن أهل الجاهلية كانوا يستحلّون أشياء ويحرمون أشياء ، فقال الله تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً } مما تستحلون { إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } الآية . وسياقه المخاطبة تدل على ما قال طاوس ؛ وذلك لأن الله قد قدَّم ذكر ما كانوا يحرمون من الأنعام وذَمَّهم على تحريم ما أحلّه وعنفهم وأبان به عن جهلهم لأنهم حرموا بغير حجة ، ثم عطف قوله تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً } يعني مما تحرمونه إلا ما ذكر . وإذا كان ذلك تقدير الآية لم يجز الاستدلال بها على إباحة ما خرج عن الآية .
فإن قيل : قد ذكر في أول المائدة تحريم المنخنقة والموقوذة وما ذكر معها ، وهي خارجة عن هذه الآية . قيل له : في ذلك جوابان ، أحدهما : أن المنخنقة وما ذُكر معها قد دخلت في الميتة ، وإنما ذكر الله تعالى تحريم الميتة في قوله : { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] ثم فسر وجوهها والأسباب الموجبة لكونها ميتة ، فقد اشتمل اسم الميتة على المنخنقة ونظائرها . والثاني : أن سورة الأنعام مكية ، وجائز أن لا يكون قد حرم في ذلك الوقت إلا ما قد ذكر في هذه الآية ، والمائدة مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن ، وفي هذه الآية دليل على أن " أو " إذا دخلت على النفي ثبت كل واحد مما دخلت عليه على حياله وأنها لا تقتضي تخييراً ؛ لأن قوله تعالى : { إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } قد أوجب تحريم كل واحد من ذلك على حِيَالِه .
مطلب : في لحوم الحمر الأهلية
وقد احتج كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكورة في هذه الآية بها ، فمنها لحوم الحمر الأهلية . ورَوَى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن زيد : إنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية ! قال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبَى ذلك البَحْرُ يعني عبدالله بن عباس وقرأ : { قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الآية . وروى حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة : أنها كانت لا ترى بلحوم السباع والدم الذي يكون في أعلى العروق بأساً ، وقرأت هذه الآية : { قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الآية . فأما لحوم الحمر الأهلية فإن أصحابنا ومالكاً والثوريَّ والشافعي ينهون عنه ، ورُوي عن ابن عباس ما ذكرنا من إباحته ، وتابعه على ذلك قوم .
وقد وردت أخبار مستفيضة في النهي عن أكْل لحوم الحمر الأهلية ، منها حديث الزهري عن الحسن وعبدالله ابني محمد ابن الحنفية عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية وعن متعة النساء يوم خيبر " . وقد روى ابن وهب عن يحيى بن عبدالله بن سالم عن عبدالرحمن بن الحارث المخزومي عن مجاهد عن ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية " ، وهذا يدل على أنه لما سمع عليّاً يروي النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم رجع عما كان يذهب إليه من الإباحة . وروى أبو حنيفة وعبدالله عن نافع عن ابن عمر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية " . وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية " ، ورواه حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية " . ورَوى شبعة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب سمعه منه قال : " أصبنا حُمُراً يوم خيبر فطبخناها ، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور " . وروَى النهي عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنُ أبي أوفى وسلمة بن الأكوع وأبو هريرة وأبو ثعلبة الخشني في آخرين ، في بعضها ابتداء نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها ذكر قصة خيبر .
والسبب الذي من أجله نهى عنها ، فقال قائلون : " إنما نَهَى عنها لأنها كانت نُهْبَة انتهبوها " . وقال آخرون : " لأنه قيل له إن الحمر قد قلّت " . وقال آخرون : " لأنها كانت جلاّلة " . فتأول من أباحها نَهْيَ النبي صلى الله عليه وسلم على أحد هذه الوجوه ، ومن حظرها أبطل هذه التأويلات بأشياء ، أحدها ما رواه جماعة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يَحِلُّ الحِمَارُ الأَهْلِيُّ " منهم المقداد بن معد يكرب وأبو ثعلبة الخشني وغيرهما ؛ والثاني ما رواه سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال : " لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أصابوا حُمُراً فطبخوا منها ، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الله ورسوله ينهاكم عنها ، فإنها نجس فاكفئوا القدور " . وروى عبدالوهاب الثقفي عن أيوب بإسناده مثله ، قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى : إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ، قال : فأُكفئت القدور وإنها لتفور . وهذا يبطل تأويل من تأول النهي على النهبة وتأويل من تأوله على خوف فناء الحمر الأهلية بالذبح ؛ لأنه أخبر أنها نجس ، وذلك يقتضي تحريم عينها لا لسبب غيرها . ويدل عليه أنه أمر بالقدور فأُكْفِئَت ، ولو كان النهي لأجل ما ذكروا لأمر بأن يطعم المساكين كما أمر بذلك في الشاة المذبوحة بغير أمر أصحابها بأن يطعم الأسرى . وفي حديث أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحرم عليه ، فقال : " لا تَأْكُلِ الحِمَارَ الأَهْلِيَّ ولا كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ " ، فبهذا أيضاً يبطل سائر التأويلات التي ذكرناها عن مبيحها . وقد رُوي عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر لأنها كانت تأكل العذرة ، فإن صحَّ هذا التأويل للنهي الذي كان منه يوم خيبر فإن خبر أبي ثعلبة وغيره في سؤالهم عنها في غير يوم خيبر يوجب إيهام تحريمها لا لعلة غير أعيانها . وقد رُوي في حديث يُرْوى عن عبدالرحمن بن مغفل عن رجال من مُزَيْنَةَ فقال بعضهم : غالب بن الأبجر ، وقال بعضهم : الحرّ بن غالب أنه قال : يا رسول الله إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعم فيه أهلي غير حُمُراتٍ لي ، قال : " فَأَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ فإِنّما كَرِهْتُ لَكُمْ جَوَالَّ القَرْيَةِ " ؛ فاحتج من أباح الحمر الأهلية بهذا الخبر . وهذا الخبر يدلّ على النهي عنها ؛ لأنه قال : " كرهت لكم جوالّ القرية " والحمر الأهلية كلها جوالّ القرى ، والإباحة عندنا في هذا الحديث إنما انصرفت إلى الحمر الوحشية .
مطلب : الكلام في الحمار الوحشي إذا ألف
وقد اختلف في الحمار الوحشي إذا دُجِّن ، فقال أصحابنا والحسن بن صالح والشافعي في الحمار الوحشي إذا دجن وألف : " إنه جائز أكله " ، وقال ابن القاسم عن مالك : " إذا دُجِّن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهليّ فإنه لا يؤكل " . وقد اتفقوا على أن الوحش الأهلي لا يخرجه عن حكم جنسه في تحريم الأكل كذلك ما أُنِّسَ من الوحش .
مطلب : الكلام في ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير
قال أبو بكر : وقد اختلف في ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : " لا يحلُّ أَكْلُ ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير " . وقال مالك : " لا يؤكل سباع الوحش ولا الهرّ الوحشيّ ولا الأهليّ ولا الثعلب ولا الضبع ولا شيء من السباع ، ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقبان والنسور وغيرها ما أكل الجيف منها وما لا يأكل " . وقال الأوزاعي : " الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم " . وقال الليث : " لا بأس بأكل الهر وأكره الضبع " . وقال الشافعي : " لا يؤكل ذو الناب من السباع التي تعدو على الناس الأسد والنمر والذئب ، ويؤكل الضبع والثعلب ، ولا يؤكل النسر والبازي ونحوه لأنها تعدو على طيور الناس " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : حدثنا عمران بن جبير أن عكرمة سئل عن الغراب قال : دجاجة سمينة ، وسئل عن الضبع فقال : نعجة سمينة . قال أبو بكر : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبيّ عن مالك عن ابن شهاب عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكْلِ كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير " ، ورواه علي بن أبي طالب والمقدام بن معد يكرب وأبو هريرة وغيرهما . فهذه آثار مستفيضة في تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير ، والثعلبُ والهر والنسر والرخم داخلة في ذلك ، فلا معنى لاستثناء شيء منها إلا بدليل يوجب تخصيصه ، وليس في قبولها ما يوجب نسخ قوله تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } لأنه إنما فيه إخبارٌ بأنه لم يكن المحرم غير المذكور وأن ما عداه كان باقياً على أصل الإباحة ، وكذلك الأخبار الواردة في لحوم الحمر الأهلية هذا حكمها ، ومع ذلك فإن هذه الآية خاصة باتفاق أهل العلم على تحريم أشياء كثيرة غير مذكورة في الآية فجاز قبول الأخبار الآحاد في تخصيصها .
وكره أصحابنا الغراب الأبْقَعَ لأنه يأكل الجِيَفَ ، ولم يكرهوا الغراب الزرعيَّ لما رَوَى قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خَمْسُ فَوَاسِقَ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ فِي الحِلِّ والحَرَمِ " وذكر أحدها الغراب الأبقع ، فخص الأبقع بذلك لأنه يأكل الجيف ، فصار أصلاً في كراهة أشباهه مما يأكل الجيف . وقوله عليه السلام : " خَمْسُ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ " يدل على تحريم أكل هذه الخمس وأنها لا تكون إلا مقتولة غير مذكاة ، ولو كانت مما يؤكل لأمر بذبحها وذكاتها لئلا تحرم بالقتل .
فإن قيل بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل قال : حدثنا محمد بن حاتم قال : حدثنا يحيى بن مسلم قال : حدثني إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير قال : سألت جابراً : هل يؤكل الضبع ؟ قال : نعم ، قلت : أصَيْدٌ هي ؟ قال : نعم ، قلت : أسمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قيل له : ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من نَهْيِهِ عن أكْلِ كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير قاضٍ على ذلك لاتفاق الفقهاء على استعماله واختلافهم في استعمال ذلك .
مطلب : في الكلام على الضبّ
واختلف في أكل الضبّ ، فكرهه أصحابنا ، وقال مالك والشافعي : " لا بأس به " . والدليل على صحة قولنا ما رَوَى الأعمشُ عن زيد بن وهب الجهنيّ عن عبدالرحمن بن حسنة قال : نزلنا أرضاً كثيرة الضباب ، فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها ، فإن القدور لتغلي بها ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما هَذَا ؟ " فقلنا : ضِبَابٌ أصبناها ، فقال : " إِنَّ أُمَّةً مِن بني إِسْرائِيلَ مُسِخَتْ دَوَابَّ الأَرْضِ وإنّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ فَأَكْفِئُوها ! " وهذا يقتضي حظره ؛ لأنه لو كان مباح الأكل لما أمر بإكفاء القدور ، لأنه عليه السلام نهى عن إضاعة المال . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عون الطائي أن الحكم بن نافع حدثهم قال : حدثنا ابن عياش عن ضمضم بن زُرْعَةَ عن شُرَيح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبدالراحمن بن شبل : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن أكل لحم الضبِّ " . وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عائشة أنه أُهدي لها ضبٌّ ، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن أكله فنهاها عنه ، فجاء سائل فقامت لتناوله إياه ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَتُطْعِمِينَهُ ما لا تَأْكُلِينَ ! " . فهذه الأخبار توجب النهي عن أكل الضبّ . وقد رَوَى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل من الضبّ وأُكِلَ على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كان حراماً ما أُكل على مائدته ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ترك أكله تقذّراً . وفي بعض الأخبار أنه قال : " لم يَكُنْ بأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُني أَعَافُهُ " ، وأن خالد بن الوليد أكله بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَنْهَهُ . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا عمر بن سهل قال : حدثنا إسحاق بن الربيع عن الحسن قال : قال عمر : " إن هذه الضباب طعام عامة هذه الرعاء وإن الله ليمنع غير واحد ولو كان عندي منها شيء لأكلته ، إن رسول صلى الله عليه وسلم لم يحرمه ولكنه قَذِرَهُ " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا عمر بن سهل قال : حدثنا بحر عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري قال : " إن كان أحدنا لتُهْدَى إليه الضبّة المكنونة أحبّ إليه من الدجاجة السمينة " . فاحتج مبيحوه بهذه الأخبار ، وفيها دلالة على حظره ؛ لأن فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم تركه تقذراً وأنه قذره ، وما قذره النبي صلى الله عليه وسلم فهو نجس ، ولا يكون نجساً إلا وهو محرم الأكل . ولو ثبتت الإباحة بهذه الأخبار لعارضتها أخبار الحظر ، ومتى ورد الخبران في شيء وأحدهما مبيح والآخر حاظرٌ فخبر الحَظْرِ أوْلى ؛ وذلك لأن الحظر وارد لا محالة بعد الإباحة ، لأن الأصل كانت الإباحة والحظر طارىء عليها ، ولم يثبت ورود الإباحة على الحظر فحكم الحظر ثابت لا محالة .
مطلب : في الكلام على هوامّ الأرض
واختلف في هوامّ الأرض ، فكره أصحابنا أكْلَ هوام الأرض اليَرْبُوعَ والقنْفذَ والفارَ والعقاربَ وجميعَ هوامّ الأرض . وقال ابن أبي ليلى : " لا بأس بأكل الحية إذا ذُكّيت " ، وهو قول مالك والأوزاعي ، إلا أنه لم يشترط منه الذكاة . وقال الليث : " لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه " . وقال ابن القاسم عن مالك : " لا بأس بأكل الضفدع " ، قال ابن القاسم : وقياس قول مالك أنه لا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها ، لأنه قال : موته في الماء لا يفسده . وقال الشافعي : " كل ما كانت العرب تستقذره فهو من الخبائث ، كالذئب والأسد والغراب والحية والحِدَأَة والعقرب والفارة ، لأنها تقصد بالأذى فهي محرمة من الخبائث ، وكانت تأكل الضبع والثعلب لأنهما لا يَعْدُوَان على الناس بأنيابهما فهما حلالٌ " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] ، قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا إبراهيم بن خالد أبو ثور قال : حدثنا سيعد بن منصور قال : حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن عيسى بن نميلة عن أبيه قال : كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ ، فتلا : { قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمْهُ } الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " خَبِيثَةٌ مِنَ الخَبَائِثِ " فقال ابن عمر : إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال . فسمّاه النبي صلى الله عليه وسلم خبيثةً من الخبائث فشمله حكم التحريم بقوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] ، والقنفذ من حشرات الأرض ، فكل ما كان من حشراتها فهو محرم قياساً على القنفذ . وروى عبدالله بن وهب قال : أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبدالرحمن قال : " ذَكَرَ طبيبٌ الدواءَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الضّفْدَعَ يكون في الدواء ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله " ، وهذا يدل على تحريمه لأنه نهاه أن يقتله فيجعله في الدواء ، ولو جاز الانتفاع به لما كان منهيّاً عن قتله للانتفاع به . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار مستفيضة رواها ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة وغيرهم أنه قال : " يَقْتُلُ المُحْرِمُ في الحِلِّ والحَرَمِ الحِدَأَةَ والغُرَابَ والفَأْرَةَ والعَقْرَبَ " وفي بعض الأخبار : " والحَيَّةَ " ، ففي أمره بقتلهن دلالة على تحريم أكلهن ؛ لأنها لو كانت مما تؤكل لأمر بالتوصل إلى ذكاتها فيما تتأتّى فيه الذكاة منها ، فلما أمر بقتلها والقَتْلُ إنما يكون لا على وجه الذكاة ثبت أنها غير مأكولة ، ولما ثبت ذلك في الغراب والحِدَأة كان سائر ما يأكل الجِيَفَ مثلها ، ودلَّ على أن ما كان من حشرات الأرض فهو محرم كالعقرب والحية ، وكذلك اليربوع لأنه جنس من الفأر . وأما قول الشافعي في اعتباره ما كانت العرب تستقذره وأن ما كان كذلك فهو من الخبائث ، فلا معنى له من وجوه ، أحدها : أن نَهْيَ النبي صلى الله عليه وسلم عن أكْلِ كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير قاضٍ بتحريم جميعه ، وغير جائز أن يزيد فيه ما ليس منه ولا يُخرج منه ما قد تناوله العموم ، ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكره الشافعي وإنما جعل كونه ذا ناب من السباع وذا مخلب من الطير عَلَماً للتحريم ، فلا يجوز الاعتراض عليه بما لم تثبت به الدلالة . ومن جهة أخرى أن خطاب الله تعالى للناس بتحريم الخبائث عليهم لم يختصَّ بالعرب دون العجم ، بل الناس كلهم من كان منهم من أهل التكليف داخلون في الخطاب ، فاعتبار ما يستقذره العرب دون غيرهم قولٌ لا دليل عليه خارج عن مقتضى الآية . ومع ذلك فليس يخلو من أن يعتبر ما كانت العرب يستقذره جميعهم أو بعضهم ، فإن كان اعتبر الجميع فإن جميع العرب لم يكن يستقذر الحيّات والعقارب ولا الأسد والذئاب والفار وسائر ما ذكر ، بل عامة الأعراب تستطيب أكْلَ هذه الأشياء ، فلا يجوز أن يكون المراد ما كان جميع العرب يستقذره . وإن أراد ما كان بعض العرب يستقذره فهو فاسدٌ من وجهين ، أحدهما : أن الخطاب إذا كان لجميع العرب فكيف يجوز اعتبار بعضهم دون بعض ؟ والثاني : أنه لما صار البعض المستقذر كذلك كان أولى بالاعتبار من البعض الذي يستطيبه . فهذا قول منتقض من جميع وجوهه . وزعم أنه أباح الضبع والثعلب لأن العرب كانت تأكله ، وقد كانت العرب تأكل الغراب والحدأة والأسد لم يكن منهم من يمتنع من أكل ذلك . وأما اعتباره ما يعدو على الناس ، فإن أراد به يعدو على الناس في سائر الأحوال فإن ذلك لا يوجد في الحِدَأَةِ والحية والغراب وقد حرّمها ، وإن أراد به العَدْوَ عليهم في بعض الأحوال فإن الضَّبُعَ قد يعدو على الإنسان في بعض الأحوال وقد يترك الأسد العَدْوَ عليهم في حال إذا لم يكن جائعاً ، والجمل الهائج قد يعدو على الإنسان وكذلك الثور في بعض الأحوال ، ولم يعتبر ذلك هو ولا غيره في هذه الأشياء في تحريم الأكل وإباحته ، والكلب والسّنور لا يعدوان على الناس وهما محرمان .
مطلب : في لحوم الإبل الجلاّلة
وقد اخْتُلِفَ في لحوم الإبل الجلاّلة ، فكرهها أصحابنا والشافعي إذا لم يكن يأكل غير العذرة . وقال مالك والليث : " لا بأس بلحوم الجَلاّلَةِ كالدجاج " ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا عَبْدَةُ عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكْلِ الجلالة وألبانها " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ابن المثنّى قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا هشام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن لبن الجلاّلة " .
قال أبو بكر : فكل من خالف في هذه المسائل التي ذكرنا من ابتدائنا بأحكام قوله تعالى : { قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } وأباح أكْلَ ما ذهب أصحابنا فيه إلى حظره ، فإنهم يحتجّون فيه بقوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً } الآية . وقد بينا أن ذلك خرج على سبب فيما كان يحرمه أهل الجاهلية مما حكاه الله عنهم قبل هذه الآية مما كانوا يحرمونه من الأنعام ، ولو لم يكن نزوله على السبب الذي ذكرنا وكان خبراً مبتدأً لم يمتنع بذلك قبول أخبار الآحاد في تحريم أشياء لم تنتظمها الآية ولا استعمال القياس في حظر كثير منه ؛ لأن أكثر ما فيه الإخبار بأنه لم يكن المحرم من طريق الشرع إلا المذكور في الآية ، وقد علمنا أن هذه الأشياء قد كانت مباحةً قبل ورود السمع ، وقد كان قبول أخبار الآحادِ جائزاً واستعمال القياس سائغاً في تحريم ما هذا وصفه ، وكذلك إخبار الله بأنه لم يحرم بالشرع إلا المذكور في الآية غير مانع تحريم غيره من طريق خبر الواحد والقياس .
وقوله تعالى : { عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } يدل على أن المحرم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها ، فلم يتناول الجِلْدَ المدبوغ ولا القرن والعظم والظلف والريش ونحوها ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة : " إِنّما حرّم أكْلُها " وفي بعض الألفاظ : " إنما حرم لَحْمُهَا " .
وقوله تعالى : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } يدل على أن المحرم من الدم ما كان مسفوحاً وأن ما يبقى في العروق من أجزاء الدم غير محرم ، وكذلك رُوي عن عائشة وغيرها في الدم الذي في المذبح أو في أعلى القِدْرِ أنه ليس بمحرم ؛ لأنه ليس بمسفوح . وهذا يدل على أن دم البقّ والبراغيث والذباب ليس بنجس إذ ليس بمسفوح .
فإن قيل : قوله تعالى : { قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } وإن كان إخباراً بأنه ليس المحرم في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم من المأكولات غير المذكور في الآية ، فإنه قد نسخ به كثيراً من المحظورات على ألْسِنَةِ الأنبياء المتقدمين ، فلا يكون سبيله سبيل بقاء الشيء على حكم الإباحة الأصلية بل يكون في حكم ما قد نصّ على إباحته شرعاً ، فلا يجوز الاعتراض عليه بخبر الواحد ولا بالقياس . والدليل على أنه قد نسخ بذلك كثيراً من المحظورات على لسان غيره من الأنبياء قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } وشحومهما مباحة لنا ، وكذلك كثير من الحيوانات ذوات الأظفار . قيل له : ما ذكرتَ لا يخرج ما عدا المذكور في الآية من أن يكون في حكم المباح على الأصل ؛ وذلك لأن ما حرم على أولئك من ذلك وأبيح لنا لم يصر شريعةً لنبينا عليه السلام وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن حكم ذلك التحريم إنما كان موقتاً إلى هذا الوقت وأن مُضِيَّ الوقت أعاده إلى ما كان عليه من حكم الإباحة ، فلا فرق بينه في هذا الوجه وبين ما لم يحظر قطّ . وأيضاً فلو سلمنا لك ما ادّعيت كان ما ذكرنا من قبول خبر الواحد واستعمال القياس فيما وصفنا سائغاً لأن ذلك مخصوص بالاتفاق ، أعني قوله تعالى : { قُلْ لاَ أَجِدُ فيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } لاتفاق الجميع من الفقهاء على تحريم أشياء غير مذكورة في الآية كالخمر ولحم القردة والنجاسات وغيرها ، فلما ثبت خصوصه بالاتفاق ساغ قبول خبر الواحد واستعمال القياس فيه .