قوله تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً } . فيه الأمر بالإخفاء للدعاء . قال الحسن في هذه الآية : علّمكم كيف تدعون ربكم ، وقال لعبد صالح رضي دعاءه : { إذ نادى ربه نداء خفيّاً } [ مريم : 3 ] . وروى مبارك عن الحسن قال : " كانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع إلا همساً " . وروى أبو موسى الأشعري قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمعهم يرفعون أصواتهم فقال : " يا أيّها النّاسُ إنّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائِباً " . وروى سعد بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ وخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي " . وروى بكر بن خنيس عن ضرار عن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَمَلُ البِرِّ كُلّه نِصْفُ العِبَادَةِ والدُّعَاءُ نِصْفُ العِبَادَةِ " . وروى سالم عن أبيه عن عمر قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لا يردّهما حتى يمسح بهما وجهه " .
قال أبو بكر : في هذه الآية وما ذكرنا من الآثار دليلٌ على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره ؛ لأن الخفية هي السرّ ، رُوي ذلك عن ابن عباس والحسن . وفي ذلك دليل على أن إخفاء " آمين " بعد قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة أفضل من إظهاره لأنه دعاء ، والدليل عليه ما رُوي في تأويل قوله تعالى : { قد أجيبت دعوتكما } [ يونس : 89 ] قال : كان موسى يدعو وهارون يؤمّن ، فسمّاهما الله داعيين . وقال بعض أهل العلم : إنما كان إخفاء الدعاء أفضل لأنه لا يَشُوبُهُ رياءٌ .
وأما التضرع فإنه قد قيل إنه المَيْلُ في الجهات ، يقال ضَرَعَ الرجل يَضْرَعُ ضَرَعاً إذا مال بأصبعيه يميناً وشمالاً خوفاً وذلاّ ، قال : ومنه ضَرْعُ الشاة لأن اللبن يميل إليه ، والمضارعة المشابهة لأنها تميل إلى شبه نحو المقاربة . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه كان يدعو ويشير بالسبابة " . وقال ابن عباس : " لقد رُئي النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة رافعاً يديه يدعو حتى إنه ليُرَى ما تحت إبطيه " . وقال أنس : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فمد يديه حتى رأيت بياض إبطيه " . وفيما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رَفْعِ اليدين في الدعاء والإشارة بالسّبابة دليل على صحة تأويل من تأوّل التضرُّعَ على تحويل الأصبع يميناً وشمالاً .