قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ } . أكل المال بالباطل هو تملكه من الجهة المحظورة ؛ ورُوي عن الحسن أنهم كانوا يأخذون الرَّشَى في الحكم . وذكر الأكل والمراد سائر وجوه المنافع والتصرف ، إذْ كان أعظم منافعه الأكل والشرب . وهو كقوله تعالى : { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بِالبَاطِلِ } [ النساء : 29 ] والمراد سائر وجوه المنافع ، وكقوله تعالى : { ولا تَأْكُلُوا أموالهم } [ النساء : 2 ] و { إن الذين يأكلون أموال اليتامى } [ النساء : 10 ] .
مطلب : في زكاة الذهب والفضة
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ الله } الآية ؛ يقتضي ظاهره إيجاب إنفاق جميع المال ؛ لأن الوعيد لاحق بترك إنفاق الجميع لقوله : { ولا يُنْفِقُونَها } ولم يقل ولا ينفقون منها . فإن قيل : لو كان المراد الجميع لقال : ولا ينفقونهما . قيل له : لأن الكلام رجع إلى مدلول عليه ، كأنه قال : ولا ينفقون الكنوز ، والآخران يُكْتَفَى بأحدهما عن الآخر للإيجاز كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] ، قال الشاعر :
* نَحْنُ بما عِنْدَنَا وأَنْتَ بما * عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ *
والمعنى : راضون . والدليل على أنه راجع إليهما جميعاً أنه لو رجع إلى أحدهما دون الآخر لبقي أحدهما عارياً من خبره فيكون كلاماً منقطعاً لا معنى له ؛ إذْ كان قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ } مفتقراً إلى خبر ، ألا ترى أنه لا يجوز الاقتصار عليه ؟ .
وقد رُوي في معنى ظاهر الآية أخبار ؛ روى موسى بن عبيدة قال : حدثني عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " في الإبل صَدَقَتُها مِنْ جَمْعٍ دِينَاراً أَوْ دِرْهَماً أو تِبْراً أوْ فِضَّةً لا يُعِدُّهُ لغَرِيمٌ ، ولا يُنْفِقُهُ في سَبِيلِ الله فهي كي يُكْوَى بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ " ، قال : قلت : انظر ما يجيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه الأموال قد فشت في الناس ! فقال : أما تقرأ القرآن : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ } الآية . فاقتضى ظاهره أن في الإبل صدقتها لا جميعها وهي الصدقة المفروضة ، وفي الذهب والفضة إخراج جميعهما ؛ وكذلك كان مذهب أبي ذر رحمة الله عليه أنه لا يجوز ادّخار الذهب والفضة . وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً يَمُرُّ عَليَّ ثَلاثَةٌ وعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إلاّ أنْ لا أَجِدَ أَحَداً يَقْبَلُهُ مِنِّي صَدَقَةً إِلاّ أَنْ أَرْصُدَهُ لدَيْنٍ عَلَيَّ " . فذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحب ذلك لنفسه واختار إنفاقه ولم يذكر وعيد تارك إنفاقه . وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال : توفي رجل من أهل الصُّفَّةِ فوُجِدَ معه دينار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كَيَّةٌ " . وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه أخذ الدينار من غير حلّه أو منعه من حقه ، أو سأله غيره بإظهار الفاقة مع غناه عنه ، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَأَلَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فإنّما يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ " فقلنا : وما غناه يا رسول الله ؟ قال : " أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ " ، وكان ذلك في وقت شدة الحاجة وضيق العيش ووجوب المؤاساة من بعضهم لبعض . وقد رُوي عن عمر بن عبدالعزيز أنها منسوخة بقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } [ التوبة : 103 ] .
قال أبو بكر : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل المستفيض إيجابه في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين ديناراً نصف دينار ، كما أوجب فرائض المواشي ولم يوجب الكلّ ، فلو كان إخراج الكل واجباً من الذهب والفضة لما كان للتقدير وجه . وأيضاً فقد كان في الصحابة قوم ذَوُو يسار ظاهرٍ وأموالٍ جمّةٍ ، مثل عثمان وعبدالرّحمن بن عوف ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم فلم يأمرهم بإخراج الجميع ، فثبت أن إخراج جميع الذهب والفضة غير واجب ، وأن المفروض إخراجه هو الزكاة إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء نحو الجائع المضطر والعاري المضطر أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه . وقد روى شريك عن أبي حمزة عن عامر عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " ، وتلا قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } [ البقرة : 177 ] الآية .
وقوله تعالى : { ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ الله } يحتمل أن يريد به : ولا ينفقون منها ، فحذف " مِنْ " وهو يريدها ، وقد بينه بقوله : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] ، فأمر بأخذ بعض المال لا جميعه ، وليس في ذلك ما يوجب نسخ الأول إذ جائز أن يكون مراده : ولا ينفقون منها .
وأما الكنز فهو في اللغة كَبْسُ الشيء بعضُه على بعضٍ ، قال الهُذَلِيّ :
* لا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْتُ نَازِلَكُمْ * قَرْفَ الحَيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ *
ويقال : كنزت التمر إذا كبسته في القَوْصَرة ، وهو في الشرع لما لم يؤدَّ زكاته . ورُوي عن عمر وابن عباس وابن عمر والحسن وعامر والسدي قالوا : " ما لم يؤدَّ زكاته فهو كنز " ، فمنهم من قال : وإن كان ظاهراً ، " وما أدّي زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً " ، ومعلوم أن أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفاً ، فثبت أن الكنز اسم لما لم يؤدَّ زكاته المفروضة ، وإذا كان كذلك كان تقدير قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ } : الذين لا يؤدّون زكاة الذهب والفضة { وَلاَ يُنْفِقُونَهَا } يعني الزكاة في سبيل الله ، فلم تقتضِ الآية إلا وجوب الزكاة فحسب .
وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة : حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي : حدثنا أبي : حدثنا غيلان عن جعفر بن إياس عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ } كبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق فقال : يا نبي الله ، إنه كَبُرَ على أصحابك هذه الآية ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الله لم يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إلا ليَطِيبَ ما بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وإِنّما فَرَضَ المَوَارِيثَ لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ " ، قال : فكبّر عمر ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أُخْبِرُكُمْ بخَيْرِ مَا يَكْنِزُ المَرْءُ ؟ المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْها سَرَّتْهُ ، وإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ ، وإِذَا غَابَ عَنْها حَفِظَتْهُ " ، فأخبر في هذا الحديث أن المراد إنفاق بعض المال لا جميعه ، وأن قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ } المراد به منع الزكاة . وروى ابن لهيعة قال : حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ الحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكَ " . فأخبر في هذا الحديث أيضاً أن الحق الواجب في المال هو الزكاة . وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إِلا جِيءَ بهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وبكَنْزِهِ ، فيُحْمَى بها جَنْبُهُ وجَبِينُهُ حَتّى يَحْكُمَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ " ، فأخبر في هذا الحديث أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيره وأنه لا يجب جميعه ؛ وقوله : " فيُحْمَى بها جَنْبُه وجَبْهَتُه " يدل على أنه أراد معنى قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ } إلى قوله : { فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } يعني : لم تؤدّوا زكاته . وحدثنا عبدالباقي : حدثنا بشر بن موسى : حدثنا عبدالله بن صالح : حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ يُمَثَّلُ له شُجَاعٌ أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ ، يَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوَّقَهُ فَيَقُولُ أَنا كَنْزُكَ أَنَا كَنْزُكَ " . فأخبر أن المال الذي لا تؤدَّى زكاته هو الكنز . ولما ثبت بما وصفنا أن قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ الله } مراده منع الزكاة ، أوجب عمومه إيجاب الزكاة في سائر الذهب والفضة ، إذْ كان الله إنما علّق الحكم فيهما بالاسم فاقتضى إيجاب الزكاة فيهما بوجود الاسم دون الصنعة ، فمن كان عنده ذهب مَصُوغٌ أو مضروب أو تِبْرٌ أو فضة كذلك فعليه زكاته بعموم اللفظ ؛ ويدل أيضاً على وجوب ضم الذهب إلى الفضة لإيجابه الحق فيهما مجموعين في قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ الله } .
مطلب : في زكاة الحلي
وقد اختلف الفقهاء في زكاة الحليّ ، فأوجب أصحابُنا فيه الزكاة ؛ ورُوي مثله عن عمر وابن مسعود ، رواه سفيان الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود . ورُوي عن جابر وابن عمر وعائشة : " لا زكاة في الحليّ " ، وهو قول مالك والشافعي . ورُوي عن أنس بن مالك : " أن الحليّ تزكَّى مرة واحدة ، ولا تزكَّى بعد ذلك " . وقد ذكرنا وجه دلالة الآية على وجوبها في الحليِّ لشمول الاسم له . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار في إيجاب زكاة الحليّ ، منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأتين في أيديهما سواران من ذهب فقال : " أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ " قال : لا ، قال : " أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ الله بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ " فأوجب الزكاة في السوار . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا عتَّاب عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت : كنت ألبس أوْضاحاً من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال : " ما بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بكَنْزٍ " . وقد حوى هذا الخبر معنيين ، أحدهما : وجوب زكاة الحليّ ، والآخر : أن الكنز ما لم تؤدَّ زكاته . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن إدريس الرازي : حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق : حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره عن عبدالله بن شداد بن الهاد أنه قال : دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يديّ فَتَخَاتٍ من وَرِقٍ ، فقال : " مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ " فقالت : صنعتهنَّ أتزين لك يا رسول الله ! قال : " أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ " قالت : لا ، أو ما شاء الله ، قال : " هو حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ " . فانتظم هذا الخبر معنيين ، أحدهما : وجوب زكاة الحليّ ، والآخر : أن المَصُوغَ يسمَّى وَرِقاً لأنها قالت : " فتخات من وَرِق " فاقتضى ظاهر قوله : " في الرِّقَةِ رُبع العُشْرِ " إيجاب الزكاة في الحليّ ، لأن الرقة والورق واحد . ويدل عليه من جهة النظر أن الذهب والفضة يتعلق وجوب الزكاة فيهما بأعيانهما في ملك من كان من أهل الزكاة ، لا بمعنى ينضمّ إليهما ، والدليل عليه أن النقر والسبائك تجب فيهما الزكاة وإن لم تكن مرصدةً للنماء ، وفارقا بهذا غيرهما من الأموال لأن غيرهما لا تجب الزكاة فيهما بوجود الملك إلا أن تكون مرصدة للنماء ، فوجب أن لا يختلف حكم المصوغ والمضروب . وأيضاً لم يختلفوا أن الحُلِيَّ إذا كان في ملك الرجل تجب فيه الزكاة ، فكذلك إذا كان في ملك المرأة كالدراهم والدنانير . وأيضاً لا يختلف حكم الرجل والمرأة فيما يلزمهما من الزكاة ، فوجب أن لا يختلفا في الحليّ .
فإن قيل : الحليّ كالنقر العوامل وثياب البذلة . قيل له : قد بينا أن ما عداهما يتعلق وجوب الزكاة فيهما بأن يكون مُرْصَداً للنماء ، فما لم يوجد هذا المعنى لم تجب ، والذهب والفضة لأعيانهما بدلالة الدراهم والدنانير والنقر والسبائك إذا أراد بهما القنية والتبقية لا طلب النماء . وأيضاً لما لم يكن للصنعة تأثير فيهما ولم يغير حكمهما في حال ، وجب أن لا يختلف الحكم بوجود الصنعة وعدمها .
فإن قيل : زكاة الحليّ عَارِيَتُهُ . قيل له : هذا غلط ؛ لأن العارية غير واجبة والزكاة واجبة ، فبطل أن تكون العارية زكاة . وأما قول أنس بن مالك : " إن الزكاة تجب في الحليّ مرة واحدة " ، فلا وجه له ؛ لأنه إذا كان من جنس ما تجب فيه الزكاة وجبت في كل حَوْلٍ .
( فصل )
وقد دلت الآية على وجوب الزكاة في الذهب والفضة بمجموعهما ، فاقتضى ذلك وجوب ضَمِّ بعضها إلى بعض . وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أصحابنا : " يُضمُّ أحدهما إلى الآخر فإذا كمل النصاب بها زُكّي " . واختلف أصحابنا في كيفيته ، فقال أبو حنيفة : " يضم بالقيمة كالعروض " . وقال أبو يوسف ومحمد : " يُضم بالأجزاء " . وقال ابن أبي ليلى والشافعي : " لا يُضَمَّان " . ورُوي الضَّمُّ عن الحسن وبكير بن عبدالله بن الأشجّ وقتادة . والدليل على وجوب الزكاة فيهما مجموعَيْنِ قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ الله } فأوجب الله تعالى فيهما الزكاة مجموعين ؛ لأن قوله : { وَلا يُنْفِقُونَها } قد أراد به إنفاقهما جميعاً . ويدل على وجوب الضم أنهما متفقان في وجوب الحق فيهما وهو ربع العشر ، فكانا بمنزلة العروض المختلفة إذا كانت للتجارة لما كان الواجب فيها ربع العشر ، ضم بعضها إلى بعض مع اختلاف أجناسها . وقد قال الشافعي فيمن له مائة درهم وعَرَضٌ للتجارة يساوي مائة درهم : " إن الزكاة واجبة عليه " ، فضمَّ العرض إلى المائة مع اختلاف الجنسين لاتّفاقهما في وجوب ربع العشر .
وليس الذهب والفضة كالجنسين من الإبل والغنم ، لأن زكاتهما مختلفة . فإن قيل : زكاة خَمْسٍ من الإبل مثل زكاة أربعين شاة ولم يكن اتفاقهما في الحق الواجب موجباً لضمّ أحدهما إلى الآخر . قيل له : لم نَقُلْ إن اتفاقهما في المقدار الواجب يوجب ضمَّ أحدهما إلى الآخر ، وإنما قلنا إن اتفاقهما في وجوب ربع العشر فيهما هو المعنى الموجب للضم ، كعروض التجارة عند اتفاقها في وجوب ربع العشر وَقْتَ الضمّ ، والإبل والغنم ليس الواجب فيهما ربع العشر لأن الشاة ليست ربع العشر من خمس من الإبل ولا ربع العشر من أربعين شاة أيضاً ؛ لأنه جائز أن يكون الغنم خياراً ويكون الواجب فيها شاة وسطاً فيكون أقلَّ من ربع عشرها ، فهذا إلزامٌ ساقط .
فإن احتجّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ " وذلك يوجب الزكاة فيها سواء كان معها ذهب أو لم يكن . قيل له : كما لم يمنع قوله : " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " وجوبَ ضم المائة إلى العروض وكان معناه عندك : إذا لم يكن معه غيره من العروض ، كذلك نقول نحن في ضمه إلى الذهب .