قوله تعالى : { عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } . العفو ينصرف على وجوه ، أحدها : التسهيل والتوسعة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أَوَّلُ الوَقْتِ رِضْوَانُ الله وآخِرُهُ عَفْوُ الله " . والعفو الترك ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى " ، والعفو الكثرة ، كقوله تعالى : { حتى عَفَوْا } [ الأعراف : 95 ] يعني : كثروا ، وأعفيت فلاناً من كذا وكذا إذا سهلت له تركه ؛ والعفو الصفح عن الذنب ، وهو إعفاؤه من تَبِعَتِهِ وترك العقاب عليه ، وهو مثل الغفران في هذا الموضع ؛ وجائز أن يكون أصله التسهيل ، فإذا عفا عن ذنبه فلم يَسْتَقْصِ عليه وسهَّل عليه الأمر ، وكذلك سائر الوجوه التي تنصرف عليها هذه الكلمة يجوز أن يكون أصلها الترك والتوسعة . ومن الناس من يقول : إنه قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم ذنب صغير في إذنه لهم ؛ ولهذا قال تعالى : { عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } إذ لا يجوز أن تقول لم فعلت ما جعلت لك فعله ؟ كما لا يجوز أن تقول لم فعلت ما أمرتك بفعله ؟ قالوا : فغير جائز إطلاق العفو عما قد جعل له فعله ، كما لا يجوز أن يعفو عنه ما أمره به . وقيل : إنه جائز أن لا تكون منه معصية في الإذن لهم لا صغيرة ولا كبيرة ، وإنما عاتبه بأن قال : لم فعلت ما جعلت لك فعله مما غيره أوْلى منه ؟ إذ جائز أن يكون مخيّراً بين فعلين وأحدهما أوْلى من الآخر ، قال الله تعالى : { فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن } [ النور : 60 ] ، فأباح الأمرين وجعل أحدهما أوْلى . وقد روى شعبة عن قتادة في قوله : { عفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } : " كانت كما تسمعون ، ثم أنزل الله في سورة النور : { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } إلى قوله : { فأذن لمن شئت منهم } [ النور : 62 ] ، فجعله الله تعالى رخصة في ذلك " . ورَوَى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله } إلى قوله : { يَتَرَدَّدُونَ } ! " هذا بعينه للمنافقين حين استأذنوه للقعود عن الجهاد من غير عذر ، وعذر الله المؤمنين فقال : { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } " . وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قوله : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله } قال : " نسخها قوله : { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } إلى قوله : { فأذن لمن شئت منهم } [ النور : 62 ] ، فجعل الله تعالى رسوله بأعلى النظرين " .
قال أبو بكر : جائز أن يكون قوله تعالى : { عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } في قوم من المنافقين لحقتهم تهمة ، فكان يمكن النبي صلى الله عليه وسلم استبراء أمرهم بترك الإذن لهم ، فيظهر نفاقهم إذا لم يخرجوا بعد الأمر بالخروج ، ويكون ذلك حكماً ثابتاً في أولئك . ويدل عليه قوله : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ } ، ويكون قوله : { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } [ النور : 62 ] وقوله : { فأذن لمن شئت منهم } [ النور : 62 ] في المؤمنين الذين لو لم يأذن لهم لم يذهبوا ، فلا تكون إحدى الآيتين ناسخة للأخرى .