قوله تعالى : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالله وَاليَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله : { بأَمْوَالِهِمْ } الآية . يعني : لا يستأذنك المؤمنون في التخلف عن الجهاد لأن لا يجاهدوا ؛ وأضمر " لا " في قوله : { أَنْ يُجَاهِدُوا } لدلالة الكلام عليه ، وهذا يدل على أن الاستئذان في التخلف كان محظوراً عليهم ، ويدل على صحة تأويل قوله : { عَفَا الله عَنْكَ } على أنه عَفْوٌ عن ذنب وإن كان صغيراً . ورُوي عن الحسن في قوله : { أَنْ يُجَاهِدُوا } أنه على تقدير كراهة أن يجاهدوا ؛ وهو يؤول إلى المعنى الأول لأن إضمار " لا " فيه وإضمار الكراهة سواء . وهذه الآية أيضاً تدل على وجوب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعاً ، لأنه قال تعالى : { أَنْ يُجَاهِدُوا بأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } ، فذمّهم على الاستئذان في ترك الجهاد بهما .
مطلب : في الجهاد بالمال
والجهاد بالمال يكون على وجهين ، أحدهما : إنفاق المال في إعداد الكُراع والسلاح والآلة والراحلة والزاد وما جرى مجراه مما يحتاج إليه لنفسه . والثاني : إنفاق المال على غيره مما يجاهد ومعونته بالزاد والعدة ونحوها .
مطلب : في الجهاد بالنفس
والجهاد بالنفس على ضروب : منها الخروج بنفسه ومباشرة القتال ، ومنها بيان ما افترض الله من الجهاد وذكر الثواب الجزيل لمن قام به والعقاب لمن قعد عنه ، ومنها التحريض والأمر ، ومنها الإخبار بعورات العدو وما يعلمه من مكايد الحرب وسداد الرأي وإرشاد المسلمين إلى الأوْلى والأصلح في أمر الحروب ، كما قال الخباب بن المنذر حين نزل النبي صلى الله عليه وسلم ببدر فقال : يا رسول الله أهذا رأي رأيتَهُ أم وحي ؟ فقال : " بَلْ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ " قال : فإني أرى أن تنزل على الماء وتجعله خلف ظهرك وتعور الآبار التي في ناحية العدو ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ ونحو ذلك من كل قول يقوِّي أمر المسلمين ويوهن أمر العدو .
مطلب : في جهاد العلم
فإن قيل : فأي الجهادين أفضل أجهاد النفس والمال أم جهاد العلم ؟ قيل له : الجهاد بالسيف مبنيّ على جهاد العلم وفرع عليه ؛ لأنه غير جائز أن يعدوا في جهاد السيف وما يوجبه العلم ، فجهاد العلم أصل وجهاد النفس فرع ، والأصل أوْلى بالتفضيل من الفرع .
مطلب في أن تعلم العلم أفضل أم الجهاد
فإن قيل : تعلم العلم أفضل أم جهاد المشركين ؟ قيل له : إذا خيف مَعَرَّة العدو وإقدامهم على المسلمين ولم يكن بإزائه من يدفعه فقد تعيَّن فرض الجهاد على كل أحد ، فالاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم ؛ لأن ضرر العدو إذا وقع بالمسلمين لم يمكن تلافيه وتعلُّم العلم ممكن في سائر الأحوال ، ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية لا على كل أحد في خاصة نفسه ، ومتى لم يكن بإزاء العدو من يدفعه عن المسلمين فقد تعيَّن فرض الجهاد على كل أحد ، وما كان فرضاً معيناً على الإنسان غير موسع عليه في التأخير فهو أوْلى من الفرض الذي قام به غيره وسقط عنه بعينه ، وذلك مثل الاشتغال بصلاة الظهر في آخر وقتها هو أوْلى من تعلُّم عِلْمِ الدين في تلك الحال إذْ كان الفرض قد تعين عليه في هذا الوقت ، فإن قام بفرض الجهاد من فيه كفاية وغنى فقد عاد فرض الجهاد إلى حكم الكفاية كتعلم العلم ؛ إلا أن الاشتغال بالعلم في هذه الحال أوْلى وأفضل من الجهاد لما قدمنا من علوّ مرتبة العلم على مرتبة الجهاد ، فإن ثبات الجهاد بثبات العلم وإنه فرع له ومبنيّ عليه .
مطلب : يجوز الجهاد وإن كان أمير الجيش فاسقاً
فإن قيل : هل يجوز الجهاد مع الفساق ؟ قيل له : إن كل أحد من المجاهدين فإنما يقوم بفرض نفسه ، فجائز له أن يجاهد الكفار وإن كان أمير الجيش وجنوده فساقاً . وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق ، وغزا أبو أيوب الأنصاري مع يزيد اللعين ، وقد ذكرنا حديث أبي أيوب أنه لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاماً واحداً فإنه استعمل على الجيش رجل شاب ثم قال بعد ذلك : وما عليَّ من استعمل عليَّ ؟ فكان يقول : قال الله تعالى : { انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً } فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً . فدل على أن الجهاد واجب مع الفساق كوجوبه مع العدول ، وسائر الآي الموجبة لفرض الجهاد لم يفرق بين فعله مع الفساق ومع العدول الصالحين . وأيضاً فإن الفُسّاق إذا جاهدوا فهم مطيعون في ذلك كما هم مطيعون لله في الصلاة والصيام وغير ذلك من شرائع الإسلام . وأيضاً فإن الجهاد ضَرْبٌ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولو رأينا فاسقاً يأمر بمعروف ويَنْهَى عن منكر كان علينا معاونته على ذلك ، فكذلك الجهاد ، فالله تعالى لم يخصّ بفرض الجهاد العدول دون الفساق ؛ فإذا كان الفرض عليهم واحداً لم يختلف حكم الجهاد مع العدول ومع الفساق .