قوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إلاَّ إيّاهُ وبِالوَالِدَينِ إحْسَاناً } ، الآية :[ 23 ] :
قرن ذكر الوالدين بعبادة الله سبحانه ، فنبه به على عظيم إنعام الله تعالى المقتضي للشكر ، ونبه بعد ذلك على عظيم نعم الوالدين ، وبين اختلاف الوالدين ، ليكون بره بهما وإحسانه إليهما على قدر حاجاتهما فقال : { إمَا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُما{[1493]} } ، فخص هذه الحالة بالذكر ، وهي حالة حاجتهما إلى بره لتغيير الحال عليهما بالضعف النازل والكبر ، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزم من قبل ، لأنهما قد صارا في هذه الحالة كلا عليه ، فيحتاجان إلى أن يلي من أمرهما للضعف النازل منهما{[1494]} ، ما كان يحتاجه هو في صغره أن يليان منه ، فذلك معنى تخصيص هذه الحالة بالذكر ، ليبين ما يلزم من مزيد البر والتعاهد ، وما يتصل بخدمة وإنفاق .
ودل قوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُف } : على وجوب صبره عليهما حتى لا يتبرم ولا يضجر ، فإن العادة جارية في المتضجر عند الأمر أن يقول أف أو تف في الأمور ، فبين الله سبحانه تحريم هذا القدر من التبرم على الولد عند ضعف الوالدين وحاجتهما إلى بره ، ولم يقتصر تعالى على هذا القدر في بيان حقهما حتى قال : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ، مؤكداً لما تقدم ودالاً به على أن الواجب في بره لهما سلوك طريقة اللين في القول ، ثم قال : { وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } : والكريم من القول ما يوافق مسرة النفس ، ولا ينفر عنه الطبع ، ثم أمر بمزيد التواضع فقال : { واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ{[1495]} } ، وهذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة والتعبير عن المقصود بلفظ المجاز ، لأن الذل ليس له جناح ، ولا يوصف بذلك ، ولكنه أراد المبالغة في التذلل والتواضع ، وهو كقول امرىء القيس في وصف الليل :
فقلت له لما تمطى بصلبه *** وأردف أعجازاً وناء بكلكل
يصف الليل المتقدم على هذا البيت في قوله :
وليل كموج البحر أرخى سدوله ***عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
وليس لليل صلب ولا إعجاز ولا كلكل فهو مجاز ، وأراد به تكامله واستواءه .
ثم بين الله تعالى أن الذي يلزم لهما ليس مقصوراً على منافع الدنيا ، بل يلزمه مع ذلك ما يمكن في باب الآخرة من الدعاء ، لأنه لا يقدر منهما على ما سواه ، فقال : { وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً{[1496]} } ، بين العلة في لزوم الدعاء لهما ، وبين أنه يلزم الولد من الدعاء للوالدين ، أكثر مما يلزمه في غيرهما .