قوله تعالى : { إنّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ } [ 173 ] : عموم في السمك والجراد وغيرهما .
وللناس كلام في جواز تخصيص عموم كلام الله تعالى بالسنة ، وقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد ، وأما الدمان فالطحال والكبد " . وقد روى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جيش الخبط{[89]} : فإن البحر ألقى إليهم حوتاً أكلوا منه نصف شهر ، فلما رجعوا إلى النبي عليه السلام فأخبروه ، فقال : هل عندكم منه شيء تطعموني ؟
وبالجملة : الخبر عام وأيضاً الكتاب عام ، فإذا وقع التنازع في الطافي{[90]} ، لم يصح الإستدلال بعموم الخبر على عموم الكتاب . . .
ومنهم من يستدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعَاً لكُمْ{[91]} } ، وهذا مع عمومه لا يصلح لتخصيص عموم تحريم الميتة . واستدلوا عليه بقول النبي عليه السلام أنه قال قي حديث صفوان بن سليمان الزرقي عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة ( عن أبي هريرة ) عن النبي عليه السلام أنه قال في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . . وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالثبت ، وقد خالفه في سنده يحيى ابن سعيد الأنصاري فرواه عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله عليه السلام ، ومثل هذا الاضطراب في السند يوجب اضطراب الحديث ، وغير جائر تخصيص آية محكمة به . وقد روى زياد بن عبد الله البكائي قال : حدثنا سليمان الأعمش ، قال : حدثنا أصحابنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " البحر الذكي صيده والطهور ماؤه " . . وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول . وقد روي فيه حديث آخر ، وهو ما رواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي معاوية العلوي عن مسلم إبراهيم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . . قال أبو بكر الرازي : وهو الذي روى هذه الأخبار . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أحمد بن حنبل قال أخبرنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال حدثنا إسحاق بن حازم عن عبيد الله بن مقسم عن جابر عن النبي عليه السلام أنه سئل عن البحر ، فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . وأما أبو عيسى الترمذي فإنه يروي حديث سعيد بن سلمة في صحيحه ، ويقول : إنه من آل ابن الأزرق ، ويقول : إن المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني الدار - أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من البحر ؟ . . فقال عليه السلام : " البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . قال أبو عيسى : وفي الباب عن جابر والفراسي ، ثم قال وهذا حديث حسن صحيح . . وروى الرازي عن علي أنه قال : " ما طفا من صيد البحر فلا تأكله{[92]} " ، وروى أيضاً عن جابر وابن عباس كراهة الطافي .
وروى عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحة الطافي من السمك . .
وروى الرازي في أحكام القرآن - بإسناد له متصل عن جابر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما ألقى البحر أو جزر{[93]} عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه " . . وروي بإسناد آخر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما جزر البحر عنه فكل{[94]} ، وما ألقي فكل ، وما وجدته طافياً فوق الماء فلا تأكل " . وروي بإسناد آخر عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذ صدتموه ( وهو حي ) فكلوه ، وما ألقى البحر ( حياً ) فمات فكلوه وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه " . . وروي بإسناد آخر عن جابر : " ما وجدتموه وهو حي ( فمات ) فكلوه ، وما ألقى البحر طافياً ميتاً فلا تأكلوه " . . وروي{[95]} عن سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير موقوفاً على جابر . .
وبالجملة : هذه الأخبار لا نعرف صحتها على ما يجب ، ولكن الإشكال في عموم كتاب الله تعالى ، ويقابله أن عموم كتاب الله تعالى أنفقت الأمة على تطرق التخصيص إليه في غير الطافي من ميتات السمك فلم يبق وجه العموم معمولاً به ، وصار الحديث المتفق على صحته واستعماله في غير الطافي معمولاً به في الطافي . .
وروى أصحابنا عن سعيد بن بشير عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قال : " كل مما طفا على البحر " . . وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته ، وقال شعبة : لأن أزني سبعين زنية أحب إليَّ من أن أروى عن أبان ابن أبي عياش . .
وقد أباح أبو حنيفة الميتة من الجراد{[96]} ، ومستنده قوله عليه السلام : " أحلت لنا ميتتان{[97]} " ، وقضى بذلك على عموم الكتاب في تحريم الميتة ، مع أن مالكاً يقول في الجراد أنه إذا أخذ حياً وقطع رأسه وشوي أكل ، وما أخذ منه حياً فغفل عنه حتى مات لم يؤكل ، إنما هو بمنزلة ما وجد ميتاً قبل أن يصاد فلا يؤكل عنده ، وهو قول الزهري وربيعة . . وقال مالك : ما قتله مجوسي فلا يؤكل . . وقال الليث بن سعد : أكره الجراد ميتاً ، فأما إذا أخذته وهو حي فلا بأس به .
وقال النبي عليه السلام في الجراد : " أكثر جنود الله : لا آكله و لا أحرمه " {[98]} ولم يفصل بين ما مات وبين ما قتله آخذه . . وقال عطاء عن جابر : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبنا جراداً فأكلناه . . وقال عبد الله بن أبي أوفى : " غزوت مع رسول لله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فنأكل الجراد ولا نأكل غيره{[99]} " . . وكانت عائشة تأكل الجراد وتقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله " . .
وهذه الأخبار مستعملة بالإجماع في تخصيص بعض ما تناوله عموم الكتاب في السمك والجراد ، وذلك يدل على بطلان مذهب مالك في الجراد ومذهب أبي حنيفة في الطافي . . ولأن إسالة الدم إذا لم تعتبر فأي معنى لاشتراط الذكاة في النوعين وأي أثر للآدمي واصطياده ؟ . .
ودل ظاهر تحريم الميتة والمنخنقة على تحريم الأجنة كما قاله أبو حنيفه ، وخالفه فيه صاحباه مع الشافعي . . ومالك يقول : إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل{[100]} ، وهو قول سعيد بن المسيب ، لأنه عند تمام خلقه تحصل فيه الحياة والذكاة ، وقبل ذلك لا حياة فيبقى على عموم تحريم الميتة .
وذلك ضعيف ، فإنه إن لم يكن حياً فلا يكون ميتة ، فالميتة ما زايلتها الحياة . .
وقد وردت أخبار في أن ذكاة الجنين ذكاة أمه ، وبعد حملها على أن ذكاة الجنين مثل ذكاة الأم فإنه عند ذلك لا يكون جنيناً ، وإذا تم وخرج حياً وفيه حياة مستقرة ، فلا يخفى حكم الذكاة ، فلا يكون في ذكره فائدة . .
وقد روى مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد أن النبي عليه السلام سئل عن الجنين يخرج ميتاً فقال : " إن شئتم فكلوه ، فإن ذكاته ذكاة أمه{[101]} " . وأما مالك فإنه ذهب إلى ما روى في حديث سليمان بن عمران عن ابن البراء عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام بأن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت . وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : ( إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه ) . . والشافعي يقول : " نحن نقول بهما جميعاً ، إلا أن ذكر الإشعار كان تنبيهاً على مثله في الذي هو أولى بكونه جزءاً من الأم " .
واقتضى عموم تحريم الميتة المنع من دبغ جلدها ، لولا الخبر المخصّص{[102]} واقتضى ظاهر الآية أيضاً تحريم الانتفاع بدهن الميتة ، وروى فيه محمد ابن إسحاق عن عطاء عن جابر قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون الأوداك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجمع هذه الأوداك{[103]} وهي من الميتة وغيرها ، وإنما هي للأدم والسفن ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها " {[104]} فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرمه على الإطلاق ، ودخل تحته تحريم البيع . . وذكر عن عطاء أنه قال : يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن ، وهذا قول شاذ ، فظن أصحاب أبي حنيفة أن تحريم الله تعالى عين الميتة منع الانتفاع بالميتة من الوجوه كلها ومنع بيعها ، ويجوز بيع الأعيان النجسة غير الميتة ، إذ التحريم فيها ليس مضافاً إلى العين .
قال الشافعي رحمه الله : ينبغي من قوله { حُرِمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ } تحريم لبنها ، وأبو حنيفة حكم بطهارة أنفحتها وألبانها ، ولم يجعل لموضع الخلقة أثراً في تنجيس ما جاوره بما حدث فيه خلقة ، قال : ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير غسل ولا تطهير لها ، فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه ، ويلزمه على مساق هذا الحكم بطهارة ودك الميتة ، فإن الموت لا يحله أصلاً ، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها . .
وله أن يقول : إن الودك في حكم الجزء الباقي معه ، واللبن خلق خلقاً ينفصل عن الأصل فيحتلب ويستخرج منه ، ولو انفصل الودك من الجملة في حياة الجملة كان نجساً بخلاف اللبن ، فإذا لم ينجس اللبن في حالة الحياة إذا انفصل فإنما ينجس بالمجاورة ، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها ، والشعر والعظم من جملة الميتة ، فعموم التحريم يشملهما .
قوله تعالى : { والدم } : أوجب تحريم الدم مطلقاً ، وقال في موضع آخر :{ أوْ دَمَاًَ مَسْفُوحَاً{[105]} } ، فلعل التقييد بالسفح تنبيه على ما يمكن سفحه ليخرج منه الكبد والطحال{[106]} ، أو لئلا تتبع العروق وما فيها من الدم في اللحم{[107]} . .
وقال تعالى : { وَلَحْمُ الخِنزِيرِ } بعد قوله : { حُرِمَتْ عليكم المَيْتَةَ{[108]} } ، وقال : { إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً } - إلى قوله - { أَوْ لَحمَ خِنْزِيرِ فّإنّهُ رِجْسٌ } ، فخص اللحم بالذكر ، ولم يقل " حرمت الخنزير " كما قال : " حرمت الميتة " لأنه معظم ما يقصد منه ، وفيه مراغمة للكفار الذين يتدينون بأكل لحمه ، ومثله تحريم قتل الصيد مع تحريم جميع الأفعال في الصيد ، ونص على تحريم البيع إذا نودي للصلاة لأنه أعظم ما يبتغون به منافعهم ، فقيل لهم : فلم لا يخص كجسم الميتة تنبيهاً على الأجزاء ؟ . . فأجابوا بأنه أريد به مراغمة الكفار في تخصيص اللحم الذي هو أعظم مقاصدهم من الخنزير بالتحريم . .
قوله تعالى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللهِ } [ 173 ] : ولا يرى ذلك أصحابنا محرماً إلا من جهة الاعتقاد ، ومقتضاه أن النصراني إذا سمى المسيح على الذبح يحل ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ومذهب عطاء ومكحول والحسن وسعيد بن المسيب ، والمشرك وإن ذبح على اسم الله تعالى لا يحل ، ونقل عن الشافعي خلاف ذلك في النصراني يذبح على اسم المسيح ، وليس بصحيح فإن الله تعالى أباح لنا أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح ، وأن النصراني إذا سمى الله عز وجل ثالث ثلاثة فإنما يريد بمطلقه المسيح ، وذلك معلوم من اعتقاده وبه كفرناه ، وليس كالمنافق الذي ليس يحكم بكفره ظاهراً بما يعتقده ، والنصراني حكم بكفره لما يعتقده من الشرك فلا يغيره بالتسمية مع الاعتقاد القبيح{[109]} .
قوله : { فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [ 173 ] : يحتمل غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل ، ويحتمل العدوان بالسفر ، فلا جرم اختلف قول الشافعي في إباحة أكل الميتة للمضطر العاصي بسفره . ويشهد لأحد القولين قوله تعالى : { إلاَّ ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ{[110]} } فإنه عام ، ويشهد للقول الآخر قوله : { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم{[111]} } . . .
وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصياً ، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقاً بالسفر ، بل هو من نتائج الضرورة سفراً كان أو حضراً ، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضاً وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء ، وهو الصحيح عندنا . .