قوله تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمّةٌ{[627]} يَدْعونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهونَ عَنِ المُنْكَرِ } [ 104 ] : وذلك يدل على أنه فرض لكنه فرض على الكفاية ، ولعل قوله : { وَلْتَكُنْ مِنْكُم أمّةٌ } : يدل على ذلك فإنه يقتضي بظاهرة أنه إذا قام به البعض ، سقط عن الباقين{[628]} ، فإنه قال : { وَلْتَكُن مِنْكُمْ أمّة } ، أي إن جميعكم ربما لا يمكنهم ذلك ، فليتول قوم منكم حتى يكون المعروف مأتياً والمنكر مرفوضاً ، وقد أمر الله تعالى بالأمر بالمعروف في مواضع في كتابه لا حاجة بنا إلى ذكرها ، ووردت في ذلك أخبار أوفاها ما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان{[629]} " .
وقد قال الله تعالى في هذا المعنى : { وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المؤمِنينَ اقْتَتَلوا فأصْلِحوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْداهُما على الأخّرى فقاتِلوا الّتي تَبْغَى حَتّى تَفىءَ إلى أمْرِ اللهِ{[630]} } ، وقال : { لُعِنَ الّذينَ كَفروا مِن بَني إسْرائيلَ عَلى لِسانِ داوُد }{[631]} - إلى قوله - { كانوا لا يَتَناهونَ عَنْ مُنْكرٍ فَعَلُوه } .
وقد قال الله تعالى : { يا أيها الّذينَ آمنوا عَلَيْكُم أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيتْم }{[632]} الآية : وليس ذلك ناسخاً لوجوب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكنه إذا أمكنه إزالته بلسانه فليفعله ، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة والقتل فليفعله ، وإن انتهى بدون القتل لم يجز بالقتل وهذا يتلقى من قوله تعالى : { فَقاتِلوا الّتي تَبْغِي حَتّى تَفيءَ إلى أمْرِ اللهِ{[633]} } .
وعليه بنى العلماء : أنه إذا دفع الصائل{[634]} على النفس ، أو على المال عن نفسه ، أو عن ماله ، أو مال غيره ، أو نفس غيره ، فله ذلك ولا شيء عليه ، ولو رأى زيد عمراً وقد قصد مال بكر ، فيجب عليه أن يدفعه عنه ، إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به ، ولو قصد ماله ، فيجوز له أن يتركه عليه ولا يدفعه ، وفي الصيال على النفس خلاف .
ولو كان في يد الغاصب مال غيره وسعك أن تبيعه ، ويقتله إن لم يقف ، وكذلك في السارق إذا أخذ المتاع فيجوز ابتياعه ، والسارق الذي ينقب البيوت كمثل ، حتى قال العلماء : لو فرضنا قوماً من أصحاب المكوس والضرائب والأموال الذين في أيديهم أموال الناس ، وهم ممتنعون من إيصالها إلى الملاك ، ولا ينفعهم الردع بالكلام والملام والتخويف بالله ، فيجوز قتلهم من غير إنذار ، لأنهم لا يقبلون ذلك من أحد لقوله تعالى :
{ لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ } يعني : لم يقبل منكم ولا يقدر على منعه من الظلم ، فعليك نفسك .
وقال تعالى في ذكر أصحاب السبت{[635]} : { أنجَيْنا الّذينَ يَنْهَوْنَ عنِ السوءِ وأخْذْنا الذينَ ظَلَموا{[636]} } ، فدل ذلك على أن من لم ينه عن الظلم ، جعل راضياً به حتى وجب تعذيبه ، وقد نسب قتل الأنبياء المتقدمين ، إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود ، الذين كانوا من موالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم .
وبنى الشافعي عليه : أن فعل الفاعل ، إذا كان في نفسه قبيحاً ومفسدة فيجوز دفع الفاعل عنه لما يأتي على نفسه ، ولا ضمان على قاتله ، مثل أن يصول مجنون أو بهيمة على مال لرجل أو نفسه ، فيجوز للمصول عليه ولغيره قتله ، ولا ضمان عليه ، وهو من قبيل النهي عن المنكر ، وليس معنى النهي تكليف الفعل ، ولكنه دفع الفاعل عن الفعل القبيح والظلم والتشنيع .
وأبو حنيفة يخالف في ذلك ، لأنه يرى أن القاتل ليس ظالماً بفعله ، ويقال له إنه ليس ظالماً بفعله ، إلا لأن الفعل غير قبيح ولا مفسدة ، ولكن لجهل الفاعل ، ولو علمه كان به ظالماً ولحقه الذم واللوم والسفه ، وهذا بين .
ومن جملة ذلك : أنه إذا كان في بلد الإسلام من يضلل الناس بشبهة وبدعة ، فأنه يجب إزالته بما أمكن ، لأنه نهي عن المنكر ، ومن لم يكن داعياً للناس إلى ذلك ، وإنما يذعن إلى الحق ، فإقامة الدلائل على صحة قول أهل لحق وتبيين فساد شبهه ، ما لم يخرج على أهل الحق بسفيه ، ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام ، فإن خرج داعياً إلى مقالته مقاتلاً عليها ، فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفيء إلى أمر الله .