قوله تعالى : { والسّارِقُ والسّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيْدِيَهُمَا{[1178]} } : واعلم أن السرقة في العرف واللغة ، اختزال شيء على سبيل الخفية ومسارقة الأعين ، وقد ورد في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته " ، قيل يا رسول الله كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها وسجودها ، إلا أنه ليس سارقاً من حيث موضع الاشتقاق ، فإنه ليس فيه مسارقة الأعين غالباً .
قوله تعالى : { والسّارِقُ والسّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } : ولم يختلف العلماء في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمنى ، فهي إذاً مراد الله تعالى بقوله : { فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
واعلم أن قوله { والسّارِقُ والسّارِقَةُ } عند قوم يتعلق به في إيجاب قطع من شمله اسم سارق ، إلا من خصه الدليل وهو عموم ، وعندهم في كل مقدار إلا ما خصه الدليل .
وأبى ذلك آخرون ، فإنه لما قال سارق ، ولم يقل سارق ماذا ، والإنسان يقول : سرقت كلام فلان ، وسرقت علمه وحديثه ، وقال عليه الصلاة والسلام : " إن أسوأ الناس سرقة من سرق من صلاته ، قالوا : يا رسول الله كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها وسجودها{[1179]} " .
فذكروا أن اسم السارق لا يمكن أن يعلق عليه القطع ، لاعتبارنا فيه شروطاً لا يدل لفظ السارق عليها ، ولزمهم على هذا أن لا يتعلق بعموم لفظ البيع والنكاح والإجارة إلى غير ذلك ، لاعتبار شروط فيها لا يدل اللفظ عليها .
وقد قال غيرهم : بل يتعلق به وبأمثاله نظراً إلى عموم اللفظ ، نعم سرقة الكلام والعلم لا تفهم في المتعارف من إطلاق اسم السرقة ، وإنما الكلام في المتعارف ، كما لا يفهم من إطلاق الزنا زنا القرد والبهائم ، ولما قال عليه الصلاة والسلام أسوأ السراق حالاً من سرق من صلاته ، لم يفهم الناس وهم أهل اللغة معناه ، حتى فسر رسول الله معناه وما أراده ، لأنه لم يكن من تعارف أهل اللغة ، ولو قال : " أسوأ السراق من سرق مال فلان " ، لما احتاجوا إلى المراجعة ، ولما قالوا : كيف يسرق مال فلان ؟
نعم هذا الجنس إنما يمتنع التعلق به إذا كان مخصوصاً بمخصوص مجمل ، فأما إذا لم يكن المخصوص مجملا ، فيجوز التعلق به ، والمخصوص المجمل طاريء على اللفظ العام ، فلا بد من بيان مثله ها هنا حتى يمتنع التعلق به ، وإلا فالتعلق به جائز ، وهذا مما بسطنا القول فيه في الأصول بوجوه أخر ذكرناها هناك ، فليوجد من ثم{[1180]} .
وإذا تبين أن المخصص في حكم العارض ، فإذا اختلفنا في مقدار ، فالذي يأخذ بالأقل ويوجب القطع فيه أسعد حالاً ، لأنه يستند فيه إلى عموم اللفظ ، إلا فيما يستيقن خصوصه به ، وكذلك إذا حصل الخلاف في النباش أو الفواكه الرطبة ، إلى غير ذلك مما يختلف فيه .
والمتفق عليه في موضع القطع مفصل الكوع ، واسم اليد مطلقاً يتعارف به ذلك ، قال تعالى : { إذَا أَخرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا{[1181]} } ، وقال لموسى : { أَدْخِلْ يَدَكَ في جَيبِكَ{[1182]} } ، ويمتنع أن يدخل بها إلى المرفق ، ولو كان اسم اليد متناولاً للعضو إلى المنكب ، لكان يقال : قطع بعض يد السارق ، وهذا خلاف العرف ، وقد شرحنا هذا من قبل ، والمعتمد فيه الإجماع .
والشافعي حمل مطلق اليد في التيمم على اليد إلى المرفق كما في الوضوء ، لا لأن اسم اليد يشمل ذلك من حيث اللغة ، ولكن لأن التوقيف ورد بذلك ، ولأن التيمم بدل في اليد ، والظاهر أنه يجري على ما أجري الأصل عليه ، وإن كان بين البدل والأصل خلاف في الرأس والرجل ، إذا شرع في اليد يظهر على أنه شرع على نحو ما شرع له الأصل .
وهذا وإن كان لا يظهر على ما يجب ، فالتوقيف أقوى معتصم .
واعلم أن آية السرقة ليس فيها تعرض لدفعات السرقة ، وإنما فيه التعرض للدفعة الأولى ، وقطع اليد اليسرى والرجل اليمنى على مذهب الإمام الشافعي ، والرجل اليسرى في الكرة الثانية على المذاهب كلها متلقى من السنة لا من الكتاب فاعلمه ، وليس في الكتاب إلا بيان الكرة الأولى .
نعم في كتاب الله تعالى بيان موجبات جرائم قطاع الطريق على اختلاف جرائمهم على ما ذكره ابن عباس ، فإن تلك العقوبات المختلفة تعلقت بجرائم مختلفة في الكرة الأولى ، لأن الله تعالى بين ما تعلق بالأولى ، وبين ما يتعلق بالكرة الثانية بعد الفراغ من الأولى .
نعم ، لم يتعرض للدفعة الثانية ، لأنه يندر من السارق بعد قطع يده أن يرجع وهو ناقص إلى السرقة التي يحتاج فيها إلى ملابسة الإغرار ، وسرعة الحركة ، والمخاطرة بالمهجة ، وشدة العدو ، والذي يده ناقصة لا يتأتى منه ذلك ، فأبان الله تعالى جزاء السارق ، ولم يتعرض للكرة الثانية ، وتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لها .
والسارق من بيت المال لا قطع عليه في ظاهر مذهب الشافعي ، وهو مذهب الجماعة ، لأن له فيه نصيباً ، وإليه أشار علي رضي الله عنه لما أتى برجل قد سرق مغفراً من الخمس ، فلم ير عليه قطعاً ، قال : لأن له فيه نصيباً ، وفي وجه القطع تعلقاً بعموم الآية وبلفظ السرقة .
ويتعلق بعموم كتاب الله تعالى والإيماء إلى التعليل في إيجاب القطع على ذوي الأرحام ، بسرقة أموال أقاربهم خلافاً لأبي حنيفة .
وإذا سرق فقطعت يده ، ثم عاد وسرق ذلك الشيء نفسه قطعت رجله عندنا ، خلافاً لأبي حنيفة ، ولا يتعلق به من جهة العموم ، فإن الذي دل عليه العموم قطع اليد ، والواجب في الكرة الثانية قطع الرجل ، لم يتعلق به من حيث التعليل ، وأن الثاني إذا كان مثل الأول ، وتعلق به ما تعلق بالأول ، أو مثل ما تعلق بالأول ، فيكون الاحتجاج بالعلة ، لا بالاسم ، فليعرف العارف هذه المراتب ما يصح الاحتجاج منه بالعموم ، وما يحتج فيه بالمفهوم من الاسم .
واعلم أن الذي يجب على السارق من القطع ، يجب جزاء على الفعل أو زجراً ، فالشرع اعتنى ببيانه وإيضاح حكمه ، ولم يتعرض للضمان الذي لا يرجع إلى الفعل ، ولا يتعلق به ، وإنما هو بدل عن المحل ، كما أوجب على الزاني الجلد ، ولم يتعرض للمهر ، وأوجب على قاطع الطريق القتل ، ولم يتعرض للدية من بعد التوبة في قوله : { إلاَّ الّذِين تَابُوا مِنْ قَبلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم } ، لأن ذلك حوالة على بيان آخر{[1183]} .