قوله تعالى : { وَمَنْ يُوَلِّهم يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلَى فِئَةٍ } ، الآية :[ 16 ] :
روى أبو نضرة{[1343]} عن أبي سعيد ، أن ذلك إنما كان يوم بدر ، وقال أبو نضرة : لأنهم لو انحازوا يومئذ ، لانحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم .
وهذا الذي قاله أبو نضرة فيه نظر ، لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالخروج ، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال ، وإنما ظنوا أنها العير ، فخرجوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه .
فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم ، وإنهم لو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ، غلط لما بيناه .
وقد قيل : إنه لم يجز لهم الانحياز يومئذ ، لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن الانحياز جائزاً لهم ، قال الله تعالى : { مَا كَانَ لأَهلِ المَدينَة وَمَنْ حَوْلَهم مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَن رَسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأنفُسِهِمْ عَنْ نَفسِهِ{[1344]} } ، فلم يكن لهم أن يسلموا نبيهم ، وإن تكفل الله بنُصرته وعصمته من الناس ، كما قال تعالى : { واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ{[1345]} } ،
فكان ذلك فرضاً عليهم ، قلَّ أعداؤه أو كثروا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، ومن كان ينحاز عن القتال ، فإنما كان ينحاز إلى فئة ، وما كان للمسلمين فئة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عمر : كنت في جيش ، فخاض الناس خيضة ، ورجعنا إلى المدينة فقلنا : نحن الفرارون ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " أنا فئتكم{[1346]} " ،
فلم يكن للمسلمين إذ ذاك أن ينحازوا قل عدد العدو أو كثر ، وقال تعالى في آية أخرى : { يَا أَيُّهَا النّبِيُ حَرِّضِ المؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ{[1347]} } ، ثم نسخ بقوله : { الآنَ خفَّفَ اللهُ عَنكُم{[1348]} } ، وليس عند أصحاب الشافعي في ذلك تفصيل ، فيجوز فرار الواحد من ثلاثة .
وقال محمد : إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفاً ، فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر عددهم ، ولم يذكر عن أصحاب أبي حنيفة خلافاً فيه ، واحتج بحديث الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الأصحاب أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة ، وفي بعضها ما يغلب قوم يبلغون اثني عشر ألفاً إذا اجتمعت كلمتهم " ،
وهذا ليس بيان حكم شرعي وإنما هو بيان حكم العرف .
وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل فقيل له : أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله تعالى وحكم بغيرها ؟ فقال مالك : إن كان معك اثنا عشر ألفاً مثلك فلا يسعك التخلف ، وإلا فأنت في سعة من التخلف .