الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَنِيفِيَّةِ . الثَّانِي : بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَقِّ . الثَّالِثُ : بِالطَّاعَةِ . الرَّابِعُ : إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَكُلُّهَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لَا انْقِطَاعَ فِيهِ لِانْتِظَامِ الْمَعْنَى مَعَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ . الثَّانِي : لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَخْتَلِفُوا ، فَيَرْحَمُ مَنْ يَرْحَمُ ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُ ، كَمَا قَالَ : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } . وَقَالَ : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } . وَاعْجَبُوا مِمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } ، وَيَتَوَقَّفُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِلْفَسَادِ ، وَهَلْ يَكُونُ الْفَسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ إلَّا بِالِاخْتِلَافِ .
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } لِلِاخْتِلَافِ ، فَقَالَ لِي : لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَهِمَ الْآيَةَ ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ قَرَأَ : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قَالَ : خَلَقَ أَهْلَ رَحْمَتِهِ ، لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا . وَنَحْوُهُ عَنْ طَاوُسٍ ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ ، وَأَخْبَرَنَا بِهِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . أَلَا تَرَوْنَ إلَى خَاتِمَةِ الْآيَةِ حِينَ قَالَ : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك } ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَقَالَ : ( يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآدَمَ : ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ . قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ ؛ فَلِهَذَا خَلَقَهُمْ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ) .