الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ : وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهَا ، وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَعْنًى ، وَهِيَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ ، يَعْنِي جَمَاعَةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ . كَمَا يُقَالُ : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ : جَمَاعَةٌ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ قَتَادَةُ : مَعْنَاهُ لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ : لَجَعَلَهُمْ كُفَّارًا أَجْمَعِينَ . وَهَذِهِ آيَةٌ لَا يُؤْمِنُ بِهَا إلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ وَإِرَادَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ .
وَالْأُولَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنِيُّ هَاهُنَا بِالْآيَةِ الْمُسْلِمِينَ ، تَقْدِيرُهَا : لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ ، وَلَكِنَّهُ قَسَّمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِحِكْمَتِهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } قِيلَ : يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْأَدْيَانِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : يَعْنِي الِاخْتِلَافَ فِي الرِّزْقِ : غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ . وَهَذَا بَعِيدٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ الْأَدْيَانِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا ، وَإِخْبَارِ اللَّهِ عَنْ حُكْمِهِ عَلَيْهَا ، وَرَحْمَةِ مَنْ يَرْحَمُ مِنْهَا ، فَرَجَعَ وَصْفُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ إلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ ، وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ ، إلَّا وَاحِدَةً . قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي ) .