الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاك عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا إنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا : وَهِيَ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْخَلْقِ بُشْرَى كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ الْمُبَشِّرَاتِ إلَّا الرُّؤْيَا ) ، وَحَكَمَ بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا ؛ فَأَنْكَرَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ . وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ . وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي حَقِيقَتِهَا ؛ فَقَالَ الْقَاضِي ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ : إنَّهَا أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ وَاعْتِقَادَاتٌ .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ : هِيَ إدْرَاكٌ حَقِيقَةً ، وَحَمَلَ الْقَاضِي وَالْأُسْتَاذُ ذَلِكَ عَلَى رُؤْيَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ يَطِيرُ وَهُوَ قَائِمٌ ، وَفِي الْمَشْرِقِ وَهُوَ فِي الْمَغْرِبِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إدْرَاكًا حَقِيقَةً .
وَعَوَّلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ فِي أَجْزَاءٍ لَمْ تَحِلَّهَا الْآفَةُ ، وَمِنْ بَعْدِ عَهْدِهِ بِالنَّوْمِ اسْتَغْرَقَتْ الْآفَةُ أَجْزَاءَهُ ، وَتَقِلُّ الْآفَةُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ . وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ لَهُ عِلْمًا نَاشِئًا ، وَيَخْلُقُ لَهُ الَّذِي يَرَاهُ لِيَصِحَّ الْإِدْرَاكُ ، فَإِذَا رَأَى شَخْصًا وَهُوَ فِي طَرَفِ الْعَالَمِ فَالْمَوْجُودُ كَأَنَّهُ عِنْدَهُ ، وَلَا يَرَى فِي الْمَنَامِ إلَّا مَا يَصِحُّ إدْرَاكُهُ فِي الْيَقَظَةِ ، وَلِذَلِكَ لَا نَرَى شَخْصًا قَائِمًا قَاعِدًا فِي الْمَنَامِ بِحَالٍ ، وَإِنَّمَا يَرَى الْجَائِزَاتِ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَاتِ ، أَوْ الْأَشْيَاءَ الْمُعْتَادَاتِ ، وَإِذَا رَأَى نَفْسَهُ يَطِيرُ أَوْ يَقْطَعُ يَدَهُ أَوْ رَأْسَهُ فَإِنَّمَا رَأَى غَيْرَهُ عَلَى مِثَالِهِ ، وَظَنِّهِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرٍ : إنَّهَا أَوْهَامٌ ، وَيَتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ( مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي ) ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الذَّاتَ النَّبَوِيَّةَ وَلَا الْعَيْنَ الْمُرْسَلَةَ إلَى الْخَلْقِ ، وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالًا صَادِقًا فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ ، وَالْخَبَرِ بِهِ ؛ إذْ قَدْ يَرَاهُ شَيْخًا أَشْمَطَ ، وَيَرَاهُ شَابًّا أَمْرَدَ ، وَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا زَائِدًا ، فَقَالَ : ( مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ ) أَيْ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيلًا وَلَا تَلْبِيسًا وَلَا شَيْطَانًا ؛ وَلَكِنَّ الْمَلِكَ يَضْرِبُ الْأَمْثِلَةَ عَلَى أَنْوَاعٍ ، بِحَسَبِ مَا يَرَى مِنْ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْمِثَالِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ ؛ إذْ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّائِمِ إلَّا بِالرَّمْزِ وَالْإِيمَاءِ فِي الْغَالِبِ ، وَرُبَّمَا خَاطَبَهُ بِالصَّرِيحِ الْبَيِّنِ ، وَذَلِكَ نَادِرٌ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَأَيْت سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ تَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَهْيَعَةَ ، فَأَوَّلْتُهَا الْحُمَّى ، وَرَأَيْت سَيْفِي قَدْ انْقَطَعَ صَدْرُهُ وَبَقَرًا تُنْحَرُ ، فَأَوَّلْتُهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي يُقْتَلُ ، وَالْبَقَرُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ ، وَرَأَيْت أَنِّي أَدْخَلْت يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ ، وَرَأَيْت فِي يَدِي سِوَارَيْنِ فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي ) ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ضُرِبَتْ لَهُ بِهِ الْأَمْثَالُ .
وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ أَوَّلًا ، وَمِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ مَعْنَاهُ إلَّا بَعْدَ الْفِكْرِ .
وَقَدْ رَأَى النَّائِمُ فِي زَمَانِ يُوسُفَ بَقَرًا فَأَوَّلَهَا يُوسُفُ السِّنِينَ ، وَرَأَى أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَأَوَّلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَبَوَيْهِ ، وَأَوَّلَ الْكَوَاكِبَ الْأَحَدَ عَشَرَ إخْوَتَهُ الْأَحَدَ عَشَرَ ، وَفَهِمَ يَعْقُوبُ مَزِيَّةَ حَالِهِ ، وَظُهُورَ خِلَالِهِ ؛ فَخَافَ عَلَيْهِ حَسَدَ الْإِخْوَةِ الَّذِي ابْتَدَأَهُ ابْنَا آدَمَ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْكِتْمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ كَانَ يُوسُفُ فِي وَقْتِ رُؤْيَاهُ صَغِيرًا ، وَالصَّغِيرُ لَا حُكْمَ لِفِعْلِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِرُؤْيَاهُ حُكْمٌ ؟
فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
الْأَوَّلُ : أَنَّ الصَّغِيرَ يَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُ بِالْقَصْدِ ، فَيُنْسَبُ إلَى التَّقْصِيرِ ، والرُّؤْيَا لَا قَصْدَ فِيهَا ، فَلَا يُنْسَبُ تَقْصِيرٌ إلَيْهَا .
الثَّانِي : أَنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ حَقِيقَةً كَمَا بَيَّنَّاهُ ، فَيَكُونُ مِنْ الصَّغِيرِ كَمَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْيَقِظَةِ ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى صُدِّقَ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى فِي الْمَنَامِ تَأَوَّلَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ خَبَرَهُ يُقْبَلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ ، مِنْهَا الِاسْتِئْذَانُ فَكَذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِك فَيَكِيدُوا لَك كَيْدًا } حُكْمٌ بِالْعَادَةِ مِنْ الْحَسَادَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْقَرَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَالْحُكْمُ بِالْعَادَةِ أَصْلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدُ . وَقِيلَ : إنَّ يَعْقُوبَ قَدْ كَانَ فَهِمَ مِنْ إخْوَةِ يُوسُفَ حَسَدًا لَهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ شَغَفِ أَبِيهِ بِهِ ؛ فَلِذَلِكَ حَذَّرَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ لِابْنِهِ عَنْ ذِكْرِهَا ، وَخَوْفَهُ عَلَى إخْوَتِهِ مِنْ الْكَيْدِ لَهُ مِنْ أَجْلِهَا عُلِمَ بِأَنَّهَا تَقْتَضِي ظُهُورَهُ عَلَيْهِمْ وَتَقَدُّمَهُ فِيهِمْ ، وَلَمْ يُبَالِ بِذَلِكَ يَعْقُوبُ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَوَدُّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ خَيْرًا مِنْهُ ، وَالْأَخَ لَا يَوَدُّ ذَلِكَ لِأَخِيهِ .