الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى } تَمَدُّحٌ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ ، وَالْإِحَاطَةِ بِالْبَاطِنِ الَّذِي يَخْفَى عَلَى الْخَلْقِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ . وَأَهْلُ الطِّبِّ يَقُولُونَ : إذَا ظَهَرَ النَّفْخُ فِي ثَدْيِ الْحَامِلِ الْأَيْمَنِ فَالْحَمْلُ ذَكَرٌ ، وَإِنْ ظَهَرَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَالْحَمْلُ أُنْثَى ، وَإِذَا كَانَ الثِّقَلُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ فَالْحَمْلُ ذَكَرٌ ، وَإِنْ وَجَدَتْ الثِّقَلَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَالْوَلَدُ أُنْثَى ؛ فَإِنْ قَطَعُوا بِذَلِكَ فَهُوَ كُفْرٌ ، وَإِنْ قَالُوا : إنَّهَا تَجْرِبَةٌ وَجَدْنَاهَا تُرِكُوا وَمَا هُمْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي التَّمَدُّحِ ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ يَجُوزُ انْكِسَارُهَا وَالْعِلْمُ لَا يَجُوزُ تَبَدُّلُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ }
وَقَدْ تَبَايَنَ النَّاسُ فِيهَا فِرَقًا ، أَظْهَرُهَا تِسْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ من تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَمَا تَزِيدُ عَلَيْهَا ، كَقَوْلِهِ : { مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّانِي : مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ : مَا تُسْقِطُ ، وَمَا تَزْدَادُ ، يَعْنِي عَلَيْهِ إلَى التِّسْعَةِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ . الثَّالِثُ : إذَا حَاضَتْ الْحَامِلُ نَقَصَ الْوَلَدُ فَذَلِكَ غَيْضُهُ ، وَإِذَا لَمْ تَحِضْ ثَمَّ فَتِلْكَ عَلَى النُّقْصَانِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
الرَّابِعُ : مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فَتِلْكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَمَا تَزْدَادُ فَتِلْكَ لِعَامَيْنِ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ . الْخَامِسُ : مَا تَزْدَادُ لِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ ؛ قَالَهُ اللَّيْثُ .
السَّادِسُ : مَا تَزْدَادُ إلَى أَرْبَعِ سِنِينَ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
السَّابِعُ : قَالَ مَالِكٌ فِي مَشْهُورِ قَوْلِهِ : إلَى خَمْسِ سِنِينَ .
الثَّامِنُ : إلَى سِتِّ سِنِينَ ، وَسَبْعِ سِنِينَ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
التَّاسِعُ : لَا حَدَّ لَهُ ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ ، وَأَكْثَرَ مِنْهَا ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : نَقَلَ بَعْضُ الْمُتَسَاهِلِينَ من الْمَالِكِيِّينَ أَنَّ أكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ ، وَهَذَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ قَطُّ إلَّا هَالِكِيٌّ : وَهُمْ الطَّبَائِعِيُّونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُدَبِّرَ الْحَمْلِ فِي الرَّحِمِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ تَأْخُذُهُ شَهْرًا شَهْرًا ، وَيَكُونُ الشَّهْرُ الرَّابِعُ مِنْهَا لِلشَّمْسِ ، وَلِذَلِكَ يَتَحَرَّكُ وَيَضْطَرِبُ ، وَإِذَا كَمُلَ التَّدَاوُلُ فِي السَّبْعَةِ الْأَشْهُرِ بَيْنَ السَّبْعَةِ الْكَوَاكِبِ عَادَ فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ إلَى زُحَلَ فَيُبْقِلُهُ بِبَرْدِهِ . فَيَا لَيْتَنِي تَمَكَّنْت من مُنَاظَرَتِهِمْ أَوْ مُقَاتَلَتِهِمْ . مَا بَالُ الْمَرْجِعِ بَعْدَ تَمَامِ الدَّوْرِ يَكُونُ إلَى زُحَلَ دُونَ غَيْرِهِ ؟ اللَّهُ أَخْبَرَكُمْ بِهَذَا أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ؟ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَعُودَ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ التَّدْبِيرِ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ ، أَوْ يَعُودَ إلَى جَمِيعِهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ؟ مَا هَذَا التَّحَكُّمُ بِالظُّنُونِ الْبَاطِلَةِ عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ ؟ فَمَنْ نَصِيرِي من هَذَا الِاعْتِقَادِ ، وَعَذِيرِي من الْمِسْكَيْنِ الَّذِي تَصَوَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَيَا لِلَّهِ وَيَا لِضَيَاعِ الْعِلْمِ بَيْنَ الْعَالَمِ فِي هَذِهِ الْأَقْطَارِ الْغَارِبَةِ مَطْلَعًا ، الْعَازِبَةِ مَقْطَعًا !
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ تَمَاسُكَ الْحَيْضِ عَلَامَةٌ عَلَى شَغْلِ الرَّحِمِ ، وَاسْتِرْسَالَهُ عَلَامَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ؛ فَمُحَالٌ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الشَّغْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْبَرَاءَةِ لَوْ اجْتَمَعَا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ : وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فِي الدَّمِ وَالْحَيْضِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَمْلِ ، وَمَا تَزْدَادُ بَعْدَ غَيْضِهَا من ذَلِكَ ، حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الرَّحِمِ .
فَالْجَوَابُ عَنْهُ من وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الدَّمَ عَلَامَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ من حَيْثُ الظَّاهِرِ لَا من حَيْثُ الْقَطْعِ ؛ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا ، بِخِلَافِ وَضْعِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ بَرَاءَةٌ لِلرَّحِمِ قَطْعًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الشَّغْلِ . الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ فِي تَفْسِيرِ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَمْلِ وَمَا تَزْدَادُ بَعْدَ غَيْضِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الرَّحِمِ . فَإِنَّا نَقُولُ : إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ غَيْضٍ وَازْدِيَادٍ وَسَيَلَانٍ وَتَوَقُّفٍ ، وَإِذَا سَالَ الدَّمُ عَلَى عَادَتِهِ بِصِفَتِهِ مَا الَّذِي يَمْنَعُ من حُكْمِهِ ؟ وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ هَذَا .