الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً من النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ من الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِهَا :
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ من طُرُقٍ : أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَجَرَّتْ الذَّيْلَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَّتْ هَاجَرُ من سَارَةَ أَرْخَتْ ذَيْلَهَا لِتُعَفِّي أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمئِذٍ أَحَدٌ ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ ، فَوَضَعَهَا هُنَالِكَ ، وَوَضَعَ عِنْدَهَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ، ثُمَّ قَفَلَ إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا ، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ : يَا إبْرَاهِيمُ ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ وَلَا شَيْءٌ ؟ قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا ، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا ، فَقَالَتْ لَهُ : آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَتْ : إذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ . ثُمَّ رَجَعَتْ .
فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتِ ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } حَتَّى بَلَغَ : { يَشْكُرُونَ } وَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ من ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا ، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى ، أَوْ قَالَ : يَتَلَبَّطُ ؛ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ ، فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا ، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا ، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا ، فَهَبَطَتْ من الصَّفَا ، حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ ، رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ ، ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةُ ، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا ، فَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ( قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ : صَهٍ ، تُرِيدُ نَفْسَهَا ، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا . فَقَالَتْ : قَدْ أَسْمَعْتَ ، إنْ كَانَ عِنْدَك غُوَاثٌ ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تَخُوضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا : هَكَذَا ، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بِقَدْرِ مَا تَغْرِفُ ) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ ، لَوْ تَرَكَتْ مَاءَ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ : لَوْ لَمْ تَغْرِفْ من الْمَاءِ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا ) .
قَالَ : فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا ، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ : لَا تَخَافِي الضَّيْعَةَ ؛ فَإِنْ هَاهُنَا بَيْتُ اللَّهِ يَبْنِيه هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ .
وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا من الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ، وَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ من جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ من طَرِيقِ كَدَاءٍ ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلَ مَكَّةَ ، فَرَأَوْا طَائِرَ عَائِفًا ، فَقَالُوا : إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ ، فَأَقْبَلُوا . قَالَ : وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ ، فَقَالُوا : أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ . قَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَأَلِفَتْ ذَلِكَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ، وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلَيْهِمْ ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ ، حَتَّى إذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ ، وَشَبَّ الْغُلَامُ ، وَتَعْلَمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ أَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً فِيهِمْ ) .
وَمَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ ، فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا ، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ : نَحْنُ بَشَرٌ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ ، وَشَكَتْ إلَيْهِ . فَقَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجُك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ ، وَقَوْلِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ . فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ : هَلْ جَاءَكُمْ من أَحَدٍ ؟ قَالَتْ : جَاءَنَا شَيْخٌ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا ، فَسَأَلْنَا عَنْك ، فَأَخْبَرْته ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ . قَالَ : فَهَلْ أَوْصَاك بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك السَّلَامَ ، وَيَقُولُ لَك : غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِك . قَالَ : ذَاكَ أَبِي ، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَك . الْحَقِي بِأَهْلِك . فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى ، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ ، فَقَالَتْ : خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا . قَالَ : كَيْفَ أَنْتُمْ ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ ، فَقَالَتْ : نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ ، فَقَالَ : مَا طَعَامُكُمْ قَالَتْ : اللَّحْمُ . قَالَ : فَمَا شَرَابُكُمْ ؟ قَالَتْ : الْمَاءُ . قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ ) . قَالَ : فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ . قَالَ : فَإِذَا جَاءَ زَوْجُك فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ . فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قَالَ : هَلْ أَتَاكُمْ من أَحَدٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ؛ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ ، فَسَأَلَنِي عَنْك فَأَخْبَرْته ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا ؟ فَأَخْبَرْته أَنَّا بِخَيْرٍ . قَالَ : فَأَوْصَاك بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ؛ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ ، وَيَأْمُرُك أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِك . قَالَ : ذَلِكَ أَبِي ، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَك . ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا من زَمْزَمَ . فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ وَالْوَالِدُ بِالْوَلَدِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا إسْمَاعِيلُ ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ . قَالَ : فَاصْنَعْ مَا أَمَرَك رَبُّك . قَالَ : وَتُعِينُنِي . قَالَ : وَأُعِينُك . قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا . قَالَ : فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ من الْبَيْتِ ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي ، حَتَّى إذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَبْنِي ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ ؛ وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّك أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . قَالَ : فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى تَدَوَّرَ حَوْلَ الْبَيْتِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْت من ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ فِي طَرْحِ عِيَالِهِ وَوَلَدِهِ بِأَرْضٍ مَضْيَعَةٍ اتِّكَالًا عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، وَاقْتِدَاءً بِفِعْلِ إبْرَاهِيمَ ، كَمَا تَقُولُ الْغُلَاةُ من الصُّوفِيَّةِ فِي حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ ؛ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ ؛ لِقَوْلِهَا لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَمَّا كَانَ بِأَمْرٍ مِنْهُ أَرَادَ تَأْسِيسَ الْحَالِ وَتَمْهِيدَ الْمَقَامِ ، وَخَطَّ الْمَوْضِعَ لِلْبَيْتِ الْمُحَرَّمِ وَالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ ، أَرْسَلَ الْمَلَكَ فَبَحَثَ بِالْمَاءِ ، وَأَقَامَهُ مَقَامَ الْغِذَاءِ ، وَلَمْ يَبْقَ من تِلْكَ الْحَالِ إلَّا هَذَا الْمِقْدَارُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ) .
وَقَدْ اجْتَزَأَ بِهِ أَبُو ذَرٍّ لَيَالِيَ أَقَامَ بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ لِقَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ قَالَ : حَتَّى سَمِنْت وَتَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي ، وَكَانَ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السُّؤَالِ وَلَا يُمْكِنُهُ الظُّهُورُ وَلَا التَّكَشُّفُ ، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ عَنْ الْغِذَاءِ ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِيهِ إلَى يَوْمِهِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَسَلِمَتْ طَوِيَّتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُكَذِّبًا وَلَا شَرِبَهُ مُجَرِّبًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَوَكِّلِينَ ، وَهُوَ يَفْضَحُ الْمُجَرِّبِينَ .
وَلَقَدْ كُنْت بِمَكَّةَ مُقِيمًا فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، وَكُنْت أَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ كَثِيرًا ، وَكُلَّمَا شَرِبْته نَوَيْت بِهِ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ لِي بَرَكَتَهُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَسَّرَهُ لِي من الْعِلْمِ ، وَنَسِيت أَنْ أَشْرَبَهُ لِلْعَمَلِ ؛ وَيَا لَيْتَنِي شَرِبْته لَهُمَا ، حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهِمَا ، وَلَمْ يُقَدَّرْ ؛ فَكَانَ صَغْوِي إلَى الْعِلْمِ أَكْثَرَ مِنْهُ إلَى الْعَمَلِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْحِفْظَ وَالتَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } :
خَصَّهَا من جُمْلَةِ الدِّينِ لِفَضْلِهَا فِيهِ وَمَكَانِهَا مِنْهُ ، وَهِيَ عَهْدُ اللَّهِ عِنْدَ الْعِبَادِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ ) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { عِنْدَ بَيْتِك الْمُحَرَّمِ }
قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ ، وَفَائِدَةُ حُرْمَتِهَا ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ من حِكْمَةٍ ، وَتَحْرِيمُهَا كَانَ بِالْعِلْمِ ، وَكَانَ بِقَوْلِهِ مُخْبِرًا عَنْهُ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ قَدِيمٌ لَا أَوَّلَ لَهُ ، وَحَرَّمَهَا بِالْكِتَابِ حِينَ خَلَقَ الْقَلَمَ ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ الثَّالِثُ ، وَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا كَتَبَ أَنَّ مَكَّةَ بَيْتٌ مُحَرَّمُ مُكَرَّمٌ مُعَظَّمٌ ؛ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لَيْسَ عَلَيْهِ جِدَارٌ مُحِيطٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ وَسَّعَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ ، وَاشْتَرَى دُورًا فَهَدَمَهَا فِيهِ ، وَهَدَمَ عَلَى النَّاسِ مَا قَرُبَ من الْمَسْجِدِ ، حَتَّى أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا ، وَوَضَعَ الْأَثْمَانَ حَتَّى أَخَذُوهَا بَعْدُ ، ثُمَّ أَحَاطَ عَلَيْهِ بِجِدَارٍ قَصِيرٍ دُونَ الْقَامَةِ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا وَلِيَ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَاشْتَرَى من قَوْمٍ ، وَأَبَى آخَرُونَ أَنْ يَبِيعُوا ، فَهَدَمَ عَلَيْهِمْ ، فَصَيَّحُوا فَأَمَرَ بِهِمْ إلَى الْحَبْسِ حَتَّى كَلَّمَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدَ ، وَوُجِدَ فِي الْمَقَامِ كِتَابٌ ، فَجَعَلُوا يُخْرِجُونَهُ لِكُلِّ مَنْ أَتَاهُمْ من أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَعْلَمُونَهُ ، حَتَّى أَتَاهُمْ حَبْرٌ من الْيَمَنِ ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا فِيهِ : «أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ صُغْتُهَا يَوْمَ صُغْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، وَبَارَكْت لِأَهْلِهَا فِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحِلُّهَا أَهْلُهَا » ، وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا خَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ ، وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ .