الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ قَوْمٌ : الْمَعْنَى : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَاهُ : شَيْءٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ، وَدَلَّ عَلَى حَذْفِه ، ِ قَوْلُهُ : { مِنْهُ } ، فَلِذَلِكَ سَاغَ حَذْفُهُ ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { سَكَرًا } :
فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَغَيْرُهُمَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ خُمُورُ الْأَعَاجِمِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْخَلُّ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الطَّعْمُ الَّذِي يُعْرَفُ من ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ ، مَأْخُوذٌ من سَكَرْتُ النَّهْرَ ، إذَا سَدَدْته .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الرِّزْقُ الْحَسَنُ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ النَّبِيذُ وَالْخَلُّ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْأَوَّلُ ، يَقُولُ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ، فَجَعَلَ لَهُ اسْمَيْنِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَمَّا هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ ، فَأَسَدُّهَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ السَّكَرَ : الْخَمْرُ ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ : مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ بَعْدَهَا ، من هَذِهِ الثَّمَرَاتِ . وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ، تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُم ، اعْتِدَاءً مِنْكُمْ ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ اتِّفَاقًا ، أَوْ قَصْدًا إلَى مَنْفَعَةِ أَنْفُسِكُمْ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ من الْعُلَمَاءِ ، وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ مَدَنِيٌّ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ : { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } ، مَا يُسْكِرُ من الْأَنْبِذَةِ . وَخَلًّا ، وَهُوَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا : أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ من ذَلِكَ ، وَلَا يَقَعُ الِامْتِنَانُ إلَّا بِمُحَلَّلٍ لَا بِمُحَرَّمٍ ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ مَا دُونَ الْمُسْكِرِ من النَّبِيذِ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى السُّكْرِ لَمْ يَجُزْ ؛ قَالَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَعَضَّدُوا رَأْيَهُمْ هَذَا من السُّنَّةِ ، بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا ، وَالسُّكْرَ من غَيْرِهَا ) . وَبِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فَيَشْرَبُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ ، سَقَاهُ الْخَدَمَ إذَا تَغَيَّرَ ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ إيَّاهُمْ . فَالْجَوَابُ ، أَنَّا نَقُولُ : قَدْ عَارَضَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ بِمِثْلِهَا ، فَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : ( مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ ) ، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَوَّدَهُ ، وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ ، عَنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ : ( كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، مَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ ) . وَرُوِيَ : ( فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ ) .
وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِاتِّفَاقٍ من الْأَئِمَّةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّ من الْحِنْطَةِ خَمْرًا ، وَإِنَّ من الشَّعِيرِ خَمْرًا ، وَإِنَّ من التَّمْرِ خَمْرًا ، وَإِنْ من الزَّبِيبِ خَمْرًا ، وَإِنَّ من الْعَسَلِ خَمْرًا ) . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَفِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَهُو : شَرْعٌ مُتَّبَعٌ ، وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللُّغَةِ ، فَهُوَ : حُجَّةٌ فِيهَا ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ نَطَقَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا بَيْنَ أَظْهُرِ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يَقُمْ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ .
جَوَابٌ آخَرُ : أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ امْتَنَّ ، وَلَا يَكُونُ امْتِنَانُهُ وَتَعْدِيدُهُ إلَّا بِمَا أَحَلَّ ، فَصَحِيحٌ ؛ بَيْدَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدُ .
فَإِنْ قَيلُ : كَيْفَ يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ هَاهُنَا ، وَيَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ ، وَهُوَ خَبَرٌ ، وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ ؟ .
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرِيعَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَتَهُ قَبْلُ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْخَبَرَ إذَا كَانَ عَنْ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ ، أَوْ كَانَ عَنْ الْفَضْلِ الْمُعْطَى ثَوَابًا ، فَهُوَ أَيْضًا لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ ؛ فَأَمَّا إنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ ، فَالْأَحْكَامُ تَتَبَدَّلُ وَتُنْسَخُ ، جَاءَتْ بِخَبَرٍ أَوْ بِأَمْرٍ ، وَلَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى تَكْذِيبٍ فِي الْخَبَرِ أَوْ الشَّرْعِ ، الَّذِي كَانَ مُخْبَرًا عَنْهُ قَدْ زَالَ بِغَيْرِهِ .
وَإِذَا فَهِمْتُمْ هَذَا ، خَرَجْتُمْ عَنْ الصِّنْفِ الْغَبِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِيه ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ، يَعْنِي : أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ الرَّبَّ ، يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ ، وَيُكَلِّفُ مَا يَشَاءُ ، وَيَرْفَعُ من ذَلِكَ بِعَدْلِهِ مَا يَشَاءُ ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَأَمَّا مَا عَضَّدُوهُ بِهِ من الْأَحَادِيثِ ، فَالْأَوَّلُ : ضَعِيفٌ ، وَالثَّانِي : فِي سَقْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ لِلْخَدَمِ ، صَحِيحٌ ، لَكِنَّهُ مَا كَانَ يَسْقِيهِ لِلْخَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَهَ الْخَلْقِ فِي خَبِيثِ الرَّائِحَةِ ، وَلِذَلِكَ تَحَيَّلَ عَلَيْهِ أَزْوَاجُهُ فِي عَسَلِ زَيْنَبَ ، فَإِنَّهُنَّ قُلْنَ لَهُ : إنَّا نَجِدُ مِنْك رِيحَ مَغَافِيرَ ، يَعْنِي : رِيحًا نُنْكِرُهُ . وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ ، أَثَرًا وَنَظَرًا ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } :
وَإِذَا قِيلَ : إنَّ ثَمَرَاتِ الْحُبُوبِ وَغَيْرِهَا ، تُتَّخَذُ مِنْهُ رِزْقٌ حَسَنٌ وَسَكَرٌ .
قُلْنَا : هَذِهِ الْحُبُوبُ وَسَائِرُ الثَّمَرَاتِ ، وَإِنْ وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِهَا ، وَكَانَتْ لَهَا وُجُوهٌ يُنْتَفَعُ مِنْهَا ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْخَلَّ ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنْفَعَةٍ فِي الْعَالَمِ ، فَإِنَّهُ دَوَاءٌ وَغِذَاءٌ ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ مَحَلَّ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ شَيْءٌ ، خُصَّا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا .