الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { هُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { هُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } أَمْرٌ بِتَكَلُّفِ الْكَسْبِ فِي الرِّزْقِ ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا من غَيْرِ تَكَسُّبٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ من عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا لِلَّهِ ، فَفَرَّغَ اللَّهُ جَارِحَتَهَا عَنْ النَّصَبِ ، فَلَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِحُبِّهِ ، وَكَّلَهَا اللَّهُ إلَى كَسْبِهَا ، وَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ *** إلَيْك فَهُزِّي الْجِذْعَ يَسَّاقَطْ الرُّطَبْ
وَلَوْ شَاءَ أَحْنَى الْجِذْعَ من غَيْرِ هَزِّهَا *** إلَيْهَا ، وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ
وَقَدْ كَانَ حُبُّ اللَّهِ أَوْلَى بِرِزْقِهَا *** كَمَا كَانَ حُبُّ الْخَلْقِ أَدْعَى إلَى النَّصَبْ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي صِفَةِ الْجِذْعِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ لِنَخْلَةٍ خَضْرَاءَ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ زَمَانَ الشِّتَاءِ ، فَصَارَ وُجُودُ التَّمْرِ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ آيَةً .
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا فَهَزَّتْهُ ، فَاخْضَرَّ وَأَوْرَقَ وَأَثْمَرَ فِي لَحْظَةٍ .
وَدَخَلْتُ بَيْتَ لَحْمٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، فَرَأَيْت فِي مُتَعَبَّدِهِمْ غَارًا عَلَيْهِ جِذْعٌ يَابِسٌ كَانَ رُهْبَانُهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ جِذْعُ مَرْيَمَ بِإِجْمَاعٍ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ دَخَلَتْ بَيْتَ لَحْمٍ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَيْهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَرَأَيْت الْغَارَ فِي الْمُتَعَبَّدِ خَالِيًا من الْجِذْعِ . فَسَأَلَتْ الرُّهْبَانَ بِهِ ، فَقَالُوا : نَخَرَ وَتَسَاقَطَ ، مَعَ أَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا يَقْطَعُونَهُ اسْتِشْفَاءً حَتَّى فُقِدَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ : رُطَبًا جَنِيًّا .
الْجَنِيُّ : مَا طَابَ من غَيْرِ نَقْشٍ وَلَا إفْسَادٍ ، وَالنَّقْشُ أَنْ يُنْقَشَ فِي أَسْفَلِ الْبُسْرَةِ حَتَّى تُرَطَّبَ ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ يَعْنِي مَالِكٌ أَنَّ هَذَا تَعْجِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ وقَّتِهِ ، وَإِفْسَادٌ لِجَنَاهُ ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ ، وَلَوْ فَعَلَهُ فَاعِلٌ مَا كَانَ ذَلِكَ مُجَوِّزًا لِبَيْعِهِ ، وَلَا حُكْمًا بِطِيبِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ من ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .