الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ من وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي من لَدُنْك وَلِيًّا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةَ مَعَانٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ من جُمْلَتِهَا الْوَارِثُ ، وَابْنُ الْعَمِّ . وَلَمْ يَخَفْ زَكَرِيَّا إرْثَ الْمَالِ ، وَلَا رَجَاهُ من الْوَلَدِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إرْثَ النُّبُوَّةِ ، وَعَلَيْهَا خَافَ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ عَقِبِهِ ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ ) . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ : ( إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا ) . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَجَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فِي الْوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ دَعَاهُ لِإِظْهَارِ دِينِهِ ، وَإِحْيَاءِ نُبُوَّتِهِ ، وَمُضَاعَفَةِ أَجْرِهِ ، فِي وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ بَعْدَهُ ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ لِلدُّنْيَا .
الثَّانِي : لِأَنَّ رَبَّهُ كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ الْإِجَابَةَ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } . وَهَذِهِ وَسِيلَةٌ حَسَنَةٌ أَنْ يَتَشَفَّعَ إلَيْهِ بِنِعَمِهِ ، وَيَسْتَدِرَّ فَضْلَهُ بِفَضْلِهِ . يُرْوَى أَنَّ حَاتِمَ الْجَوَادَ لَقِيَهُ رَجُلٌ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا الَّذِي أَحْسَنْت إلَيْهِ عَامَ أَوَّلٍ . قَالَ : مَرْحَبًا بِمَنْ تَشَفَّعَ إلَيْنَا بِنَا .