الْآيَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } . فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يَشْهَدُونَ الزُّورَ }
فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : الشِّرْكُ .
الثَّانِي : الْكَذِبُ .
الثَّالِثُ : أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
الرَّابِعُ : الْغِنَاءُ .
الْخَامِسُ : لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى بِالزُّورِ ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي يُشْتَمُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجْلِسٌ يُشْتَمُ فِيهِ النَّبِيُّ فَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الشِّرْكُ ؛ لِأَنَّ شَتْمَ النَّبِيِّ شِرْكٌ ، وَالْجُلُوسُ مَعَ مَنْ يَشْتُمُهُ من غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا قَتْلٍ لَهُ شِرْكٌ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْكَذِبُ فَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إلَى الْكَذِبِ يَرْجِعُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ فِصْحَ النَّصَارَى وَسَبْتَ الْيَهُودِ يُذْكَرُ فِيهِ الْكُفْرُ ؛ فَمُشَاهَدَتُهُ كُفْرٌ ، إلَّا لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ من الْمَعَانِي الدِّينِيَّةِ ، أَوْ عَلَى جَهْلٍ من الْمُشَاهِدِ لَهُ . وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْغِنَاءُ فَلَيْسَ يَنْتَهِي إلَى هَذَا الْحَدِّ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَقُلْنَا : إنَّ مِنْهُ مُبَاحًا وَمِنْهُ مَحْظُورًا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ قِمَارٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى الْكُفْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا }
قَدْ بَيَّنَّا اللَّغْوَ ، وَأَنَّهُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ من قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَضَرَّةٌ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَقَدْ تَأَكَّدَ أَمْرُهُ فِي التَّحْرِيمِ ؛ وَذَلِكَ بِحَسْبِ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فِي اعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ . وَيَتَرَكَّبُ اللَّغْوُ عَلَى الزُّورِ ؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنَى زَائِدٌ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِلَا كَلَامٍ .
ثُمَّ قَالَ : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ } يَعْنِي الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَكَرَّمُوا عَنْهُ ، حَتَّى قَالَ قَوْمٌ من أَهْلِ التَّفْسِيرِ : إنَّهُ ذِكْرُ الرَّفَثِ ، وَيَكُونُ لَغْوًا مُجَرَّدًا إذَا كَانَ فِي الْحَلَالِ ، وَيَكُونُ زُورًا مُحَرَّمًا إذَا كَانَ فِي الْحَرَامِ ، وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدٌ إلَى ذِكْرِ الْفَرْجِ أَوْ النِّكَاحِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ جَازَ ذَلِكَ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا : ( نِكْتَهَا ) ؟ لَا تَكْنِي ، لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ .