الْآيَةُ الثَّامِنَةُ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } .
قَدْ بَيَّنَّا - بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ وَبَلَّغَكُمْ فِي الْعِلْمِ أَمَلَكُمْ - أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ ، وَأَنَّ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مَوْرِدًا لِلتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَلَا مَصْدَرًا ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ ، لَكِنَّ الْأَعْيَانَ لَمَّا كَانَتْ مَوْرِدًا لِلْأَفْعَالِ أُضِيفَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْحُكْمُ إلَيْهَا وَعُلِّقَ بِهَا مَجَازًا بَدِيعًا عَلَى مَعْنَى الْكِنَايَةِ بِالْمَحلِّ عَنْ الْفِعْلِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ مِنْ بَابِ قِسْمِ التَّسْبِيبِ فِي الْمَجَازِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ النَّسَبِ سَبْعًا وَمِنْ الصِّهْرِ سَبْعًا ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ وَهُوَ أَصْلُ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَوَرَدَتْ مِنْ جِهَةِ مُبَيِّنَةٍ لِجَمِيعِهَا بِأَخْصَرِ لَفْظٍ وَأَدَلِّ مَعْنًى فَهِمَتْهُ الصَّحَابَةُ وَخَبَرَتْهُ الْعُلَمَاءُ .
وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بِالْبَيَانِ فَنَقُولُ : الْأُمُّ : عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ ، وَيَرْتَفِعُ نَسَبُكَ إلَيْهَا بِالْبُنُوَّةِ ، كَانَتْ مِنْكَ عَلَى عَمُودِ الْأَبِ أَوْ عَلَى عَمُودِ الْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَوْقَكَ .
وَالْبِنْتُ : عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لَك عَلَيْهَا وِلَادَةٌ تَنْتَسِبُ إلَيْكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ إذَا كَانَ مَرْجِعُهَا إلَيْكَ .
وَالْأُخْتُ : عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ شَارَكَتْكَ فِي أَصْلَيْك : أَبِيكَ وَأُمِّكَ ، وَلَا تَحْرُمُ أُخْتُ الْأُخْتِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَكَ أُخْتًا ؛ فَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ ثُمَّ يُقَدَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ .
سَحْنُونٌ : هُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ مِنْ غَيْرِهَا بِنْتَهَا مِنْ غَيْرِهِ .
وَتَفْسِيرُهَا أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ زَيْدٌ زَوْجَتَانِ عَمْرَةُ وَخَالِدَةُ ، وَلَهُ مِنْ عَمْرَةَ وَلَدٌ اسْمُهُ عَمْرٌو ، وَمِنْ خَالِدَةَ بِنْتٌ اسْمُهَا سَعَادَةٌ ، وَلِخَالِدَةَ زَوْجٌ اسْمُهُ عَمْرٌو ، وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ اسْمُهَا حَسْنَاءُ ، فَزَوَّجَ زَيْدٌ وَلَدَهُ عَمْرًا مِنْ حَسْنَاءَ ، وَهِيَ أُخْتُ أُخْتِ عَمْرٍو ، وَهَذِهِ صُورَتُهَا لِتَكُونَ أَثبتَ فِي النُّفُوسِ .
الْعَمَّةُ : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ شَارَكَتْ أَبَاكَ مَا عَلَا فِي أَصْلَيْهِ .
الْخَالَةُ : هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ شَارَكَتْ أُمَّكَ مَا عَلَتْ فِي أَصْلَيْهَا ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ تَعَلُّقِ الْأُمُومَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْ تَفْصِيلِهِ تَحْرِيمُ عَمَّةِ الْأَبِ وَخَالَتِهِ ؛ لِأَنَّ عَمَّةَ الْأَبِ أُخْتُ الْجَدِّ ، وَالْجَدُّ أَبٌ ، وَأُخْتُهُ عَمَّةٌ ، وَخَالَةُ الْأَبِ أُخْتُ جَدَّتِهِ لِأُمِّهِ ، وَالْجَدَّةُ أُمٌّ ، فَأُخْتُهَا خَالَةٌ ، وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْأُمِّ أُخْتُ جَدِّهَا لِأَبِيهَا ، وَجَدُّهَا أَبٌ وَأُخْتُهُ عَمَّةٌ ، وَخَالَةُ أُمِّهَا جَدَّتُهُ . وَالْجَدَّةُ أُمٌّ وَأُخْتُهَا خَالَةٌ ؛ وَتَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ عَمَّةُ الْعَمَّةِ ؛ لِأَنَّهَا عَمَّةُ الْأَبِ كَذَلِكَ ، وَخَالَةُ الْعَمَّةِ خَالَةُ الْأُمِّ كَذَلِكَ ، وَخَالَةُ الْخَالَةِ خَالَةُ الْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْخَالَةِ عَمَّةُ الْأُمِّ ؛ فَتَضَمَّنَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى : { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ } بِالِاعْتِلَاءِ فِي الِاحْتِرَامِ ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْهُ آيَةُ الْفَرَائِضِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمَوَارِيثِ ؛ لِسَعَةِ الْحَجْرِ فِي التَّحْرِيمِ وَضِيقِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَمْوَالِ . فَعِرْقُ التَّحْرِيمِ يَسْرِي حَيْثُ اطَّرَدَ ، وَسَبَبُ الْمِيرَاثِ يَقِفُ أَيْنَ وَرَدَ ، وَلَا تَحْرُمُ أُمُّ الْعَمَّةِ وَلَا أُخْتُ الْخَالَةِ ؛ وَصُورَةُ ذَلِكَ كَمَا قَرَرْنَا لَكَ فِي الْأُخْتِ .
بِنْتُ الْأَخِ ، وَبِنْتُ الْأُخْتِ : عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ امْرَأَةٍ لِأَخِيكَ أَوْ لِأُخْتِكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ ، وَتَرْجِعُ إلَيْهَا بِنِسْبَةٍ ؛ فَهَذِهِ الْأَصْنَافُ النِّسْبِيَّةُ السَّبْعَةُ .
وَأَمَّا الْأَصْنَافُ الصِّهْرِيَّةُ السَّبْعَةُ : { أُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ بِالْقُرْآنِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ الْمُحَرَّمِ بِالرَّضَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا . وَالْأُمُّ أَصْلٌ وَالْأُخْتُ فَرْعٌ ؛ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ » .
وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : «قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَالَكَ تَنَوُّقُ فِي قُرَيْشٍ وَتَدَعُنَا ؟ قَالَ : وَعِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ ، ابْنَةُ حَمْزَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ » .
وَمِثْلُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَعْنَى حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ : «يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي . قُلْت : فَإِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تَنْكِحُ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ . قَالَ : ابْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي ، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي ، أَرْضَعَتْنِي أَنَا وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتَكُمْ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ » .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَثُوَيْبَةُ هِيَ الَّتِي أَرْضَعَتْ حَمْزَةَ أَيْضًا ، فَرُوِيَ أَنَّ هَذَا الرَّضَاعَ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتَيْنِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ حَمْزَةَ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامَيْنِ ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ وَهِيَ الْمَصَّةُ » .
وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخَتْ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ . فَقَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ .
وَرَأَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَخْذَ بِمُطْلَقِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّقٌ بِهِ ، وَقَدْ قَوِيَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْرِيمِ فِي الْأَبْضَاعِ وَالْحَوْطَةِ عَلَى الْفُرُوجِ ؛ فَقَدْ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ لِمَنْ يَرَى الْعُمُومَ وَمَنْ لَا يَرَاهُ ، وَقَدْ رَامَ بَعْضُ حُذَّاقِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ أَنْ يُبْطِلَ التَّعَلُّقَ بِهَذَا الْعُمُومِ ؛ قَالَ : لِأَنَّهُ سِيقَ لِيَتَبَيَّنَّ بِهِ وَجْهُ التَّحْرِيمِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعْمِيمُ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ إذَا سِيقَ قَصْدًا لِلْعُمُومِ ؛ وَذَلِكَ يُعْلَمُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ .
قَالَ الْقَاضِي : يَا لِلَّهِ وَلِلْمُحَقِّقِينَ مِنْ رَأْسِ التَّحْقِيقِ الْجُوَيْنِيُّ ، يَأْتِي بِهَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ نَاظِرٍ فِي الْفِقْهِ شَادٍّ أَوْ مُنْتَهٍ - أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا فِي الْآيَةِ جَاءَتْ مَجِيئًا وَاحِدًا فِي الْبَيَانِ فِي مَقْصُودٍ وَاحِدٍ ، فَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ : { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } لَمَا حُمِلَ أَيْضًا عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ : { أُمَّهَاتُكُمْ } فَيُرْتَقَى بِهِنَّ إلَى الْجَدَّاتِ ، وَلَا بَنَاتُكُمْ فَيَحُطُّ بِهِنَّ إلَى بَنَاتِ الْبَنَاتِ ، وَقَدْ رَأَى أَنَّهُنَّ لَمْ يَعُمَّهُنَّ فِي الْمِيرَاثِ وَعَمَّهُنَّ هَاهُنَا فِي التَّحْرِيمِ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } كَانَ يَنْبَغِي أَلَّا يُحْمَلَ عَلَى الْعُمُومِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ كَمَا قَالَ سِيَاقُ الْعُمُومِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لَوْ قُلْنَا بِهِ سَبَبًا لِخَرْمِ قَاعِدَةِ الْآيَةِ . وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّمْحِيصِ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا .
أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَدِلَّةِ ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَصْلُهُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ فَرْعُهُ ؟
وَأَمَّا حَدِيثُ الْإِمْلَاجَةِ فَمَعْنَاهُ كَانَ مِنْ الْمَصِّ وَالْجَذْبِ مِمَّا لَمْ يُدَرُّ مَعَهُ لَبَنٌ وَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ . وَيَتَحَقَّقُ وُصُولُ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ ، فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِنَصِّ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ » ، فَإِذَا مَصَّ لَبَنَهَا وَحَصَلَ فِي جَوْفِهِ فَهِيَ مُرْضِعَةٌ ، وَهِيَ أُمُّهُ ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ بِالْآيَةِ بِلَا مِرْيَةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : كَانَ قَوْله تَعَالَى : { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ فِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ وَقْتَهُ بِقَوْلِهِ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلِينَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } ، فَبَيَّنَ زَمَانَهُ الْكَامِلَ ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يُعْتَبَرَ مَا زَادَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ رَأَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ مُحَرِّمٌ ؛ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهَا ، قَالَتْ : «جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا ، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ، وَيَرَانِي فُضُلًا ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِمْ مَا عَلِمْت ، فَكَيْفَ تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيهِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يَحْرُمُ بِلَبَنِهَا » . فَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا مِنْ الرَّضَاعَةِ ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْخُذُ ، وَأَبَاهُ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْنَ : وَاَللَّهِ مَا نَرَى ذَلِكَ إلَّا رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَهْلَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ حُكْمًا عَامًّا وَلَا قَضِيَّةً مُطْلَقَةً لِكُلِّ أَحَدٍ ، لَاسِيَّمَا وَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ ، وَأَمَرَ بِأَدَبِ مَنْ أَرْضَعَ مِنْ النِّسَاءِ كَبِيرًا .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ مِنْ الثَّدْيِ ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ » .
نِظَامُ نَشْرٍ : اعْلَمُوا - وَفَّقَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ الْتَقَمَا ثَدْيًا وَاحِدًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي زَمَانَيْنِ فَهُمَا أَخَوَانِ ، وَالْأُصُولُ مِنْهُمَا وَالْفُرُوعُ بِمَنْزِلَةِ أُصُولِ الْأَنْسَابِ وَفُرُوعِهَا فِي التَّحْرِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي لَبَنِ الْفَحْلِ :
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ وَفِي كُلِّ فَرِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لِأَفْلَحَ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَرْضَعَنِي ، إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ : «يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ فَأَبَيْت أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ ، فَقَالَ : إنَّهُ عَمُّكَ فَلْيَلِجْ عَلَيْكَ » . وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وَأَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ .
وَرَأَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ ؛ وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا صَبِيًّا وَالْأُخْرَى صَبِيَّةً ، فَيَحْرُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَخَوَانِ لِأَبٍ مِنْ لَبَنٍ ؛ فَيَحْرُمَانِ كَمَا يَحْرُمَانِ لَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ مِنْ نَسَبٍ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ » . وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ نَصٌّ ، فَقَدْ تَعَاضَدَا فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } .
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبِنْتِ لَا يُحَرِّمُ الْأُمَّ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا ، كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا .
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّحَابَةُ : إنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ وَلَا تَحْرُمُ الْبِنْتُ حَتَّى يَدْخُلَ بِالْأُمِّ .
وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ : { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فَقِيلَ : يَرْجِعُ إلَى الرَّبَائِبِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ الْكُوفَةِ .
وَقِيلَ : يَرْجِعُ إلَى الرَّبَائِبِ خَاصَّةً ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَجَعَلُوا رُجُوعَ الْوَصْفِ إلَى الْمَوْصُوفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْ الْعَامِلِ مَمْنُوعًا كَالْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ . وَجَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَرَأَوْا أَنَّ عَامِلَ الْإِضَافَةِ غَيْرُ عَامِلِ الْخَفْضِ بِحَرْفِ الْجَرِّ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " وَقَدْ رَدَّ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ الرِّوَايَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ خَاصَّةً ، كَمَا قَدْ اسْتَقَرَّ الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَقْطَارِ أَنَّ الرَّبَائِبَ وَالْأُمَّهَاتِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُخْتَلِفَاتٌ ، وَأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا هُوَ فِي الرَّبَائِبِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ غَوَامِضِ الْعِلْمِ وَأَخْذُهَا مِنْ طَرِيقِ النَّحْوِ يَضْعُفُ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الْعَرَبَ الْقُرَشِيِّينَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بُلْغَتِهِمْ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَقْطَعِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمْ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَخُصُوصًا علي مَعَ مِقْدَارِهِ فِي الْعِلْمَيْنِ ، وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَكَانَ فَصَاحَتُهَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَاوَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ .
وَالْمَأْخَذُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ الْوَصْفُ إلَى الرَّبَائِبِ خَاصَّةً . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهَا جَمِيعًا ؛ فَيُرَدُّ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ عَلَى التَّحْلِيلِ فِي الْفُرُوجِ ، وَهَكَذَا هُوَ مَقْطُوعُ السَّلَفِ فِيهَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ عَلَيْهَا .
الثَّانِي : رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُمِّهَا ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلْيَنْكِحْهَا .
وَهَذَا إنْ صَحَّ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، لَكِنَّ رِوَايَةَ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ تَضْعُفُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ نِسَائِكُمْ } لَفْظَةٌ عَرَبِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُ امْرَأَةٌ . وَقَوْلُكَ : امْرُؤٌ وَامْرَأَةٌ ، كَقَوْلِكَ : آدَمِيٌّ وَآدَمِيَّةٌ ، فَقَوْلُهُ : وَامْرَأَتُكَ كَقَوْلِهِ : وَآدَمِيَّتُكَ ، فَأُضِيفَتْ إلَيْكَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ وَجْهِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ ؛ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الَّتِي تُشْبِهُكَ أَوْ تُجَاوِرُكَ أَوْ تَمْلِكُهَا أَوْ تَمْلِكُكَ ، أَوْ تَحِلُّ لَهَا أَوْ تَحِلُّ لَكَ . وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى الشَّبَهِ وَالْجُوَارِ مُحَالٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَسَّمْت مَا قَسَّمْت لَمْ تَجِدْ وَجْهًا إلَّا بَابَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَلَهُ مَسَاقُ الْآيَةِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ ؛ فَإِذَا حَلَّتْ لَهُ أَوْ مَلَكَهَا فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْإِضَافَةُ الْمَقْصُودَةُ فَوَجَبَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ فِي الرَّبَائِبِ ، لَوْلَا التَّقْيِيدُ بِشَرْطِ الدُّخُولِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَاحْمِلُوا الْأُمَّهَاتِ عَلَى الْبَنَاتِ . قُلْنَا : لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الرُّخَصَ لَفَعَلْنَا ، وَلَكِنْ إذَا تَعَارَضَ الدَّلِيلُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الْفُرُوجِ غَلَّبْنَا التَّحْرِيمَ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ فِي الْأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ لَمَّا تَعَارَضَ فِيهِمَا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِالدُّخُولِ هَاهُنَا النِّكَاحُ ، فَعَلَى هَذَا الرَّبَائِبُ وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ ؛ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ غُلِّبَ عَلَى الرَّبَائِبِ بِاشْتِرَاطِ الْوَطْءِ فِي أُمَّهَاتِهِنَّ لِتَحْرِيمِهِنَّ . الْخَامِسُ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْصُوفِينَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَخَرَجَ مِنْهُ بِوَصْفِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ } ، فَوَصَفَ وَكَرَّرَ ، وَذَلِكَ الْوَصْفُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُمَّهَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } ، فَالْوَصْفُ الَّذِي يَتْلُوهُ يَتْبَعُهُ ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ وَانْقِطَاعِهِ عَنْه .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَرَبَائِبُكُمْ } وَاحِدَتُهَا رَبِيبَةٌ ، فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ ، مِنْ قَوْلِك : رَبَّهَا يَرُبُّهَا ، إذَا تَوَلَّى أَمْرَهَا ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، كَانَتْ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ أَوْ فِي حِجْرِ حَاضِنَتِهَا غَيْرِ أُمِّهَا ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } تَأْكِيدٌ لِلْوَصْفِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحُكْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ حَتَّى تَكُونَ فِي حِجْرِهِ . قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } .
اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الْجِمَاعُ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : هُوَ التَّمَتُّعُ مِنْ اللَّمْسِ أَوْ الْقُبَلِ ؛ قَالَهُ مَالِكٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ النَّظَرُ إلَيْهَا بِشَهْوَةٍ ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهَا أَنَّ الْجِمَاعَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ اللَّمْسُ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ مِثْلُهُ ، يَحِلُّ بِحِلِّهِ ، وَيَحْرُمُ بِحُرْمَتِهِ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُحَرِّمُ . وَقَالَ غَيْرُهُ : لَا يُحَرِّمُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ شُبْهَةٌ فِي الزِّنَا ذَرِيعَةُ الذَّرِيعَةِ ، لَكِنَّ الْأَمْوَالَ تَارَةً يُغَلَّبُ فِيهَا التَّحْلِيلُ وَتَارَةً يُغَلَّبُ فِيهَا التَّحْرِيمُ ، فَأَمَّا الْفُرُوجُ فَقَدْ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ فِيهَا عَلَى تَغْلِيبِ التَّحْرِيمِ ، كَمَا أَنَّ النَّظَرَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ شِرَاءٍ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ إذَا حَلَّ ، أَصْلُهُ اللَّمْسُ وَالْوَطْءُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } .
وَاحِدَتُهَا حَلِيلَةٌ ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعَّلَةٍ ، أَيْ مُحَلَّلَةٍ . حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْآبَاءِ نِكَاحَ أَزْوَاجِ أَبْنَائِهِمْ ، كَمَا حَرَّمَ عَلَى الْأَبْنَاءِ نِكَاحَ أَزْوَاجِ آبَائِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } ؛ فَكُلُّ فَرْجٍ حَلَّ لِلِابْنِ حُرِّمَ عَلَى الْأَبِ أَبَدًا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : الْأَبْنَاءُ ثَلَاثَةٌ : ابْنُ نَسَبٍ ، وَابْنُ رَضَاعٍ ، وَابْنُ تَبَنٍّ .
فَأَمَّا ابْنُ النَّسَبِ فَمَعْلُومٌ ، وَمَعْلُومٌ حُكْمُهُ . وَأَمَّا ابْنُ الرَّضَاعِ فَيَجْرِي مَجْرَى الِابْنِ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ مُعْظَمُهَا التَّحْرِيمُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ » .
وَأَمَّا ابْنُ التَّبَنِّي فَكَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ؛ إذْ تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَتْ : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } ؛ وَهَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { مِنْ أَصْلَابِكُمْ } لِيَسْقُطَ وَلَدُ التَّبَنِّي ، وَيَذْهَبَ اعْتِرَاضُ الْجَاهِلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ زَيْنَبَ زَوْجِ زَيْدٍ ، وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لَهُ ، فَنَهَجَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } .
حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، كَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ الْأُخْتِ ؛ وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ ، فَهُوَ عَامٌّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَقَدْ كَانَ تَوَقَّفَ فِيهَا مَنْ تَوَقَّفَ فِي أَوَّلِ وُقُوعِهَا ، ثُمَّ اطَّرَدَ الْبَيَانُ عِنْدَهُمْ ، وَاسْتَقَرَّ التَّحْرِيمُ ؛ وَهُوَ الْحَقُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } .
تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ ، وَالْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ ، وَقَالَ : إنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ جَمْعًا فِي حِلٍّ فَهُوَ جَمْعٌ فِي حَبْسٍ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْفَرْجِ ، وَهُوَ إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَهَا فَقَدْ حَبَسَ الْمُتَزَوِّجَةَ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ الْحِلُّ وَالْوَطْءُ ، وَقَدْ حَبَسَ أُخْتَهَا بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ لِحِفْظِ النَّسَبِ ، فَحُرِّمَ ذَلِكَ بِالْعُمُومِ ؛ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الطَّوِيلَةِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا هُنَالِكَ .
وَاَلَّذِي نَجْتَزِئُ بِهِ الْآنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يَجْمَعَ ؛ وَهَذَا لَيْسَ بِجَمْعٍ مِنْهُ ، لِأَنَّ النِّكَاحَ اكْتَسَبَهُ ، وَالْعِدَّةُ أَلْزَمَتْهُ ، فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي هَذَا الْجَمْعِ كَسْبٌ يَرْجِعُ النَّهْيُ بِالْخِطَابِ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } .
لَيْسَ هَذَا مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ : { إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } فِي نِكَاحِ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَطُّ بِشَرْعٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ جَاهِلِيَّةُ جُهَلَاءُ وَفَاحِشَةٌ شَائِعَةٌ ؛ وَنِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا فَنَسَخَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِينَا .