الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ النِّكَاحَ أَصْلُهُ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، فَتَجْتَمِعُ الْأَقْوَالُ فِي الِانْعِقَادِ وَالرَّبْطِ كَمَا تَجْتَمِعُ الْأَفْعَالُ فِي الِاتِّصَالِ وَالضَّمِّ ، لَكِنَّ الْعَرَبَ عَلَى عَادَتِهَا خَصَّصَتْ اسْمَ النِّكَاحِ بِبَعْضِ أَحْوَالِ الْجَمْعِ وَبَعْضِ مَحَالِّهِ ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالنِّسَاءِ ، وَاقْتَضَى تَعَاطِيَ اللَّذَّةِ فِيهَا ، وَاسْتِيفَاءَ الْوَطَرِ مِنْهَا ، وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ جَاءَتْ الْآثَارُ وَالْآيَاتُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَا نَكَحَ } .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَلِمَةِ " مَا " هَلْ يُخْبَرُ بِهَا عَمَّا يَعْقِلُ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَةِ " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ شَائِعٌ فِيهَا ، وَفِي الشَّرِيعَةِ .
وَجَهِلَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا الْمِقْدَارَ ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْمَعْنَى وَلَا تَنْكِحُوا نِكَاحَ آبَائِكُمْ يَعْنِي النِّكَاحَ الْفَاسِدَ الْمُخَالِفَ لِدِينِ اللَّهِ ؛ إذْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَحْكَمَ وَجْهَ النِّكَاحِ ، وَفَصَّلَ شُرُوطَهُ .
وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ : وَلَا تَنْكِحُوا نِسَاءَ آبَائِكُمْ ، وَلَا تَكُونُ ( مَا ) هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ؛ لِاتِّصَالِهَا بِالْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي ، وَبِمَعْنَى مَنْ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا تَلَقَّتْ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَمِنْهُ اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا } تَعَقَّبَ النَّهْيَ بِالذَّمِّ الْبَالِغِ الْمُتَتَابِعِ ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ انْتِهَاءٌ مِنْ الْقُبْحِ إلَى الْغَايَةِ ، وَذَلِكَ هُوَ خَلَفُ الْأَبْنَاءِ عَلَى حَلَائِلِ الْآبَاءِ ؛ إذْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَهُ وَيَسْتَهْجِنُونَ فَاعِلَهُ وَيُسَمُّونَهُ الْمَقْتِيَّ ؛ نَسَبُوهُ إلَى الْمَقْتِ .
فَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ وَلَا يَبْلُغُ إلَى هَذَا الْحَدِّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا : ثَلَاثُ آيَاتٍ مُبْهَمَاتٍ : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ } ، و { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } ، { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مُبْهَمَةٌ ، وَإِنَّمَا النَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ ، فَلَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَقَدَ عَلَيْهَا أَبُوهُ أَوْ وَطِئَهَا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مَعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } .
يَعْنِي مِنْ فِعْلِ الْأَعْرَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَتْ الْحَمِيَّةُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ ، فَيَكْرَهُ أَنْ يَعْمُرَ فِرَاشَ أَبِيهِ غَيْرُهُ ، فَيَعْلُو هُوَ عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ ، فَعَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَمَّا مَضَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ، وَصَدَقُوا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ عَفْوٍ سَحَبَ ذَيْلَهُ عَمَّا مَضَى مِنْ عَمَلِهِم الْقَبِيحِ ؛ فَصَارَ تَقْدِيرُهُ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَى قَوْلِهِ : { كَانَ } أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَقْتِ وَالْفُحْشِ ، دَلِيلُهُ الْقَاطِعُ : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } ، وَهُوَ يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ صِفَتِهِ الَّتِي هُوَ كَائِنٌ عَلَيْهَا ، كَذَلِكَ فَسَّرَ هَذَا كُلَّهُ الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ وَهَمَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمُبَرِّدُ فَقَالَا : إنَّ ( كَانَ ) زَائِدَةٌ هُنَا ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي زِيَادَتِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
فَكَيْفَ إذَا مَرَرْت بِدَارِ قَوْمٍ *** وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامٌ
وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ بِاللُّغَةِ وَالشَّعْرِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ زِيَادَةُ كَانَ هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى وَجِيرَانٌ كِرَامٍ كَانُوا لَنَا مُجَاوِرِينَ ، فَأَبَادَهُم الزَّمَانُ وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ مَا كَانَ ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " ، وَذَكَرْنَا مَنْ قَالَهَا قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا ، وَاسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا نَكَحَ الْأَبُ وَالِابْنُ نِكَاحًا فَاسِدًا حَرُمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَن انْعَقَدَ لِصَاحِبِهِ عَقْدٌ فَاسِدٍ عَلَيْهِ مِنْ النِّسَاءِ ، كَمَا يَحْرُمُ بِالصَّحِيحِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ ؛ فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمًا وَلَا تَحْرِيمًا ، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ تَعَلَّقَ بِهِ إلَى الْحُرْمَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّحِيحِ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا ، فَيَدْخُلَ تَحْتَ مُطْلَقِ اللَّفْظِ ؛ وَالْفُرُوجُ إذَا تَعَارَضَ فِيهَا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا لَمَسَهَا الْأَبُ أَو الِابْنُ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِي التَّحْرِيمِ كَالْوَطْءِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِاللَّمْسِ مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مِثْلُهُ ؛ وَتَفْصِيلُ بَيَانِهِ فِي الْمَسَائِلِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّمْسِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالْجِمَاعِ أَوْ الْعَقْدِ ؛ وَلَيْسَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ لُغَةً وَلَا حَقِيقَةً .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ ، وَإِذَا قَبَّلَ أَوْ عَانَقَ فَقَدْ وُجِدَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ حَقِيقَةً ، فَوَجَبَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ ، يَتَصَرَّفُ الْمَعْنَى فِيهِمَا تَحْتَ اللَّفْظِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ أَدِلَّتِهِ وَاحْتِمَالَاتِهِ ، وَانْتِظَامِ الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ مَعَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا نَظَرَ إلَيْهَا بِلَذَّةٍ هُوَ وَأَبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا ؛ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ ، فَجَرَى مَجْرَى النِّكَاحِ فِي التَّحْرِيمِ ؛ إذ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي لَا بِالْأَلْفَاظِ .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مِن الِاجْتِمَاعِ بِالِاسْتِمْتَاعِ ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ اجْتِمَاعٌ وَلِقَاءٌ ، وَفِيهِ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ اسْتِمْتَاعٌ . وَقَدْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ الشُّعَرَاءُ فَقَالُوا :
أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو *** وَإِيَّانَا ، فَذَاكَ بِنَا تَدَانِ
نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ *** وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي
فَكَيْفَ بِالنَّظَرِ وَالْمُجَالَسَةِ وَاللَّذَّةِ ؟ وَهَذَا بَيِّنٌ .