الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } .
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { أَفْضَى } أَفْعَلُ مِنْ الْفَضَاءِ ، وَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ خَالٍ ، فَقَالَ : وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ، وَقَدْ كَانَت الْخَلْوَةُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ ؟ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَلِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٌ : إحْدَاهُنَّ يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ . الثَّانِي : لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالْوَطْءِ . الثَّالِثُ : يَسْتَقِرُّ بِالْخَلْوَةِ فِي بَيْتِ الْإِهْدَاءِ . وَالْأَصَحُّ اسْتِقْرَارُهُ بِالْخَلْوَةِ مُطْلَقًا ، وَيَلِيهِ فِي بَيْتِ الْإِهْدَاءِ .
وَأَمَّا وُقُوفُهُ عَلَى الْوَطْءِ فَضَعِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } .
فِيهِ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا قَوْلُهُ : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } . الثَّانِي : كَلِمَةُ النِّكَاحِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : ( نَكَحَت ) . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوُهُ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ » . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ : لَا يَأْخُذُ الزَّوْجُ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ شَيْئًا لِقَوْلِهِ : { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا . . . } إلَى قَوْلِهِ : { مِيثَاقًا غَلِيظًا } .
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ، فَنَسَخَ ذَلِكَ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ . وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ بَكْرٍ إنْ أَرَادَتْ هِيَ الْعَطَاءَ ، فَقَدْ جَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ مَا سَاقَ إلَيْهَا وَصَدَّقَ إنَّمَا يَكُونُ النَّسْخُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ ، وَبِهِ يَتِمُّ الْبَيَانُ ، وَتَسْتَمِرُّ فِي سُبُلِهَا الْأَحْكَامُ .