الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } .
فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رَوَى أَبُو الْخَلِيلِ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الضُّبَعِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : «أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي قَوْمِهِنَّ ، فَكَرِهَتْهُنَّ رِجَالٌ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِن النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } » . وَقَدْ خَرَّجَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ } .
بِنَاءُ ( ح ص ن ) عَلَى الْمَنْعِ ، وَمِنْهُ الْحِصْنُ ؛ لَكِنْ يَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ ؛ فَالْإِسْلَامُ حِصْنٌ ، وَالْحُرِّيَّةُ حِصْنٌ ، وَالنِّكَاحُ حِصْنٌ ، وَالتَّعَفُّفُ حِصْنٌ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } ؛ وَهُوَ الْإِسْلَامُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، فَهُنَّ الْحَرَائِرُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } هُنَّ الْعَفَائِفُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَحْصَنَتْ ؟ يَعْنِي تَزَوَّجَتْ ؟ قَالَ : نَعَمْ » . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، مَنْ أَحْصنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ » . خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَتَصْرِيفُهُ غَرِيبٌ ؛ يُقَالُ : أَحْصَنَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصَنٌ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ ، وَأَسْهَبَ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ مُسْهَبُ إذَا أَطَالَ الْقَوْلَ فِيهِ ، وَأَلْفَجَ فَهُوَ مُلْفَجٌ إذْ كَانَ عَدِيمًا ، وَلَا رَابِعَ لَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي إشْكَالِهَا :
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَعْلَمُهَا . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ لَضَرَبْت إلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ ، وَذَلِكَ لَا يَدْرِيهِ إلَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ ، وَتَصَدَّى لِضَمِّ مُنْتَشِرِ الْكَلَامِ ، وَتَرْتِيبِ وَضْعِهِ ، وَحِفْظِ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ :
الَّذِي تَحَصَّلَ عِنْدِي فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُمْ . وَقَالَهُ مَالِكٌ وَاخْتَارَهُ .
الثَّانِي : ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمَا .
الثَّالِثُ : مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ الْأَرْبَعِ اللَّوَاتِي حَلَلْنَ لَهُ ؛ قَالَهُ عُبَيْدَةُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ قَالَهُ طَاوُس وَغَيْرُهُ .
الْخَامِسُ : الْمَعْنَى لَا تَنْكِحُ الْمَرْأَةُ زَوْجَيْنِ .
السَّادِسُ : أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ وَابْنُ شِهَابٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالُوا : بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا ؛ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأُبَيُّ ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ .
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : طَلَاقُ الْأَمَةِ سِتَّةٌ : بَيْعُهَا وَعِتْقُهَا وَهِبَتُهَا وَمِيرَاثُهَا وَطَلَاقُ زَوْجِهَا ، زَادَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : وَانْتِزَاعُ سَيِّدِهَا لَهَا مِنْ مِلْكِ زَوْجِهَا عَبْدِه .
الثَّانِي : يَعْنِي بِهِ الْمَرْأَةَ الْحَرْبِيَّةَ إذَا سُبِيَتْ ؛ فَإِنَّ السِّبَاءَ يَفْسَخُ النِّكَاحَ .
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلَّا الْإِمَاءُ وَالْأَزْوَاجُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَاوُسٍ ؛ وَقَالَ : زَوْجُكَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَنْزِيلِ الْأَقْوَالِ وَتَقْدِيرِهَا :
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ ؛ فَذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُسْلِمَاتٌ وَكَافِرَاتٌ ، وَالْمُسْلِمَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ : حَرَائِرُ وَإِمَاءٌ ، فَيَعُمُّهُنَّ التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَيَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلَى بَعْضِهِنَّ وَهُنَّ الْإِمَاءُ ، أَوْ إلَى بَعْضِ الْبَعْضِ وَهُنَّ الْمَسْبِيَّاتُ ؛ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِمَاءِ جُمْلَةً فَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ فِرَاقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمَسْبِيَّاتِ - وَفِيهِ وَرَدَتْ الْآيَةُ - فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ كُلَّ ذَاتِ زَوْجٍ ، إلَّا مَنْ سَبَيْتُمْ . وَعَلَى أَنَّهُنَّ جَمِيعَ الْإِمَاءِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ كُلَّ ذَاتِ زَوْجٍ إلَّا مَا مَلَكْتُمْ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ فَيَكُونُ تَنْزِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُ : حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ مَنْ تَقَدَّمَ تَحْرِيمًا مُدَبَّرًا ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ جَمِيعَ النِّسَاءِ إلَّا بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ شِرَاءٍ ، وَكُلُّهُنَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ جَمِيعُ النِّسَاءِ إلَّا أَرْبَعٌ فَدَعْوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الْأُولَى فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ فِي الْأَرْبَعِ ؛ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لَهُ لَفْظًا وَبَطَل مَعْنًى ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ مُقَدَّرٌ بِنَوْعٍ وَنَحْوٍ مِمَّا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُنَّ الْحَرَائِرُ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَحَرَّمْنَا عَلَيْكُمُ الْحَرَائِرَ مِنَ النِّسَاءِ ، وَأَحْلَلْنَا لَكُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَقْوَالِ :
أَمَّا مَنْ خَصَّصَهَا فِي بَعْضِ النِّسَاءِ فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَعْضَ يَبْقَى حِلًّا ، وَالْآيَةُ إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ مِنْهُنَّ ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْأَزْوَاجِ لَهُ مِنَ الْحَرَائِرِ أَوْ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ ، أَوْ كُلُّ تَأْوِيلٍ يَقْتَضِي بَقَاءَ بَعْضِهِنَّ فَذَلِكَ بَعِيدٌ فِي التَّأْوِيلِ مُفَسِّرٌ لِلتَّنْزِيلِ .
وَأَمَّا مَنْ عَمَّمَ جَمِيعَ الْمَسَائِلِ إلَّا الْأَرْبَعَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا مَنْ عَمَّمَ فِي الْكُلِّ فَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَيَقَعُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فِي الْإِمَاءِ أَوْ فِي الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ ؛ وَهَذَا مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ الْعَظِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي الْمُخْتَارِ :
وَهَذَا الْمُشْكِلُ هُوَ الَّذِي مِلْنَا إلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } رَاجِعٌ إلَى الشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } ، فَقَدْ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُطْلِقْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ بِأَنَّهَا مِلْكُ الْيَمِينِ ؛ فَإِنَّهَا تَمْلِكُ مِنْهُ مَا يَمْلِكُ مِنْهَا ، أَمَّا إنَّهُ لَهُ عَلَيْهَا دَرَجَةٌ ، وَلَكِنْ نَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ : { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يَرْجِعُ إلَى الْإِمَاءِ ، وَقَوْلَهُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَدَا الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا فِي الْإِمَاءِ كُلِّهِنَّ ، فَإِنَّ مِلْكَ الْأَمَةِ الْمُتَجَدِّدِ عَلَى النِّكَاحِ يُبْطِلُهُ ، فَمَوْضِعُ إشْكَالٍ عَظِيمٍ ، وَلِأَجْلِهِ تَرَدَّدَ فِيهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَيْدَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا لَا يُبْطِلُ نِكَاحًا مُتَأَكَّدًا ، وَلَوْ أَنَّهُ مَلَّكَ مَنْفَعَةَ رَقَبَتِهَا لِرَجُلٍ بِالْإِجَارَةِ ثُمَّ يَبِيعُهَا مَا أَبْطَلَ الْمِلْكُ الْمُتَجَدِّدُ مِلْكَ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ ؛ فَمِلْكُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ أَوْلَى أَنْ يَبْقَى ، فَإِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اُسْتُحِلَّتْ بِهِ الْفُرُوجُ ، فَعَقْدُ الْفَرْجِ نَفْسِهِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ بِهِ مِنْ عَقْدِ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ .
وَاَلَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ بُرِيرَةَ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا طَرَأَ مِنَ الْعِتْقِ عَلَيْهَا ، وَلَا مَا مَلَكَتْ مِنْ نَفْسِهَا ، مُبْطِلًا لِنِكَاحِ زَوْجِهَا ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كُلُّ مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ هَاهُنَا مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى كِفَايَةٌ لِمَنْ سَدَّدَ النَّظَرَ ، فَوَضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْجَمِيعُ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ السَّبْيُ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي بَيَانِهِ .
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْأَرْبَعِ فَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } .
هَذَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ نَفَاهُ وَمِمَّنْ أَثْبَتَهُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ الْمُحَرَّمَاتِ ، ثُمَّ قَالَ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ؛ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : الْمُرَادُ بِهِ مَنْ عَدَا الْقَرَابَةَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ .
الثَّانِي : مَا دُونَ الْأَرْبَعِ .
الثَّالِثُ : مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : عَجَبًا لِلْأَوَائِلِ كُلِّفُوا فَهَرَفُوا ؛ نَظَرُوا إلَى السُّدِّيِّ يَقُولُ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يَعْنِي مَا دُونَ الْأَرْبَعِ ، وَكَمْ حَرَامٍ بَعْدَ هَذَا ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَطَاءٍ : إنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَرَابَةِ ، وَبَقِيَ الْأَجَانِبُ غَيْرَ مُبَيَّنَاتٍ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ قَتَادَةَ ؛ بَلْ أَضْعَفُ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ التَّحْلِيلَ إلَى الْإِمَاءِ خَاصَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ دَفْعَةً ، وَلَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي تَفْصِيلِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ نُجُومًا وَشُذِّرَ شُذُورًا لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ ؛ فَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ مَعْدُودَاتٍ مَشْرُوحَاتٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَهَا عَلَى السُّوَرِ وَالْآيَاتِ ، وَقَسَّمَهَا عَلَى الْحَالَاتِ وَالْأَوْقَاتِ ؛ فَاجْتَمَعَتِ الْعُلَمَاءُ وَكَمُلَتْ فِي الدِّينِ ، كَمَا كَمُلَ جَمِيعُهُ وَاسْتَوْثَقَ وَانْتَظَمَ وَاتَّسَقَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ » . وَقَدْ بَلَغَ الْعُلَمَاءُ الْأَسْبَابَ الْمُبِيحَةَ لِلدَّمِ إلَى عَشَرَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَدَدُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا حَسْبَمَا رَتَّبْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ النِّسَاءِ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً ، مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ حُرِّمْنَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا ، وَمِنْهُنَّ سِتَّ عَشْرَةَ تَحْرِيمُهُنَّ لِعَارِضٍ .
فَأَمَّا الْأَرْبَعُ وَالْعِشْرُونَ فَهُنَّ : الْأُمُّ ، الْبِنْتُ ، الْأُخْتُ ، الْعَمَّةُ ، الْخَالَةُ ، بِنْتُ الْأَخِ ، بِنْتُ الْأُخْتِ ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعٌ . وَمِنْ الرَّضَاعِ مِثْلُهُنَّ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، كَمُلْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَحَلِيلَةُ الْأَبِ ، وَحَلِيلَةُ الِابْنِ ، وَأُمُّ الزَّوْجَةِ ، وَرَبِيبَةُ الزَّوْجَةِ ، الْمَدْخُولِ بِهَا . وَمِنَ الْجَمْعِ ثَلَاثٌ ؛ وَهُنَّ الْأُخْتَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَالْمَرْأَةُ وَعَمَّتُهَا ، وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُلَاعَنَةُ سَنَةً ، وَالْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَزَوْجَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْوَجْهُ بِمَوْتِهِنَّ .
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ لِعَارِضٍ فَهُنَّ : الْخَامِسَةُ ، وَالْمُزَوَّجَةُ ، وَالْمُعْتَدَّةُ ، وَالْمُسْتَبْرَأَة ، وَالْحَامِلُ ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا ، وَالْمُشْرِكَةُ ، وَالْأَمَةُ الْكَافِرَةُ ، وَالْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ لِوَاجِدِ الطُّولِ ؛ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَةُ الِابْنِ ، وَالْمُحَرَّمَةُ ، وَالْمَرِيضَةُ ، وَمَنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجِهِ اللَّاتِي لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهَا ، وَالْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ ، وَالْمَنْكُوحَةُ عِنْدَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ وَالْمَنْكُوحَةُ عِنْدَ الْخُطْبَةِ بَعْدَ التَّرَاكُنِ .
فَأَمَّا السَّبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُنَّ فَدَلِيلُهُنَّ ظَاهِرٌ . وَأَمَّا الْمُلَاعَنَةُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ تَحْرِيمُهَا مُؤَبَّدًا فَإِنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ حَلَّ لَهُ رَجْعَتُهَا ، وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ طَلَاقٌ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِلَفْظِ الزَّوْجِ كَالطَّلَاقِ ، مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْحَاكِمِ كَطَلَاقِ الْعِنِّينِ ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ أَوْجَبَهُ اللِّعَانُ ، فَزَالَ بِالتَّكْذِيبِ ؛ فَنُفِيَ بِلِعَانِهِ وَيَعُودُ بِتَكْذِيبِهِ .
وَالنُّكْتَةُ الْعُظْمَى لَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : أَوْجَبَ حُرْمَةً لَأَوْجَدَ مَحْرَمِيَّةً كَالرِّضَاعِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعَانِي لَهُمْ ، وَالنَّظَائِرُ وَالْأُصُولُ مَعَهُمْ ، وَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ إلَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ . لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَالِي ؟ قَالَ : لَا مَالَ لَكَ . إنْ كُنْت صَدَقْت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا ، وَإِنْ كُنْت كَذَبْت عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا » .
وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ النَّظَرُ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مُحَرَّمًا قَبْلَ حِلِّهِ فَحَرَّمَهُ أَبَدًا ؛ كَالْقَاتِلِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْمِيرَاثِ ، وَالْمُسْتَبْرَأَة مُعْتَدَّةٌ ، الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ ، وَالْمَحِلُّ وَاحِدٌ ، وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ ؛ فَلَمَّا اتَّحَدَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالْحَامِلُ أَوْقَعُ ، وَالدَّلِيلُ فِيهَا الْجَمْعُ ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا قُرْآنِيَّةً ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكَةُ ، وَالْأَمَتَانِ تَأْتِيَانِ مُبَيِّنَتَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا أَمَةُ الِابْنِ فَكُلُّ مُحَرَّمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَإِنَّ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ عَامٌّ فِي النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ ، فَدَخَلَ فِيهِ تَحْرِيمُ مِلْكِ الْيَمِينِ ، وَأَمَةُ الِابْنِ مِنْ حَلَائِلِ الِابْنِ لَفْظًا ، أَوْ مَعْنًى وَلَفْظًا ، أَوْ مَعْنًى مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ ، وَالْكُلُّ فِي اقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ دَرَجَاتٌ ، وَلَهُ مُقْتَضَيَاتٌ ؛ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ دَخَلَ فِيهِ الْجَمْعُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِمَا بَيَّنَّاهُ .
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ : نِكَاحُ الْمُحَرَّمِ جَائِزٌ بِالْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، وَلَا عُمْدَةَ لَهُمَا فِيهِ إلَّا حَدِيثُ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ : «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ ، وَلَا يُنْكَحُ » . وَضَعَّفَ الْبُخَارِيُّ نُبَيْهَ بْنَ وَهْبٍ ، وَتَعْدِيلُ مَالِكٍ وَعِلْمُهُ بِهِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِ كُلٍّ بُخَارِيٍّ وَحِجَازِيٍّ ، فَلَا يُلْتَفَتُ لِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ فِي مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا ، فَعَجَبًا لِلْبُخَارِيِّ يُدْخِلُهُ مَعَ عَظِيمِ الْخِلَافِ فِيهِ وَيَتْرُكُ أَمْثَالَهُ ، وَلَا يُعَارَضُ حَدِيثُ نُبَيْهٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ . وَالْمَسْأَلَةُ عَظِيمَةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا نِكَاحُ الْمَرِيضِ فَمِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ وَكَذَلِكَ الْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ لَا تُزَوَّجَ بِحَالٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا ، وَلَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ ؛ فَأَفْسَدَ مَا بَنَى وَجَعَلَ حَلًّا مُتَرَقَّبًا ، وَهِيَ طُيُولِيَّةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ .
فَهَذِهِ جُمَلٌ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ثَبَتَتْ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَدِلَّتِهَا وَخُصَّتْ مِنْ قَوْلِهِ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } . وَتَرَكَّبَ عَلَى هَذَا مَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ ، هَلْ يُثْبِتُ زِنَاهُ حُرْمَةً فِي فُرُوعِهَا وَأُصُولِهَا ؟ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ وَدَعْ مَنْ رَوَى ، وَمَا رُوِيَ . أَقَامَ مَالِكٌ عُمْرَهُ كُلَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْمُوَطَّأَ وَيَقْرَؤُهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيهِ : إنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيِّنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } يَعْنِي بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالشِّرَاءِ ، فَأَبَاحَ اللَّهُ الْحَكِيمُ الْفُرُوجَ بِالْأَمْوَالِ وَالْإِحْصَانِ دُونَ السِّفَاحِ وَهُوَ الزِّنَا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ ، لَكِنْ رُخِّصَ فِي جَوَازِ السُّكُوتِ عَنْهُ عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْوِيضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ هُنَالِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ : قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } مُطْلَقًا ، فَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ فِي جَوَازِ الصَّدَاقِ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمَوْهُوبَةِ فِي الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ » .
وَلَنَا فِيهِ طُرُقٌ ؛ أَقْوَاهَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ اسْتِبَاحَةَ هَذَا الْعُضْوِ وَهُوَ الْبُضْعُ إلَّا بِبَدَلٍ وَجَبَ أَنْ يَتَقَرَّرَ ذَلِكَ الْبَدَلُ ؛ بَيَانًا لِخَطَرِهِ وَتَحْقِيقًا لِشَرَفِهِ ، لَاسِيَّمَا وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَحُقُوقُ اللَّهِ مُقَدَّرَةٌ كَالشَّهَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ وَنُصُبِ السَّرِقَةِ وَالدِّيَاتِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَتَخَصَّصَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ ، لَاسِيَّمَا وَمَسَاقُ هَذَا اللَّفْظِ إيجَابُ الْبَدَلِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِشَارَةَ بِعُمُومِهِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ خَاتَمِ الْحَدِيدِ فَخَاتَمٌ فِي الْعُرْفِ يَتَزَيَّنُ بِهِ ، قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ فَتَأَمَّلْ تَحْقِيقَهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْذُلَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَتَحْقِيقُ الْمَالِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَطْمَاعُ ، وَيُعْتَدُّ لِلِانْتِفَاعِ ، هَذَا رَسْمُهُ فِي الْجُمْلَةِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ .
وَتَحْقِيقُ بَيَانِهِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّقَبَةِ فِي الْإِجَارَةِ مَالٌ ، وَأَنَّ مَنْفَعَةَ التَّعْلِيمِ لِلْعِلْمِ كُلِّهِ مَالٌ ، وَفِي جَوَازِ كَوْنِهِ صَادِقًا كَلَامٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا عِتْقُ الْأَمَةِ فَلَيْسَ بِمَالٍ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : هُوَ مَالٌ يَجُوزُ النِّكَاحُ بِمِثْلِهِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُ صَدَاقًا فِي نِكَاحِهِ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ ؛ فَإِنَّهُ أَعْتَقَهَا بِتَزَوُّجِهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ، رَوَاهُ أَنَسٌ فِي الصَّحِيحِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ بِخَصَائِصَ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ كَانَ يَنْكِحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا صَدَاقٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ أَرَادَ زَيْنَبَ فَحُرِّمَتْ عَلَى زَيْدٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِمِثْلِ هَذَا .
وَقَدْ حَقَّقْنَا خَصَائِصَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ، وَقَدْ عَضَّدَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنْ قَالُوا : إنَّ قَوْلَهُ : «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا » ؛ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعِتْقِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مُحْصِنِينَ } .
قَالَ بَعْضُ الْغَافِلِينَ : إنَّ قَوْلَهُ : { مُحْصِنِينَ } يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ النِّسَاءِ ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ ابْتَغُوهُنَّ غَيْرَ زَانِيَاتٍ ، وَلَوْ أَرَادَ كَوْنَهَا حَالًا لِلنِّسَاءِ لَقَالَ : مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ كَمَا فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { مُحْصِنِينَ } حَثُّ الرِّجَالِ عَلَى حَظِّهِمْ الْمَحْمُودِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ الْإِحْصَانِ دُونَ السِّفَاحِ ؛ قِيلَ لَهُمْ : ابْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ نِكَاحًا لَا سِفَاحًا ، وَالسِّفَاحُ اسْمُ الزِّنَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } ، يَعْنِي غَيْرَ زَانِينَ ، وَالسِّفَاحُ اسْمٌ لِلزِّنَا ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَسْفَحُ الْمَاءَ أَيْ يَصُبَّهُ ، وَالسَّفْحُ الصَّبُّ ، وَالنِّكَاحُ سِفَاحٌ اشْتِقَاقًا ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَمْعُ وَالضَّمُّ ، وَصَبُّ الْمَاءِ ؛ وَلَكِنَّ الشَّرِيعَةَ وَاللُّغَةَ خَصَّصَتْ كُلَّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ مِنْ مَعْنَى مُطْلَقِهِ ؛ لِلتَّعْرِيفِ بِهِ عَلَى عَادَتِهَا فِيمَا تُطْلِقُهُ مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } :
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِمْتَاعَ النِّكَاحِ الْمُطْلَقِ ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مُتْعَةُ النِّسَاءِ بِنِكَاحِهِنَّ إلَى أَجَلٍ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَرَأَ : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَاَللَّهِ لَأَنْزَلَهَا اللَّهُ كَذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ : أَعْطَانِي ابْنُ عَبَّاسٍ مُصْحَفًا ، وَقَالَ : هَذَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ ، وَفِيهِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ، يَعْنِي بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ .
أَمَّا إنَّهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّ الصَّدَاقَ إذَا لَمْ يُسَمَّ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ بِالدُّخُولِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي التَّفْوِيضِ ، وَأَمَّا مُتْعَةُ النِّسَاءِ فَهِيَ مِنْ غَرَائِبِ الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حُرِّمَتْ يَوْمَ خَيْبَرَ ، ثُمَّ أُبِيحَتْ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا يَشْفِي الصُّدُورَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ؛ سَمَّاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَجْرًا ، وَسَمَّاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ نِحْلَةً ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ ، وَكَانَتِ الْفَائِدَةُ بِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْبَيَانُ لِحَالِ الصَّدَاقِ ، وَأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ نِحْلَةٌ وَمِنْ وَجْهٍ عِوَضٌ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عِوَضٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ : النِّكَاحُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبُيُوعِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعِوَضِ وَتَعْرِيفِهِ وَإِبْقَاؤُهُ وَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ وَالْقِيَامُ فِيهِ بِالشُّفْعَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَرِيضَةً } ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْإِتْيَانِ لِيَخْلُصَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْأَجْرِ ، فَيَقْتَضِي التَّقْدِيرَ ؛ مَعْنَاهُ أَعْطُوهَا صَدَاقَهَا كَامِلًا ، وَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ، كَمَا قَالَ : { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } .
إذَا وَجَبَ الْمَهْرُ وَعُلِمَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ التَّرَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي تَرْكِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ ، أَوِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ وَهُمَا مَالِكَانِ أَمَرَهُمَا فَذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمَا مَنْ لَا يَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهِ فَذَلِكَ إلَى الْوَلِيِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ، وَكَمَا تُوجِبُ امْرَأَةٌ لِنَفْسِهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ تُسْقِطُهُ ، كَذَلِكَ يُوجِبُهُ وَلِيُّهَا لَهَا ثُمَّ يُسْقِطُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِيهِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الزِّيَادَةَ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَبِالصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ تَلْحَقُهُمَا وَيَجْرِي مَجْرَاهُمَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَاتِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ وَهِيَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَذْكُورَةٌ .
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ فَسْخَ الْعَقْدِ وَتَجْدِيدِهِ صَرِيحًا فَمَلَكَاهُ عَنْهُمَا ، وَلَهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَا فِيهِ كَيْفَ شَاءَا .