الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا من رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { شَعَائِرَ } :
وَزْنُهَا فَعَائِلُ ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ ؛ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْهَدْيُ . الثَّانِي : أَنَّهُ كُلُّ مُتَعَبَّدٍ ؛ مِنْهَا الْحَرَامُ فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ ، وَمِنْهَا اجْتِنَابُ سَخَطِ اللَّهِ فِي قَوْلِ عَطَاءٍ . وَمِنْهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ . وَقَالَ عُلَمَاءُ النَّحْوِيِّينَ : هُوَ من أَشْعَرَ : أَيْ : أَعْلَمَ ؛ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِأَنْ يَكُونَ من فَعَلَ لَا من أَفْعَلَ ، وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ كَمَصْدَرِ جَرَى عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ . وَالصَّحِيحُ من الْأَقْوَالِ هُوَ الثَّانِي ، وَأَفْسَدُهَا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْهَدْيُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَ فَلَا مَعْنَى لِإِبْهَامِهِ وَالتَّصْرِيحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } :
قَدْ بَيَّنَّا فِي كُلِّ مُصَنَّفٍ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَأْتِي لِلْعَهْدِ وَتَأْتِي لِلْجِنْسِ ؛ فَهَذِهِ لَامُ الْجِنْسِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَأْتِي بَيَانُهَا مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا الْهَدْيَ } وَهِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ يُهْدَى إلَى اللَّهِ فِي بَيْتِهِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ عُمُومُهُ فِي كُلِّ مُهْدًى ، كَانَ حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا . وَحَقِيقَةُ الْهَدْيِ كُلُّ مُعْطًى لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ عِوَضٌ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : ( مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى إلَى الْجُمُعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً } ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ : { فَكَأَنَّمَا أَهْدَى بَدَنَةً ، وَكَأَنَّمَا أَهْدَى بَيْضَةً } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : ثَوْبِي هَدْيٌ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِثَمَنِهِ إلَى مَكَّةَ فِي اخْتِلَافٍ يَأْتِي بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَهِيَ كُلُّ مَا عُلِّقَ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، من نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَهِيَ سُنَّةٌ إبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ فِي الْحَجِّ . وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } : يَعْنِي قَاصِدِينَ لَهُ ، من قَوْلِهِمْ : أَمَمْت كَذَا ، أَيْ قَصَدْته ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَصَدَهُ بِاسْمِ الْعِبَادَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ من أَهْلِهَا ، كَالْكَافِرِ ، وَهَذَا قَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ غَيْرُ نَسْخٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ قَدْ بَقِيَتْ الْحُرْمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } : وَكَانَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } ثُمَّ أَبَاحَهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ ، وَهُوَ زِيَادَةُ بَيَانٍ ؛ لِأَنَّ رَبْطَهُ التَّحْرِيمَ بِالْإِحْرَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا زَالَ الْإِحْرَامُ زَالَ التَّحْرِيمُ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى التَّحْرِيمُ لِعِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْإِحْرَامِ ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْعِلَّةِ بِمَا صَرَّحَ بِهِ من الْإِبَاحَةِ ؛ فَكَانَ نَصًّا فِي مَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ اتِّفَاقًا ، وَقَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَقْدِيمِ الْحَظْرِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } عَلَى الْعُدْوَانِ عَلَى آخَرِينَ ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْحَكَمِ رَجُلٍ من رَبِيعَةَ ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : بِمَ تَأْمُرُنَا ؟ فَسَمِعَ مِنْهُ . وَقَالَ : أَرْجِعُ إلَى قَوْمِي فَأُخْبِرُهُمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَقَدْ جَاءَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَرَجَعَ بِقَفَا غَادِرٍ . وَرَجَعَ فَأَغَارَ عَلَى سَرْحٍ من سُرُوحِ الْمَدِينَةِ ، فَانْطَلَقَ بِهِ ، وَقَدِمَ بِتِجَارَةٍ أَيَّامَ الْحَجِّ يُرِيدُ مَكَّةَ ، فَأَرَادَ نَاسٌ من أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ [ الْآيَةُ ] أَيْ لَا تَعْتَدُوا [ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] بِقَطْعِ سُبُلِ الْحَجِّ ، وَكُونُوا مِمَّنْ يُعِينُ فِي التَّقْوَى ، لَا فِي التَّعَدِّي ، وَهَذَا من مَعْنَى الْآيَةِ مَنْسُوخٌ ، وَظَاهِرُ عُمُومِهَا بَاقٍ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ ، فَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْمِلَهُ بُغْضُ آخَرَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ ظَالِمًا ، فَالْعِقَابُ مَعْلُومٌ عَلَى قَدْرِ الظُّلْمِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ إنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ .