الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ظَاهِرُهَا مُحَالٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ وَلَا يُشَاقُّ وَلَا يُحَادُّ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا هُوَ عَلَيْهِ من صِفَاتِ الْجَلَالِ ، وَعُمُومِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى الْكَمَالِ ، وَمَا وَجَبَ لَهُ من التَّنَزُّهِ عَنْ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْمُتَحَارِبِينَ فِي جِهَةٍ وَفَرِيقٍ عَنْ الْآخَرِ . وَالْجِهَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ من الْمُفَسِّرِينَ لِمَا وَجَبَ من حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمَجَازِ : مَعْنَاهُ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ؛ وَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ الْعَزِيزَةِ سُبْحَانَهُ عَنْ أَوْلِيَائِهِ إكْبَارًا لِإِذَايَتِهِمْ ، كَمَا عَبَّرَ بِنَفْسِهِ عَنْ الْفُقَرَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } لُطْفًا بِهِمْ وَرَحْمَةً لَهُمْ ، وَكَشْفًا لِلْغِطَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : ( عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي ، وَجُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي ، وَعَطِشْت فَلَمْ تَسْقِنِي ، فَيَقُولُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ ، وَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ) . وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ مُحَالٌ ، وَلَكِنَّهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْهُ تَشْرِيفًا لَهُ ، كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ .
وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إنَّ الْحِرَابَةَ هِيَ الْكُفْرُ ، وَهِيَ مَعْنًى صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَبْعَثُ عَلَى الْحَرْبِ ؛ وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ نَقَضُوا الْعَهْدَ ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ ، فَخَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ .
الثَّانِي : نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : ( نَزَلَتْ فِي عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ ، قَدِمَ مِنْهُمْ نَفَرٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ ، فَقَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ إنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَوْدٍ وَرَاعٍ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ ، فَيَشْرَبُوا من أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَلُوا أَعْيُنَهُمْ ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ ، وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالَهِمْ ) وَقَالَ قَتَادَةُ : فَبَلَغَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ ) .
هَذَا فِي الصَّحِيحِ من قِصَّتِهِمْ ، وَتَمَامُهَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي صَرِيحِ الصَّحِيحِ ، زَادَ الطَّبَرِيُّ : وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُعَاتَبَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ ؛ قَالَهُ اللَّيْثُ .
الْخَامِسُ : قَالَ قَتَادَةُ : هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا فَعَلَ فِي الْعُرَنِيِّينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ : لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ لَكَانَ غَرَضًا ثَابِتًا ، وَنَصَّا صَرِيحًا . وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودَ ، وَدَخَلَ تَحْتَهَا كُلُّ ذِمِّيٍّ وَمَلِّيٍّ . وَهَذَا مَا لَمْ يَصِحَّ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا من الْيَهُودِ حَارَبَ ، وَلَا أَنَّهُ جُوزِيَ بِهَذَا الْجَزَاءِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ عُكْلًا وَعُرَيْنَةَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا وَأَفْسَدُوا ، وَلَكِنْ يَبْعُدُ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمْ فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ ، كَمَا يَسْقُطُ قَبْلَهَا ، وَقَدْ قِيلَ لِلْكُفَّارِ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } . وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ ، وَفِي الْآيَةِ النَّفْيُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ ، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُنْفَى ، وَفِيهَا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَالْمُرْتَدُّ لَا تُقْطَعُ لَهُ يَدٌ وَلَا رِجْلٌ ؛ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا يُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَلَا الْمُرْتَدُّونَ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ أَقْوَى ؛ وَلَا يُمْكِن أَنْ يُحْكَمُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْعُرَنِيِّينَ من سَمْلِ الْأَعْيُنِ ، وَقَطْعِ الْأَيْدِي .
قُلْنَا : ذَلِكَ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَسَمَلَ الْأَعْيُنَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ
إذَا تَعَيَّنَ فَاعِلُ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ حَرْبِيِّينَ ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ ؛ وَالْمُرْتَدُّ يَلْزَمُ اسْتِتَابَتُهُ ، وَعِنْدَ إصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ يُقْتَلُ .
قُلْنَا : فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ، وَالْأُخْرَى : لَا يُسْتَتَابُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، فَقِيلَ : لَا يُسْتَتَابُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَسْتَتِبْهُمْ .
وَقِيلَ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِتَابَةَ هَؤُلَاءِ لِمَا أَحْدَثُوا من الْقَتْلِ وَالْمُثْلَةِ وَالْحَرْبِ ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ الَّذِي يَرْتَابُ فَيَسْتَرِيبُ بِهِ وَيُرْشَدُ ، وَيُبَيَّنُ لَهُ الْمُشْكِلُ ، وَتُجْلَى لَهُ الشُّبْهَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنَاوَلَتْ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ قَالَ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ وَتِلْكَ صِفَةُ الْكُفَّارِ ؟
قُلْنَا : الْحِرَابَةُ تَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ ، وَقَدْ تَكُونُ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَيُجَازَى بِمِثْلِهَا ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .
فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الرِّبَا قُلْنَا : نَعَمْ ، وَفِيمَنْ فَعَلَهُ ، فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأَمَةُ عَلَى أَنْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَعْصِيَةَ يُحَارَبُ ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى الْعَمَلِ بِالرِّبَا ، وَعَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْمُحَارَبَةِ :
وَهِيَ إشْهَارُ السِّلَاحِ قَصْدَ السَّلْبِ ، مَأْخُوذٌ من الْحَرْبِ ؛ وَهُوَ اسْتِلَابُ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ عَلَيْهِ ، وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا } .
وَقَدْ شَرَحَ ذَلِكَ مَالِكٌ شَرْحًا بَالِغًا فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : الْمُحَارِبُ الَّذِي يَقْطَعُ السَّبِيلَ وَيَنْفِرُ بِالنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَان ، وَيُظْهِرُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا ، إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ يُقْتَلُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ بِالْقَتْلِ ، أَوْ الصَّلْبِ ، أَوْ الْقَطْعِ ، أَوْ النَّفْيِ ؛ قَالَ مَالِكٌ : وَالْمُسْتَتِرُ فِي ذَلِكَ وَالْمُعْلِنُ بِحِرَابَتِهِ [ سَوَاءٌ ] . وَإِنْ اسْتَخْفَى بِذَلِكَ ، وَظَهْرَ فِي النَّاسِ إذَا أَرَادَ الْأَمْوَالَ وَأَخَافَ فَقَطَعَ السَّبِيلَ أَوْ قَتَلَ ، فَذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ ؛ يَجْتَهِدُ أَيَّ هَذِهِ الْخِصَالِ شَاءَ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ قَرِيبًا وَأَخَذَ بِحِدْثَانِهِ فَلْيَأْخُذْ الْإِمَامُ فِيهِ بِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ ، وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِمَالِكٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمُجَاهِرُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْمُكَابِرُ بِاللُّصُوصِيَّةِ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمُجَاهِرُ فِي الطَّرِيقِ لَا فِي الْمِصْرِ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَعَطَاءٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي التَّنْقِيحِ :
أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَسَاقِطٌ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يَفْعَلهُ مُجَاهَرَةً مُغَالَبَةً ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْحَشُ فِي الْحِرَابَةِ . قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَقَدْ كُنْت أَيَّامَ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ قَدْ رُفِعَ إلَيَّ قَوْمٌ خَرَجُوا مُحَارِبِينَ إلَى رُفْقَةٍ ، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ امْرَأَةً مُغَالَبَةً عَلَى نَفْسِهَا من زَوْجِهَا وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ فِيهَا فَاحْتَمَلُوهَا ، ثُمَّ جَدَّ فِيهِمْ الطَّلَبُ فَأُخِذُوا وَجِيءَ بِهِمْ ، فَسَأَلْتُ مَنْ كَانَ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِهِ من الْمُفْتِينَ ، فَقَالُوا : لَيْسُوا مُحَارِبِينَ ؛ لِأَنَّ الْحِرَابَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي الْفُرُوجِ . فَقُلْت لَهُمْ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أَلَم تَعْلَمُوا أَنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْفُرُوجِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الْأَمْوَالِ ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَيَرْضَوْنَ أَنْ تَذْهَبَ أَمْوَالُهُمْ وَتُحْرَبَ من بَيْنِ أَيْدِيهمْ وَلَا يُحْرَبُ الْمَرْءُ من زَوْجَتِهِ وَبِنْتِهِ ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَا قَالَ اللَّهُ عُقُوبَةٌ لَكَانَتْ لِمَنْ يَسْلُبُ الْفُرُوجَ ، وَحَسْبُكُمْ من بَلَاءٍ صُحْبَةُ الْجُهَّالِ ، وَخُصُوصًا فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَوَاءٌ فِي الْمِصْرِ وَالْبَيْدَاءِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِمُطْلَقِ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْبَيْدَاءِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الْمِصْرِ لِعَدِمِ الْغَوْثِ فِي الْبَيْدَاءِ وَإِمْكَانِهِ فِي الْمِصْرِ .
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْحِرَابَةَ عَامَّةٌ فِي الْمِصْرِ وَالْقَفْرِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْحَشَ من بَعْضٍ ، وَلَكِنَّ اسْمَ الْحِرَابَةِ يَتَنَاوَلُهَا ، وَمَعْنَى الْحِرَابَةِ مَوْجُودٌ فِيهَا ، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضًا مَنْ فِي الْمِصْرِ لَقُتِلَ بِالسَّيْفِ وَيُؤْخَذُ فِيهِ بِأَشَدِّ ذَلِكَ لَا بِأَيْسَرِهِ فَإِنَّهُ سَلَبَ غِيلَةً ، وَفِعْلُ الْغِيلَةِ أَقْبَحُ من فِعْلِ الظَّاهِرَةِ ، وَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَفْوُ فِي قَتْلِ الْمُجَاهَرَةِ ، فَكَانَ قِصَاصًا ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ ، وَكَانَ حَدًّا ؛ فَتَحَرَّرَ أَنَّ قَطْعَ السَّبِيلِ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ فِي أَصَحِّ أَقْوَالِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يُوجِبُ إجْرَاءَ الْبَاغِي بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً مَجْرَى الَّذِي يَضُمُّ إلَيْهِ الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ ، لِعَظِيمِ الزِّيَادَةِ من أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي يَضُمُّ إلَى السَّعْيِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ عَنْهُ ، وَاَلَّذِي يَنْفَرِدُ بِالسَّعْيِ فِي إخَافَةِ السَّبِيلِ خَاصَّةً يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِهِ ؛ يُؤَكِّدهُ أَنَّ الْمُحَارِبَ إذَا قَتَلَ قُوبِلَ بِالْقَتْلِ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ لِأَخْذِهِ الْمَالَ ، وَرِجْلُهُ لِإِخَافَتِهِ السَّبِيلَ ، وَهَذِهِ عُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَيْنَا ، وَخُصُوصًا أَهْلَ خُرَاسَانَ مِنْهُمْ ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ لَا يَقُولُهَا مُبْتَدِئٌ .
أَمَّا قَوْلُهُمْ : كَيْف يُسَوَّى بَيْنَ مَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَقَتَلَ ، وَبَيْنَ مَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، وَقَدْ وُجِدَتْ مِنْهُ الزِّيَادَةُ الْعُظْمَى ، وَهِيَ الْقَتْلُ ؟
قُلْنَا : وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ من اسْتِوَاءِ الْجَرِيمَتَيْنِ فِي الْعُقُوبَةِ وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَفْحَشَ من الْأُخْرَى ؟ وَلِمَ أَحَلْتُمْ ذَلِكَ ؟ أَعَقْلًا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَمْ شَرْعًا ؟
أَمَّا الْعَقْلُ فَلَا مَجَالَ لَهُ فِي هَذَا ، وَإِنْ عَوَّلْتُمْ عَلَى الشَّرْعِ فَأَيْنَ الشَّرْعُ ؟ بَلْ قَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ عُقُوبَةَ الْقَاتِلِ كَعُقُوبَةِ الْكَافِرِ ، وَإِحْدَاهُمَا أَفْحَشُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ اسْتَوَى حُكْمُهُمَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ الْقَتْلِ عَمَّنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، كَمَا لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ عَمَّنْ أَخَافَ وَقَتَلَ .
قُلْنَا : هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْكُمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يُخِيفُ وَيَقْتُلُ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَعَيُّنِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ .
أَمَّا إذَا أَخَافَ وَلَمْ يَقْتُلْ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَمَحَلُّ اجْتِهَادٍ ، فَمِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْقَتْلِ حَكَمَ بِهِ ، وَمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى إسْقَاطِهِ أَسْقَطَهُ ؛ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ قَالَ مَالِكٌ : وَلْيَسْتَشِرْ لِيَعْلَمَ الْحَقِيقَةَ من الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ لِئَلَّا يُقْدِمَ عَلَى جَهَالَةٍ كَمَا أَقْدَمْتُمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقَتْلَ يُقَابِلُ الْقَتْلَ ، وَقَطْعَ الْيَدِ يُقَابِلُ السَّرِقَةَ ، وَقَطْعَ الرِّجْلِ يُقَابِلُ الْمَالَ ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ مِنْهُمْ وَمَزْجٌ لِلْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ بِالْحِرَابَةِ ، وَهُوَ حُكْمٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ لِفُحْشِهِ وَقُبْحِ أَمْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ } :
فِيهَا قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عَلَى التَّفْصِيلِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّفْصِيلِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا . أَوْ يُصْلَبُوا إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ . أَوْ تَقْطَعَ أَيَدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ ، أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ إنْ أَخَافُوا السَّبِيلَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ .
الثَّانِي : الْمَعْنَى إنْ حَارَبَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ من خِلَافٍ ، وَقُتِلَ وَصُلِبَ ، فَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ من خِلَافٍ ، وَإِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا نُفِيَ ، وَهَذَا يُقَارِبُ الْأَوَّلَ ، إلَّا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَقَطَعَ الطَّرِيقَ يُخَيَّرُ فِيهِ الْإِمَامُ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ من خِلَافٍ وَصَلَبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ رِجْلَهُ وَيَدَهُ وَلَمْ يَصْلُبْهُ ، فَإِنْ أَخَذَ بِالْأَوَّلِ فَقَتَلَ قُطِعَ من خِلَافٍ ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالْأَوَّلِ غُرِّبَ وَنُفِيَ من الْأَرْضِ .
الرَّابِعُ : قَالَ الْحَسَنُ مِثْلَهُ ، إلَّا فِي الْآخَرِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : يُؤَدَّبُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ . الْخَامِسُ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنْ اقْتَصَرُوا عَلَى الْقَتْلِ قُتِلُوا ، وَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ قُطِعُوا من خِلَافٍ ، وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : يُخَيَّرُ فِيهِمْ بِأَرْبَعِ جِهَاتِ : قَتْلٌ ، صَلْبٌ ، قَطْعٌ وَقَتْلٌ ، قَطْعٌ وَصَلْبٌ ، وَهَذَا نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا سَادِسٌ .
السَّابِعُ : قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ بِتَخْيِيرِ الْإِمَامِ بِمُجَرَّدِ الْخُرُوجِ ، أَمَّا مَنْ قَالَ : لِأَنَّ { أَوْ } عَلَى التَّخْيِيرِ فَهُوَ أَصْلُهَا وَمَوْرِدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا لِلتَّفْصِيلِ فَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ ، وَقَالَ : هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ : إنَّ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَنْ تُرْفَعَ مَنَازِلُهُمْ أَوْ يَكُونُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَنَازِلِهِمْ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُلُولَ الْمُؤْمِنِينَ [ مَعَهُمْ ] فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الطَّبَرِيُّ لَا يَكْفِي إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَمِعْوَلُهُمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانٍ ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ) . فَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ كَيْفَ يُقْتَلُ ؟
قَالُوا وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فَإِنْ التَّخْيِيرَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَخَفِّ ، ثُمَّ يُنْتَقَلُ فِيهِ إلَى الْأَثْقَلِ ؛ وَهَا هُنَا بَدَأَ بِالْأَثْقَلِ ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الْأَخَفِّ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَرَّرَ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَفْعَالِ ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى ، فَمَنْ قَتَلَ قُتِلَ ، فَإِنْ زَادَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ ؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ جَاءَ أَفْحَشَ ؛ فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَحْدَهُ قُطِّعَ من خِلَافٍ ، وَإِنْ أَخَافَ نُفِيَ .
الْجَوَابُ : الْآيَةُ نَصٌّ فِي التَّخْيِيرِ ، وَصَرْفُهَا إلَى التَّعْقِيبِ وَالتَّفْصِيلِ تَحَكُّمٌ عَلَى الْآيَةِ وَتَخْصِيصٌ لَهَا ، وَمَا تَعَلَّقُوا مِنْهُ بِالْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : يُقْتَلُ الرِّدْءُ وَلَمْ يُقْتَلْ : وَقَدْ جَاءَ الْقَتْلُ بِأَكْثَرَ من عَشْرَةِ أَشْيَاءَ ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا فَلَا تَعَلُّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَحَدٍ . وَتَحْرِيرُ الْجَوَابِ الْقُطْعُ لِتَشْغِيبِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ التَّخْيِيرَ عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْفَسَادِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفَسَادَ وَحْدَهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ وَمَعَ الْمُحَارَبَةِ أَشَدُّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ } :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : يُسْجَنُ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْجِنَايَةِ .
الثَّانِي : يُنْفَى إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ ؛ قَالَهُ أَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَغَيْرُهُمْ .
الثَّالِثُ : يُخْرَجُونَ من مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ أَبَدًا ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ . الرَّابِعُ : يُطْلَبُونَ بِالْحُدُودِ أَبَدًا فَيَهْرُبُونَ مِنْهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُسْجَنَ ، فَيَكُونُ السِّجْنُ لَهُ نَفْيًا من الْأَرْضِ ، وَأَمَّا نَفْيُهُ إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ فَعَوْنٌ لَهُ عَلَى الْفَتْكِ . وَأَمَّا نَفْيُهُ من بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَشُغْلٌ لَا يُدَانُ بِهِ لِأَحَدٍ ، وَرُبَّمَا فَرَّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ ثَانِيَةً .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُطْلَبُ أَبَدًا وَهُوَ يَهْرُبُ من الْحَدِّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَزَاءٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُحَاوَلَةُ طَلَبِ الْجَزَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ } :
قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا أُخِذَ فِي الْحِرَابَةِ نَصَّابًا . قُلْنَا : أَنْصِفْ من نَفْسِك أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَوَفِّ شَيْخَكَ حَقَّهُ لِلَّهِ .
إنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) .
فَاقْتَضَى هَذَا قَطْعَهُ فِي حَقِّهِ . وَقَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ فَاقْتَضَى بِذَلِكَ تَوْفِيَةَ الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَقِّهِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّارِقِ أَنَّ قَطْعَهُ فِي نِصَابٍ وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ ، وَبَقِيَتْ الْمُحَارَبَةُ عَلَى عُمُومِهَا . فَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَرُدَّ الْمُحَارَبَةَ إلَى السَّرِقَةِ كُنْتَ مُلْحِقًا الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَخَافِضًا الْأَرْفَعَ إلَى الْأَسْفَلِ ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ . وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ -وَهُوَ يَطْلُبُ النَّفْسَ إنْ وَقَى الْمَالَ بِهَا- عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ خَطْفَ الْمَالِ ، فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ ، حَتَّى إنَّ السَّارِقَ إذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ وَحَارَبَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ .
[ قَالَ الْقَاضِي ] : وَكُنْت فِي أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ النَّاسِ إذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ يَسْحَبُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ ، وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ ؛ فَافْهَمُوا هَذَا من أَصْلِ الدِّينِ ، وَارْتَفِعُوا إلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ عَنْ حَضِيضِ الْجَاهِلِينَ .
وَالْمُسْكِتُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْحِرْزَ ، فَلَوْ كَانَ الْمُحَارِبُ مُلْحَقًا بِالسَّارِقِ لِمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى حِرْزٍ .
وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ : أَحَدُ شَرْطَيْ السَّرِقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُحَارِبِ كَالْحِرْزِ وَالتَّعْلِيلِ النِّصَابُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا صَلَبَ الْإِمَامُ الْمُحَارِبَ فَإِنَّهُ يَصْلُبُهُ حَيًّا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصْلُبُهُ مَيِّتًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } ، فَبَدَأَ بِالْقَتْلِ .
قُلْنَا : نَعَمْ الْقَتْلُ مَذْكُورٌ أَوَّلًا ، وَلَكِنْ بَقِيَ أَنَّا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ هَاهُنَا هُوَ الْخِلَافُ . وَالصَّلْبُ حَيًّا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَى وَأَفْضَحُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَعْنَى الرَّدْعِ الْأَصْلَحِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : مِنْهُمَا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ فِي الدِّمَاءِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ كَالْقِصَاصِ . وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ ، من التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ ، فَإِنْ انْضَافَتْ إلَيْهِ إرَاقَةُ الدَّمِ فَحُشَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُرَاعَى مَالُ مُسْلِمٍ من كَافِرٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ ، وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ ، قُتِلَ الْجَمِيعُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقْتَلُ إلَّا مَنْ قَتَلَ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ وَتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَيُعَضِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ شُرَكَاءُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُ جَمِيعُهُمْ . وَقَدْ اتَّفَقَ مَعَنَا عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ الطَّالِعُ ، فَالْمُحَارِبُ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } : فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا من أَهْلِ الْكُفْرِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ . الثَّانِي : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَقَدْ حَارَبُوا بِأَرْضِ الشِّرْكِ .
الثَّالِثُ : إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ؛ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : وَفِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَالٌ يُعْرَفُ ، أَوْ يَقُومَ وَلِيٌّ يَطْلُبُ دَمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ وَالْقِصَاصُ مِنْهُ .
الْخَامِسُ : قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : لَا يُطْلَبُ بِشَيْءٍ لَا من حُقُوقِ اللَّهِ وَلَا من حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ فِي الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ إنَّ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } عَائِدٌ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِمَّنْ هُوَ بِأَرْضِ الشِّرْكِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ طَرِيفٌ ، وَلَهُ وَجْهٌ طَرِيفٌ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } يُعْطِي أَنَّهُمْ بِغَيْرِ أَرْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَأْخُذُهُ الْأَحْكَامُ وَتَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَنْزِيلُهُ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ إلَى الْجَبَلِ ، وَتَوَسَّطَ الْبَيْدَاءَ فِي مَنَعَةٍ فَلَا تَتَّفِقُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِجَرِّ جَيْشٍ وَنَفِيرِ قَوْمٍ ، فَلَا يُقَالُ : إنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَيَرْجِعُ إلَى الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ . قُلْنَا : إنَّا نَقُولُ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا فَقَدْ عَلِمْنَا بُطْلَانَ ذَلِكَ بِمَا قَامَ من الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا يَغْفِرُهَا الْبَارِّي سُبْحَانَهُ إلَّا بِمَغْفِرَةِ صَاحِبِهَا ، وَلَا يُسْقِطُهَا إلَّا بِإِسْقَاطِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ حَقٍّ .
قُلْنَا : هَذِهِ مَغْفِرَةٌ عَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ لِلْمَصْلَحَةِ فِي التَّحْرِيضِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ؛ فَأَمَّا مَنْ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَابُهَا .
وَقَدْ ( قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّهَادَةِ : إنَّهَا تُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ إلَّا الدَّيْنَ ) .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ حُكْمَهَا أَنَّهَا تُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : إنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّى طَلَبَهَا ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا أَرْبَابُهَا -وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ- فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِمُعَيِّنِينَ من النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُعِينَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ نَائِبُهُمْ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُجْمَلَةِ الْمُبْهَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُعَيَّنَةٍ .
وَأَمَّا إنْ عَرَفْنَا بِيَدِهِ مَالًا لِأَحَدٍ أَخَذَهُ فِي الْحِرَابَةِ فَلَا نُبْقِيه فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ غصْبٌ ، وَنَحْنُ نُشَاهِدُهُ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْمُنْكَرِ لَا يَجُوزُ ، فَيَكُونُ بِيَدِ صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَأْخُذَهُ مَالِكُهُ من يَدِ صَاحِبِهِ وَأَخِيهِ الَّذِي يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ .