الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ الْمَجْلِسِ :
فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَكَانَ قَوْمٌ إذَا أَخَذُوا فِيهِ مَقَاعِدَهُمْ شَحُّوا عَلَى الدَّاخِلِ أَنْ يَفْسَحُوا لَهُ .
وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْكَرَامِيُّ بِهَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْر الْغَلَّابِيُّ ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ الضَّبِّيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمِّهِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ [ عَنْ أَنَسٍ ] قَالَ : «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ إذْ أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ نَظَرَ مَجْلِسًا يُشْبِهُهُ ؛ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيُّهُمْ يُوَسِّعُ لَهُ ؛ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ جَالِسًا عَلَى يَمِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَزَحْزَحَ لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ ، وَقَالَ : هَا هُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ . قَالَ : فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ؛ إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ » .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَسْجِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَجْلِسُ الذِّكْرِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مَوْقِفُ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْقِتَالِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمِلٌ لَهُ ، وَالتَّفَسُّحُ وَاجِبٌ فِيهِ .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا } :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا جَلَسُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجْلِسِهِ أَطَالُوا ، يَرْغَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرْتَفِعُوا .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالِارْتِفَاعِ إلَى الْقِتَالِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْخَيْرُ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ . وَهُوَ الصَّحِيحُ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ .
المسألة الثَّالِثَةُ : الْفُسْحَةُ كُلُّ فَرَاغٍ بَيْنَ مَلَأَيْنِ . وَالنَّشْزُ : مَا ارْتَفَعَ من الْأَرْضِ .
ذَكَرَ الْأَوَّلَ بِلَفْظِهِ وَحَقِيقَتِهِ ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِلثَّانِي فِي الِارْتِفَاعِ ؛ فَصَارَ مَجَازًا فِي اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى .
المسألة الرَّابِعَةُ : كَيْفِيَّةُ التَّفَسُّحِ فِي الْمَجَالِسِ مُشْكِلَةٌ ، وَتَفَاصِيلُهَا كَثِيرَةٌ :
الْأَوَّلُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْسَحُ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسِّنِّ . الثَّانِي مَجْلِسُ الْجُمُعَاتِ يتَقَدَّمُ فِيهِ بِالْبُكُورِ إلَّا مَا يَلِي الْإِمَامَ ، فَإِنَّهُ لِذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى . الثَّالِثُ : مَجْلِسُ الذِّكْرِ يَجْلِسُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ .
الرَّابِعُ مَجْلِسُ الْحَرْبِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ ذَوُو النَّجْدَةِ وَالْمِرَاسِ من النَّاسِ .
الْخَامِسُ مَجْلِسُ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ يَتَقَدَّمُ فِيهِ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِالشُّورَى ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ :
{ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } فَيَرْتَفِعُ الْمَرْءُ بِإِيمَانِهِ أَوَّلًا ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ ثَانِيًا .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُقَدِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الصَّحَابَةِ ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ ، فَدَعَاهُمْ وَدَعَاهُ ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فَسَكَتُوا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَعْلَمُ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْآيَةَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَجَالِسِنَا هَذِهِ ، وَإِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْهُ : إنَّ قَوْلَهُ :{ يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا }الصَّحَابَةَ ، { وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَالِمَ وَالطَّالِبَ لِلْحَقِّ .
وَالْعُمُومُ أَوْقَعُ فِي المسألة ، وَأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .