الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } :
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : { نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } ، فَاعِلَةٌ مِنْ قَوْلِك : نَشَأَ يَنْشَأُ ، فَهُوَ نَاشِئٌ ، وَنَشَأَتْ تَنْشَأُ فَهِيَ نَاشِئَةٌ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } وَقَالَ الْعُلَمَاءُ بِالْأَثَرِ : إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً ، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنُ غُدَيْقَةَ
المسألة الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهَا عَلَى أَقْوَالٍ ، جُمْلَتُهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ ، إشَارَةً إلَى أَنَّ لَفْظَ نَشَأَ يُعْطِي الِابْتِدَاءَ ، فَهُوَ بِالْأَوَّلِيَّةِ أَحَقُّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ صَبَا نُصَيْبٌ *** لَقُلْت بِنَفْسِي النَّشَأُ الصِّغَارُ
الثَّانِي : أَنَّهُ اللَّيْلُ كُلُّهُ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِيهِ اللَّفْظُ ، وَتَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ .
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ { أَشَدُّ وَطْئًا } :
قُرِئَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ فَمِمَّنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ نَافِعٌ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَالْكُوفِيُّونَ .
وَقُرِئَ بِكَسْرِ الطَّاءِ مَمْدُودًا ، وَمِمَّنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ وَأَبُو عَمْرٍو .
فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ فَإِنَّهُ أَشَارَ إلَى ثِقَلِهِ عَلَى النَّفْسِ لِسُكُونِهَا إلَى الرَّاحَةِ فِي اللَّيْلِ وَغَلَبَةِ النَّوْمِ فِيهِ عَلَى الْمَرْءِ .
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ مِن الْمُوَاطَأَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَافَقُ فِيهِ السَّمْعُ لِعَدَمِ الْأَصْوَاتِ ، وَالْبَصَرُ لِعَدَمِ الْمَرْئِيَّاتِ ، وَالْقَلْبُ لِفَقْدِ الْخَطَرَاتِ .
قَالَ مَالِكٌ : أَقْوَمُ قِيلًا : هُدُوًّا مِن الْقَلْبِ وَفَرَاغًا لَهُ .
وَالْمَعْنَيَانِ فِيهِ صَحِيحَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْعَبْدِ وَأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلْقَصْدِ .