الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } :
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَلَى وَجْهٍ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ من كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ من الشَّاهِدِينَ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا } .
وَهُوَ فِي الْآثَارِ كَثِيرٌ ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ؛ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا » .
المسألة الثَّانِيَةُ : لَا يَصِحُّ إقْرَارٌ إلَّا من مُكَلَّفٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ يُسْقِطُ قَوْلَهُ إذَا كَانَ لِحَقِّ نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِحَقِّ غَيْرِهِ كَالْمَرِيضِ كَانَ مِنْهُ سَاقِطٌ وَمِنْهُ جَائِزٌ ، وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَلِلْعَبْدِ حَالَتَانِ فِي الْإِقْرَارِ :
إحْدَاهُمَا فِي ابْتِدَائِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَالثَّانِيَةُ فِي انْتِهَائِهِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ إبْهَامِ الْإِقْرَارِ وَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ . وَأُمَّهَاتُهَا سِتٌّ : الصُّورَةُ الْأُولَى أَنْ يَقُولَ لَهُ : عِنْدِي شَيْءٌ ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَوْ فَسَّرَهُ بِتَمْرَةٍ أَوْ كِسْرَةٍ قُبِلَ مِنْهُ . وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا فِيمَا لَهُ قَدْرٌ ، فَإِذَا فَسَّرَهُ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ ، وَحَلَفَ عَلَيْهِ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُفَسِّرَهَا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، وَمَا لَا يَكُونُ مَالًا فِي الشَّرِيعَةِ ، لَمْ يُقْبَلْ بِاتِّفَاقٍ ، وَلَوْ سَاعَدَهُ عَلَيْهِ الْمُقَرُّ لَهُ .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ ، مِثْلُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ ، أَوْ سِرْجِينٍ ، أَوْ كَلْبٍ ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ من رَدٍّ وَإِمْضَاءٍ ، فَإِنْ رَدَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ حَاكِمٌ آخَرُ غَيْرُهُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ بِإِبْطَالِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَلْزَمُ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قَالَ لَهُ : عَلَيَّ شَيْءٌ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ إلَّا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ إلَّا هُمَا .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ، فَإِنَّ غَيْرَهُمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ؛ إذْ وَجَبَ ذَلِكَ إجْمَاعًا .
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ إذَا قَالَ لَهُ : " عِنْدِي مَالٌ " قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِمَا يَكُونُ مَالًا فِي الْعَادَةِ ، كَالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ ، مَا لَمْ يَجِئْ من قَرِينَةِ الْحَالِ مَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ .
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : عِنْدِي مَالٌ كَثِيرٌ أَوْ عَظِيمٌ . فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْبَلُ فِي الْحَبَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْبَلُ إلَّا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً ، مِنْهَا نِصَابُ السَّرِقَةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالدِّيَةِ . وَأَقَلُّهُ عِنْدِي نِصَابُ السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَانُ عُضْوُ الْمُسْلِمِ إلَّا فِي عَظِيمٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ . وَمَنْ تَعَجَّبَ فَيَتَعَجَّبُ لِقَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ : إنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي أَقَلَّ من اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ، وَقِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ تَقُولُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } .
وَغَزَوَاتُهُ وَسَرَايَاهُ كَانَتْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ حُنَيْنًا مِنْهَا ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ : يُقْبَلُ فِي وَاحِدٍ وَسَبْعِينَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اُذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } وَقَالَ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ من نَجْوَاهُمْ } وَقَالَ : { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } .
الصُّورَةُ السَّادِسَةُ إذَا قَالَ لَهُ : عَلَى عَشْرَةٍ أَوْ مِائَةٍ أَوْ أَلْفٍ ، فَإِنَّهُ يُفَسِّرُهَا بِمَا شَاءَ وَيُقْبَلُ مِنْهُ ، فَإِنْ قَالَ : أَلْفُ دِرْهَمٍ ، أَوْ مِائَةُ عَبْدٍ ، أَوْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ تَفْسِيرُ مُبْهَمٍ ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ عَطَفَ عَلَى الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا كَانَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ تَفْسِيرٌ لِلْخَمْسِينَ ، وَالْخَمْسِينَ تَفْسِيرٌ لِلْمِائَةِ . وَقَالَ ابْنُ خَيْرَانَ وَالْإِصْطَخْرِيُّ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَكُونُ تَفْسِيرًا فِي الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ إلَّا لِلْخَمْسِينَ خَاصَّةً ، وَيُفَسِّرُ هُوَ الْمِائَةَ بِمَا شَاءَ . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ تَحْقِيقَ ذَلِكَ ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، وَهَذِهِ أُصُولُهَا .