الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ثَبَتَ عَنْ ( ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ : حَضَرْنَا عمرو بْنَ الْعَاصِ ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ ، فَبَكَى طَوِيلًا ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى الْجِدَارِ ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ : مَا يَبْكِيك يَا أَبَتَاهُ ؟ أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ بِكَذَا ؟ قَالَ : فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ ، فَقَالَ : إنَّ أَفْضَلَ مَا بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَنِّي كُنْت عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ : لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدُّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ مِنِّي ، وَلَا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْت مِنْهُ فَقَتَلْته ، فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْت من أَهْلِ النَّارِ . فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْت النَّبِيَّ فَقُلْت : اُبْسُطْ يَمِينَك لِأُبَايِعَك ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ . قَالَ : فَقَبَضْت يَدِي . قَالَ : مَا لَك يَا عَمْرُو ؟ قَالَ : قُلْت : أَرَدْت أَنْ أَشْتَرِطَ . قَالَ : تَشْتَرِطُ مَاذَا ؟ قُلْت : أَنْ يُغْفَرَ لِي . قَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ من رَسُولِ اللَّهِ ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنَيَّ مِنْهُ ، وَمَا كُنْت أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إجْلَالًا لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْت أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْت ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ ، وَلَوْ مِتُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَرَجَوْت أَنْ أَكُونَ من أَهْلِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ وُلِّينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا ؛ فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ ، وَلَا نَارٌ ؛ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا التَّفِل عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا ، ثُمَّ أُقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ لَطِيفَةٌ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلِيقَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِمَ ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَآثِمَ ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ مُؤَاخَذَتَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً ، وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ ؛ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ ، وَبَذَلَ الْمَغْفِرَةَ بِالْإِسْلَامِ ، وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَأَدْعَى إلَى قَبُولِهِمْ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ ، وَتَأْلِيفًا عَلَى الْمِلَّةِ ، وَتَرْغِيبًا فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا أَنَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا .
فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ ( أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ، سَأَلَ : هَلْ لَهُ تَوْبَةٌ ؟ فَجَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : لَا تَوْبَةَ لَك ، فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً . ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا آخَرَ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : وَمَنْ يَسُدُّ عَلَيْك بَابَ التَّوْبَةِ ؟ ائْتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ . فَمَشَى إلَيْهَا ، فَحَضَرَهُ الْأَجَلُ فِي الطَّرِيقِ ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ أَنْ قِيسُوا إلَى أَيِّ الْأَرْضَيْنِ هُوَ أَقْرَبُ ، أَرْضُهُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ ؟ فَأَلْفَوْهُ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِشِبْرٍ ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَاسَمُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ دَنَا بِصَدْرِهِ ) . فَانْظُرُوا إلَى قَوْلِ الْعَالِمِ لَهُ : لَا تَوْبَةَ لَهُ . فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَيْأَسَهُ قَتَلَهُ ؟ فِعْلُ الْيَائِسِ من الرَّحْمَةِ ؛ وَالتَّنْفِيرُ مَفْسَدَةٌ لِلْخَلِيقَةِ ، وَالتَّيْسِيرُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ لَمْ يَقْتُلْ فَسَأَلَهُ : هَلْ لِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ ؟ فَيَقُولُ لَهُ : لَا تَوْبَةَ لَهُ ؛ تَخْوِيفًا وَتَحْذِيرًا . فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ : هَلْ لِقَاتِلٍ من تَوْبَةٍ ؟ قَالَ لَهُ : لَك تَوْبَةٌ ؛ تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : مَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاقَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ .
فَأَمَّا مَنْ افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ، أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَةِ ، وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ أَوْ اغْتَصَبَ مُسْلِمَةً ثُمَّ أَسْلَمَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ .
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : إنَّمَا يَعْنِي عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ من مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ شَيْءٍ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا من عُمُومِ قَوْلِهِ : { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } ، وَقَوْلِهِ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } . وَمَا بَيَّنَّاهُ من الْمَعْنَى فِي التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ ، وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ، وَأَصَابَ جِنَايَاتٍ ، وَأَتْلَفَ أَمْوَالًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : يَلْزَمُهُ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ وَلِلْآدَمِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَا كَانَ لِلَّهِ يَسْقُطُ ، وَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ يَلْزَمُهُ ؛ وَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا . وَدَلِيلُهُمْ عُمُومُ قَوْلِهِ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . وَقَوْلُ النَّبِيِّ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } . وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاَللَّهِ كُلِّهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَلْزَمُ الْمُرْتَدَّ ؛ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ حُقُوقُ اللَّهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ ، وَلَا حُقُوقِ اللَّهِ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ يُسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ ، وَتَلْزَمُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، وَفِي ذَلِكَ تَمْهِيدٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .