الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } :
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : لِلْعُلَمَاءِ فِي تَعْيِينِهَا ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الصَّلَاةَ شَفْعٌ كُلُّهَا ، وَالْمَغْرِبَ وَتْرٌ ؛ قَالَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ ] .
الثَّانِي : أَنَّ الشَّفْعَ أَيَّامُ النَّحْرِ ، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، رَوَاهُ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
الثَّالِثُ : أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ مِنًى ، وَالْوَتْرَ : الثَّالِثُ من أَيَّامِ مِنًى ، وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ من ذِي الْحِجَّةِ .
الرَّابِعُ أَنَّ الشَّفْعَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ ، وَالْوَتْرَ أَيَّامُ مِنًى لِأَنَّهَا ثَلَاثَةٌ .
الْخَامِسُ الشَّفْعُ : الْخَلْقُ ، وَالْوَتْرُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
السَّادِسُ أَنَّهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ مِنْهُ شَفْعًا وَمِنْهُ وَتْرًا .
السَّابِعُ أَنَّهُ آدَم ؛ وَتْرٌ شَفَعَتْهُ زَوْجَتُهُ ، فَكَانَتْ شَفْعًا لَهُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّامِنُ أَنَّ الْعَدَدَ مِنْهُ شَفْعٌ ، وَمِنْهُ وَتْرٌ .
المسألة الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ خِلَافُ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّفْعِ كَانَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَهْدِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَهْدٌ ؛ وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كُلَّ شَفْعٍ وَوَتْرٍ مِمَّا ذُكِرَ وَمِمَّا لَمْ يُذْكَرْ ، وَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ يَسْتَغْرِقُ مَا تُرِكَ فِي الظَّاهِرِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
المسألة الثَّالِثَةُ : لَكِنْ إنْ قُلْنَا : إنَّ اللَّيَالِيَ الْعَشْرَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يَوْمَ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فَوَجْهُ الْقَسَمِ فِيهِ وَحَقِّ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ لَهُمْ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ السَّادِسُ فَمَعْنَاهُ وَحَقِّ الْخَلْقِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّابِعِ وَحَقِّ آدَمَ وَزَوْجَتِهِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّامِنِ أَنَّهُ قَالَ : وَحَقِّ الْعَدَدِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَ الْخَلْقِ وَتَمَامًا لَهُمْ ، حَتَّى لَقَدْ غَلَا فِيهِ الْغَالُونَ حَتَّى جَعَلُوهُ أَصْلَ التَّوْحِيدِ وَالتَّكْلِيفِ ، وَسِرَّ الْعَالَمِ وَتَفَاصِيلَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ هَوَسٌ كُلُّهُ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
المسألة الرَّابِعَةُ : إذَا قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الصَّلَاةُ فَمِنْهَا شَفْعٌ ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعُ ، وَمِنْهَا وَتْرٌ وَهِيَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهَا لَا تُعَادُ فِي جَمَاعَةٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا لَوْ طُلِبَ بِهَا فَضْلُ الْجَمَاعَةِ لَانْقَلَبَتْ شَفْعًا ، حَتَّى تَنَاهَى عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا : لَوْ أَعَادَهَا رَجُلٌ [ فِي جَمَاعَةٍ ] غَفْلَةً لَقِيلَ لَهُ : أَعِدْهَا ثَالِثَةً ؛ حَتَّى تَكُونَ وَتْرًا تِسْعَ رَكَعَاتٍ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْمَغْرِبَ لَوْ صَارَتْ بِالْإِعَادَةِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفْعًا لَصَارَتْ الظُّهْرُ بِإِعَادَتِهَا ثَمَانِيًا ، وَيَعُودُ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّخْلِيطِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فَيُقَالُ فِيهِ : فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي إذَا مَا ذَكَرْتهَا *** اثنتَيْنِ صَلَّيْت الضُّحَى أَمْ ثَمَانِيًا
فَكَمَا لَا تَتَضَاعَفُ الظُّهْرُ بِالْإِعَادَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا تَتَضَاعَفُ الْمَغْرِبُ ، وَأَشَدُّهُ الصَّلَاةُ الثَّالِثَةُ ، فَإِنَّهُ من الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ .
المسألة الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ أَقَلَّ النَّفْلِ رَكْعَتَانِ .
قُلْنَا : إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالشَّفْعِ } يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا .
وقَوْله تَعَالَى : { وَالْوَتْرِ } يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَتْرِ وَحْدَهُ الَّذِي هُوَ فَرْدٌ .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ : «الِاسْتِجْمَارُ وَتْرٌ ، وَالطَّوَافُ وَتْرٌ ، وَالْفَرْدُ كَثِيرٌ ، وَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ يَكْفِي فِيهِ .