تَكْمِلَةٌ : من خَوَاصِّ هَؤُلَاءِ الْخَوَاصِّ وِسَادَةِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
وَهِيَ الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ، وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَحْقِيقِ السَّبْقِ ، وَهُوَ التَّقَدُّمُ فِي الصِّفَةِ ، أَوْ فِي الزَّمَانِ ، أَوْ فِي الْمَكَانِ ، فَالصِّفَةُ الْإِيمَانُ ، وَالزَّمَنُ لِمَنْ حَصَلَ فِي أَوَانٍ قَبْلَ أَوَانٍ ، وَالْمَكَانُ مَنْ تَبَوَّأَ دَارَ النُّصْرَةِ ، وَاِتَّخَذَهُ بَدَلًا عَنْ مَوْضِعِ الْهِجْرَةِ ، وَهُمْ عَلَى ثَمَانِي مَرَاتِبَ :
الْأول : أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَسَعْدٌ ، وَبِلَالٌ ، وَغَيْرُهُمْ .
الثَّانِيَةُ : دَارُ النَّدْوَةِ .
الثَّالِثَةُ : مُهَاجِرَةُ أَصْحَابِ الْحَبَشَةِ ، كَعُثْمَانَ ، وَالزُّبَيْرِ .
الرَّابِعَةُ : أَصْحَابُ الْعَقَبَتَيْنِ ، وَهُمْ الْأَنْصَارُ .
الْخَامِسَةُ : قَوْمٌ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِقُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ .
السَّادِسَةُ : مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ .
السَّابِعَةُ : أَهْلُ بَدْرٍ .
الثَّامِنَةُ : أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَبِهِمْ انْقَطَعَتْ الْأَوَّلِيَّةُ .
وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ الثَّامِنَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ، وَاخْتَارَ فِي تَفْسِيرِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْحَسَنُ مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ : { وَالْأَنْصَارِ } : بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ، فَيَكُونُونَ أَيْضًا فِيهَا عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهُمْ الْعقبِيُّونَ ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْقِبْلَتَيْنِ ، وَمِنْهُمْ الْبَدْرِيُّونَ ، وَمِنْهُمْ الرِّضْوَانِيَّةُ ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ فِيهِمَا وَاحِدًا . وَقُرِئَ : وَالْأَنْصَارُ بِرَفْعِ الرَّاءِ ، عَطْفًا عَلَى " وَالسَّابِقُونَ " وَيُعْزَى ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ ، وَاخْتَارَهُ يَعْقُوبُ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ الرَّاءِ أَوْ خَفْضِهَا فَفِي الْأَنْصَارِ سَابِقٌ وَمُصَلٍّ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ وَاحِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَوَّلُ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ( قَوْلُ عَمْرو بْنِ عَبَسَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ اتَّبَعَك عَلَى هَذَا الْأَمْرِ ؟ قَالَ : حُرٌّ وَعَبْدٌ ) . وَبِهَذَا احْتَجَّ شَيْخُ السُّنَّةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْجُبَّائِيُّ فِي مَجْلِسِ ابْنِ وَرْقَاءَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ حِينَ ادَّعَى أَنَّ عَلِيًّا أَوَّلُهُمْ إسْلَامًا وَكَانَا شِيعِيِّينَ . وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ حَسَّانَ أَنْشَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَضْرَتِهِمْ :
إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا من أَخِي ثِقَةٍ *** فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ *** وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا
فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا قَالَ لَهُ : إنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ النَّيْسَابُورِيُّ ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَعْدِيٍّ عَنْ مُجَالِدٍ ، عَنْ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ ، مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إسْلَامًا ؟ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ ، أَوَ مَا سَمِعْت قَوْلَ حَسَّانَ :
إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا من أَخِي ثِقَةٍ *** فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا *** بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ *** وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا
وَهَذَا خَبَرٌ اُشْتُهِرَ وَانْتَشَرَ ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوَّلُ مَنْ صَلَّى أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأَبْيَاتِ حَسَّانَ ، وَذَكَرَهَا ثَلَاثَةً ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا فَضْلَ أَبِي بَكْرٍ وَسَبْقَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ غَامَرَهُ : ( دَعُوا لِي صَاحِبِي ، فَإِنِّي بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً ، فَقَالُوا : كَذَبْت ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت ) ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ ، وَطَلْحَةُ ، وَسَعْدٌ ، وَعُثْمَانُ ، وَأَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِمَةِ إسْلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، لَا عَنْ سَلْمَانَ ، وَلَا عَنْ الْحَسَنِ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } :
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ { الَّذِينَ } بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ نَعْتًا لِلْأَنْصَارِ ، فَرَاجَعَهُ زَيْدُ [ بْنُ ثَابِتٍ ] ، فَسَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، فَصَدَّقَ زَيْدًا فَرَجَعَ إلَيْهِ عُمَرُ ، وَثَبَتَتْ الْوَاوُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّابِعِينَ ؛ فَقِيلَ : هُمْ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَمَنْ دَانَاهُمْ من مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ ( أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ شَكَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالِدٍ : دَعُوا لِي أَصْحَابِي ، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ ) . خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقِيلَ : هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ وَلَا عَايَنُوا مُعْجِزَاتِهِ ؛ وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا خَبَرَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ اسْمٌ مَخْصُوصٌ بِالْقَرْنِ الثَّانِي ، فَيُقَالُ صَحَابِيٌّ وَتَابِعِيٌّ بِهَذِهِ الْخُطَّةِ ، لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَكَفَانَا أَنْ اتَّقَيْنَا اللَّهَ ، وَاهْتَدَيْنَا بِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَاقْتَفَيْنَا آثَارَهُ ، [ وَ ] اسْمُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا تِبْيَانًا لَنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ ، وَبُيِّنَتْ الْخُطَطُ فَإِنَّ السَّابِقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ ، وَالْمُتَقَدِّمَ إلَى الطَّاعَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُصَلِّي فِيهَا وَالتَّالِي بِهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ من قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا من بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } .
وَلَكِنْ مَنْ سَبَقَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةً ، وَأَوْفَى أَجْرًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِ مِنَ الْفَضْلِ إلَّا اقْتِدَاءُ التَّالِي بِهِ ، وَاهْتِدَاؤُهُ بِهَدْيِهِ ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَمِثْلُ ثَوَابِ مَنْ اتَّبَعَهُ مُقْتَدِيًا بِهِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ( مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ من أُجُورِهِمْ شَيْئًا ) .
وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ من تَأْخِيرِهَا عَنْهُ ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : ( أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا ) ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَبْقُ الصِّفَاتِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : ( نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ . فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ ) . فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ مَنْ سَبَقَنَا مِنَ الْأُمَمِ بِالزَّمَانِ فَجِئْنَا بَعْدَهُمْ سَبَقْنَاهُمْ بِالْإِيمَانِ ، وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِهِ ، وَالرِّضَا بِتَكْلِيفِهِ ، وَالِاحْتِمَالِ لِوَظَائِفِهِ ، لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ ، وَلَا نَخْتَارُ مَعَهُ ، وَلَا نُبَدِّلُ بِالرَّأْيِ شَرِيعَتَهُ ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ . وَذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَا قَضَاهُ ، وَبِتَيْسِيرِهِ لِمَا يَرْضَاهُ ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ الْأَعْرَابَ بِنَقْصِهِمْ وَحَطَّهُمْ عَنْ الْمَرْتَبَةِ الْكَامِلَةِ لِسِوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ :
أَوَّلُهَا : أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ ، حَسْبَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
ثَانِيهَا : أَنَّ إمَامَتَهُمْ بِأَهْلِ الْحَضَرِ مَمْنُوعَةٌ لِجَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَتَرْكِهِمْ لِلْجُمُعَةِ . ثَالِثُهَا : إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ الْحَضَارَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ ؛ فَقِيلَ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ ، وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ ، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ ، فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَتَنْفِيذُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ .
وَقِيلَ : إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ، لِمَا فِيهِ من تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ ، وَتِلْكَ رِيبَةٌ ؛ إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ ، فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ ، وَتُوجِبُ الرَّدَّ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْجِرَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْحَضَرِ مَاضِيَةٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاعِي كُلَّ تُهْمَةٍ ؛ أَلَا تَرَاهُ يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَهُ .