الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : اشْتَرِط لِرَبِّك وَلِنَفْسِك مَا شِئْت . فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ . قَالَ : فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ : الْجَنَّةُ . قَالَ : رَبِحَ الْبَيْعُ . قَالَ : لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ فَنَزَلَتْ : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ . . . } الآية .
وَهَذَا مِمَّا لَا يُوجَدُ صَحِيحًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : ( ذَهَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ ، وَذَهَبَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : تَكَلَّمُوا يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَأَوْجِزُوا ؛ فَإِنَّ عَلَيْنَا عُيُونًا قَالَ الشَّعْبِيُّ : فَخَطَبَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ خُطْبَةً مَا خَطَبَ الْمُرْدُ وَلَا الشِّيبُ مِثْلَهَا قَطُّ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اشْتَرِطْ لِرَبِّك ، وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِك ، وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِك . قَالَ : أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مَا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ، وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي الْمُوَاسَاةَ فِي ذَاتِ أَيْدِيكُمْ . قَالُوا : هَذَا لَك ، فَمَا لَنَا ؟ قَالَ : الْجَنَّةُ . قَالَ : اُبْسُطْ يَدَك ) .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا فَإِنَّ مَعْنَاهُ ثَابِتٌ من طُرُقٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لِلسَّيِّدِ ، لَكِنْ إذَا مَلَكَهُ وَعَامَلَهُ فِيمَا جُعِلَ إلَيْهِ وَتَاجَرَهُ بِمَا مَلَّكَهُ من مِلْكِهِ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لِلَّهِ ، وَالْعِبَادُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِلَّهِ ، وَأَمَرَهُمْ بِإِتْلَافِهَا فِي طَاعَتِهِ ، وَإِهْلَاكِهَا فِي مَرْضَاتِهِ ، وَأَعْطَاهُمْ الْجَنَّةَ عِوَضًا عَنْهَا إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِيهَا . وَهُوَ عِوَضٌ عَظِيمٌ ، لَا يُدَانِيهِ مُعَوَّضٌ وَلَا يُقَاسُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ : ( ثَامِنَهُمْ وَاَللَّهِ وَأَغْلَى الثَّمَنَ ) ، يُرِيدُ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ لَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُتَاجَرَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ الرِّبْحُ عَلَى مِقْدَارِ الشِّرَاءِ ؛ بَلْ زَادَ عَلَيْهِ وَأَرْبَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَمَا اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ اشْتَرَى مِنَ الْأَطْفَالِ ، فَآلَمَهُمْ وَأَسْقَمَهُمْ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ ، وَمَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ لِلْبَالِغِينَ ، وَالثَّوَابِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْكَافِلَيْنِ فِيمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الْهَمِّ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْكَفَالَةِ ؛ وَهَذَا بَدِيعٌ فِي بَابِهِ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ ؛ فَإِنَّ الْبَالِغَ يَمْشِي إلَى الْقَتْلِ مُخْتَارًا ، وَالطِّفْلَ يَنَالُهُ الْأَلَمُ اقْتِسَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } إخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَقُلْنَا : إنَّ الْجِهَادَ وَمُحَارَبَةَ الْأَعْدَاءِ إنَّمَا أَصْلُهُ من عَهْدِ مُوسَى ، فَسُبْحَانَ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } :
الْعَهْدُ يَتَضَمَّنُ الْوَفَاءَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ ، وَلَا بُدَّ من وَفَاءِ الْبَارِي تَعَالَى بِالْكُلِّ ، فَأَمَّا وَعْدُهُ فَلِلْجَمِيعِ ، وَأَمَّا وَعِيدُهُ فَمَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْمُذْنِبِينَ وَبِبَعْضِ الذُّنُوبِ ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، فَيَنْفُذُ كَذَلِكَ . وَقَدْ فَاتَ عُلَمَاءَنَا هَذَا الْمِقْدَارُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .