قوله تعالى : { فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة . . . . } إلى قوله تعالى : { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } :
قال ابن مسعود : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدق – يقول : " يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة أربعين يوما ثم يكون مضغة أربعين ثم يبعث الله ملكا فيقول اكتب عمله ورزقه وأجله واكتب شقيا أو سعيدا . . . . " الحديث {[9755]} . وقوله : { من تراب } ، يريد آدم من تراب ، فأنتم من تراب لأنكم من نسله ، ومن كان أصله تربا فهو ترب . وقوله تعالى : { ثم من نطفة } يريد المني الذي يكون منه الخلق وخصه بعضهم ببني آدم {[9756]} . وقوله تعالى : { ثم من علقة } يريد الدم الذي تعود النطفة إليه ، والعلق الدم العبيط . وقيل {[9757]} العلق الشديد الحمرة فسمي الدم بذلك . وقوله تعالى : { من مضغة } يريد مضغة على قدر ما يمضغ . قال زهير {[9758]} :
تلجلج مضغة فيها أنيص *** أطلت فهي تحت الكشح داء
وقوله تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } : قال مجاهد مصورة وغير مصورة ، وقال قتادة تامة الخلق وغير تامة الخلق ، وقال الشعبي : النطفة والعلقة والمضغة إذا بلغت في الخلق الرابع كانت مخلقة ، وإذا نزفها الرحم قبل ذلك كانت غير مخلقة {[9759]} . واختلف في الذي نعت به {[9760]} مخلقة وغير مخلقة . فقيل ذلك من نعت مضغة ، وقيل من نعت نطفة ، وعلى قول الشافعي من نعت النطفة والعلقة والمضغة . وقد اختلف في الذي تكون به الجارية أم ولد اختلافا كثيرا . فذهب ابن القاسم – ورواه عن مالك – إلى أنها تكون أم ولد بالعلقة {[9761]} وقد ذكرنا أن العلقة الدم والمضغة ما فوقها .
وقال أشهب لا تكون أم ولد بالعقة- يريد والله تعالى أعلم- أنها تكون أم ولد بالمضغة فأعلى ، وهو قول الأوزاعي وغيره {[9762]} .
وذهب الشافعي إلى أنها لا تكون أم ولد حتى يتم شيء من خلقه ، عين أو ظفر أو ما أشبه ذلك ، وهو قول أبي حنيفة . والأظهر مذهب مالك رحمه الله تعالى لأن الله تعالى قد جعل درجات خلقه من نطفة إلى علقة إلى مضغة ، والنطفة لما كانت المني لم يجب أن تكون الجارية بها أم ولد لأنها بعد لم يحدث فيها الرحم شيئا لم يكن قبل ، فإذا صار علقة فقد أحدث الرحم فيها {[9763]} شيئا لم يكن وتغير اسم النطفة واستعدت للتخليق ، فمن حينئذ ينبغي أن تكون الجارية أم ولد . وذكر إسماعيل القاضي عن مالك أن الأمة تكون أم ولد بالمضغة التي يعلم أنها مضغة ، واحتج بهذه الآية : { مخلقة وغير مخلقة } قال : وبذلك تخرج المرأة من العدة وبه تعتق أم الولد إذا أسقطته بعد موت سيدها . قال : وأما النطفة والعلقة فهي دم فليس ذلك براءة ، وأما {[9764]} إذا تبين من الخلق شيء – وإن قل – فهذا يكفن ويغسل إذا تبين الرأس إلى عجب الذنب ، وإن لم يتم الخلق ، وهذا قول مالك والحجة فيه القرآن . وقوله عز وجل : { مخلقة وغير مخلقة } أخبرنا أن غير المخلقة لها حكم المخلقة بأن يحكم للأمة بحكم أم الولد ولذلك ما جعل في أخلاص المرأة غير عبد أو وليدة إذا تبين بعض الخلق {[9765]} . وذكر أبو الحسن أن الآية تقتضي أن لا تكون المضغة إنسانا كما اقتضت ذلك في العلقة والنطفة والتراب لأن الله تعالى نبهنا بهذه الآية على كمال قدرته بأن خلق الإنسان من غير إنسان وهي النطفة والمضغة التي لا تخطيط فيها ولا تركيب . فإذا لم يكن إنسانا جاز أن يقال فيه إنها ليست بحمل كالنطفة . ويحتمل أن يقال إنه أصل الإنسان الذي انعقد واشتمل عليه الرحم وصار حملا وليس كالنطفة . وزعم إسماعيل بن إسحاق أن قوما زعموا أن السقط لا تنقضي به العدة ولا تصير به الأمة أم ولد ، وزعم أن هذا غلط لأنه تعالى أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخل فيما ذكر من خلق الإنسان . كما ذكر المخلقة ودل على أن كل ما يكون من ذلك إلى خروج الولد من بطن أمه فهو حمل ، وقد قال تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] قال وهذا لا حجة فيه فإن الله تعالى لم يذكر أنه حمل وإنما نبه على قدرته بأن خلقها مما ذكر فلم تدخل النطفة ولا العلقة ولا المضغة المخلقة في اسم الإنسان ، فليس بشيء من ذلك ولدا .
وقوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] فالمراد به ما سمي ولدا . واستدل إسماعيل بن إسحاق أيضا على أنه يرث بهذا ، وهو قول غلط لأنه إنما يعتبر ميراثه عند الولادة حتى لو طلقها منذ أربع سنين وأتت بولد وعلم أنه في تلك الحالة نطفة ورث أيضا . ولو انفصل عنها وقد تكامل خلقه لم يرث وانقضت به العدة . فهما حكمان متباينان {[9766]} وأحكام الجنين كثيرة وليس هذا موضع ذكرها ، وإن كان بعضهم قد ذكر في هذا الموضع من أحكامه كثيرا كاختلاف الناس في الصلاة عليه ما لم يستهل ، إلى غير ذلك {[9767]} فأعرضت عنها لما ذكرته ، وسائر الآيات قد مر الكلام على أحكامها في مواضعها .