– قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج . . . . } إلى قوله تعالى : { إنما المؤمنون . . . . } :
اختلف في المعنى الذي رفع الله تعالى فيه الحرج عن الأصناف الثلاثة : العمى والحرج والمرض . فقال ابن زيد هو الحرج في الغزو ، أي لا حرج عليهم في تأخيرهم . وقيل هو في معنى المطاعم . واختلف من ذهب إلى ذلك في الحرج فيمن كان ؟ فقيل كانت العرب ، ومن بالمدينة قبل المبعث ، تجتنب الأكل مع أهل الأعذار . فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى ولانبساط الجلسة من الأعرج ولرائحة المريض ، ونحو ذلك . وهي أخلاق جاهلية وكبر ، فنزلت الآية مؤدبة . وقيل إن أهل هذه الأعذار كانوا المتحرجين من الأكل مع الناس ، ثم اختلف لم ، فقيل من أجل عذرهم ، فنزلت الآية {[10169]} وقيل إن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو خلفوا أهل العذر في منازلهم وأموالهم فكان أهل العذر يتجنبون أكل مال الغائب فنزلت الآية مبيحة لهم أكل الحاجة من طعام الغائب إذا كان الغائب قد بنى على ذلك {[10170]} وقيل كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب بهم إلى بيوت قرابته فتحرج أهل الأعذار من ذلك وقيل إن التحرج المذكور إنما كان من الناس وذلك أنه لما نزلت : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قالوا : لا مال أعز من الطعام وتحرجوا من الأكل مع أهل الأعذار مخافة عليهم فيقعون في أكل المال بالباطل إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء لعدم الرؤية من الأعمى والعجز عن المزاحمة من الأعرج ولضعف المريض . فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم {[10171]} ففي القول الأول التحرج مرفوع عن أهل الأعذار . وفي الآخر إنما هو مرفوع عن غيرهم من الناس . وفي القول الثاني مختلف عمن هو مرفوع . وقد اختلف في مواكلة الأجذم فأجازه قوم ومنعه آخرون . وقد جاء في الحديث ما ظاهره التعارض من ذلك {[10172]} والآية على أحد التأويلات المتقدمة حجة في الجواز . والذي ينبغي أن يقال في الآية أن الحرج مرفوع بها عن الأصناف الثلاثة في كل ما يضطرهم إليه العذر . فكل تكليف يتعلق بالبصر {[10173]} فقد سقط عن الأعمى . وكل تكليف يتعلق بالأعرج قبل عرجه ولا يمكنه معه فعله فقد سقط عنه تكليفه .
وقوله تعالى : { ولا على أنفسكم } الآية :
عدد الله تعالى فيها البيوت التي أباح الأكل فيها بغير إذن . فبدأ تعالى ببيت الرجل نفسه إذ لا أخص به منه ولما لم يذكر تعالى من جملة البيوت بيوت الأبناء . قال جماعة من المفسرين إنه داخل في قوله تعالى : { من بيوتكم } لأن بيت ابن الرجل بيته {[10174]} وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يأكل من بيت ابنه من غير إذنه كما يأكل من بيت نفسه لأن له أن يأخذ ماله ويستحله . ثم ذكر بيوت الآباء ، فأباح للآباء الأكل منها بغير إذن . ثم ذكر على نحو ذلك بيوت الأمهات ثم ذكر بيوت الإخوان وهم الإخوة ثم ذكر بيوت الأخوات ثم بيوت الأعمام ثم بيوت العمات ثم بيوت الأخوال ثم بيوت الخالات ثم قال : { أو ما ملكتم مفاتحه } قيل يعني ما دفعت إليكم مفاتحه لتكون تحت نظركم على ما يأتي ذكره بعد هذا . وقيل المراد ما ملك الرجل من متاع نفسه . وهذا ضعيف لأن ما تقدم من قوله : { بيوتكم } يغني عنه . وقيل معناه ما حزتم وصار في قبضتكم {[10175]} وعند جماعة من المفسرين أنه يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف {[10176]} . ثم قال تعالى : { أو صديقكم } فقرن الله تعالى الصداقة بالقرابة . قال معمر : قلت لقتادة : ألا أشرب من هذا الحب ؟ قال أنت لي صديق فما هذا الاستئذان {[10177]} وقال ابن عباس الصداقة أوكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين : { فما لنا من شافعين ( 100 ) ولا صديق حميم ( 101 ) } [ الشعراء : 100 ، 101 ] واختلف المفسرون في هذه الآية في قوله : { أو بيوت آبائكم . . . . } إلى قوله تعالى : { ليس عليكم جناح } هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب قوم إلى أنها منسوخة وأنه لا يجوز أن يؤكل من بيت أحد إلا بإذنه . واختلفوا في الناسخ ، فقال بعضهم نسخها قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } { البقرة : 188 } وقوله تعالى : { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يحل من مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " {[10178]} . وقيل بل نسخها قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } [ النور : 27 ] . وإذا منعوا الدخول بغير استئذان ، كان الأكل أولى أن يمنع إلا بإذن . وقال بعضهم نسخها قوله عليه الصلاة والسلام : " إن دماءكم وأموالكم عليك حرام " {[10179]} وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر : " لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " {[10180]} . قال ابن زيد وكانوا في أول أمرهم ليس على {[10181]} أبوابهم غلق فكانت الستور مرخاة فربما جاء الرجل وهو جائع فدخل البيت وليس فيه أحد فسوغه تعالى أن يأكل . ثم الآن صارت الأغلاق على البيوت فلا تحل لأحد أن يفتحها فذهب هذا وانقطع وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " . وقيل الآية محكمة . ثم اختلفوا في تأويلها . فقال ابن عباس هي محكمة ناسخة لما أحدث المؤمنون عند نزول قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وذلك أنهم قالوا قد نهى عن أكل الأموال بالباطل ، والطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحد أن يأكل عند أحد ، فكف الناس عن أكل بعضهم عند بعض . فأنزل الله تعالى : { ليس على الأعمى حرج . . . } الآية إلى آخرها {[10182]} .
ثم اختلف الذين ذهبوا إلى هذا هل الآية على عمومها في الإذن وغير الإذن لأنها أباحت الأكل من هذه البيوت ولم يخص إذنا من غير إذن إلا أنها خرجت على سبب الإذن ، وبين الأصليين في ذلك اختلاف . فقال أبو عبيد {[10183]} إنما هو بعد الإذن لأن الناس إنما توقفوا عن الأكل بعد الإذن فأباحه الله تعالى . وقال غيره الأكل جائز بالآية من غير إذن وليس في الآية ذكر الإذن . وقال أكثر أهل التأويل هي محكمة وذلك أنهم كانوا إذا خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيحهم عند أهل العلة ممن يتخلف وعند قربائهم ، فكانوا يأذنون لهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك . فكان المتخلفون يتقون أن يأكلوا منها ويقولون نخشى أن لا تكون أنفسهم طيبة بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات فأحله لهم . واعتبار الإذن أيضا على هذا القول يأتي على الخلاف المتقدم . ومن أباح الأكل من بيوت هؤلاء الأصناف بغير إذن فإنما يبيحه إذا كان يسيرا وعلم أن نفس صاحبه راضية {[10184]} .
وقوله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } :
أباح بهذه الآية الأكل على انفراد ومع الغير وهذا رد لمذهب قوم من العرب كانت لا تأكل أفرادا ألبتة ، قاله الطبري {[10185]} وكانوا يسمون الذي يأكل وحده المرضع . وكان أحدهم إذا وضع طعامه ليأكل أو حلب لقحته ليشرب نادى من حوله . فإن أجابه أحد وإلا نصب عودا أو خشبة عوض الأكل معه . وحكي أن رجلا من العرب نزل واديا وحلب لقحته ونادى من يشرب معه ، ورجل يسمعه فلم يجبه واختفى له . فأخذ عودا أو خشبة فنصبها ثم أخذ الإناء ليشرب فخرج ذلك الرجل إليه فقال : يا موضع ، اشرب وحدك فخشي الآخر أن يعلم بذلك فيعير بالشرب وحده فعدا عليه بالسيف فقتله فلما جاء الإسلام نزلت الآية . ومن ذلك قول بعضهم :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلا فإني لست آكله وحدي {[10186]}
وكان بعض العرب إذا كان له ضيف{[10187]} لا يأكل إلا أن يأكل معه فنزلت الآية مبينة سنة الأكل {[10188]} . ويؤخذ من الآية أيضا أنه يجوز أن تجتمع الجماعة على طعام لهم فيأكلونه وإن تفاضلوا في الأكل . وقد كان يجوز أن يظن أن ذلك محرم من حيث لا يستوون في الأكل ولا يستوون في قدر ما طرح بين أيديهم {[10189]} من الطعام . فأباح الله تعالى ذلك . وقد قال ابن عمر في قوم يأكلون تمرا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القران إلا أن يستأذن الرجل أخاه {[10190]} وهذا كله مع المسامحة ، وأما مع المشاحة فلا يجوز . وقد اختلف في النهبة {[10191]} في الطعام يوضع للأكل في الأعراس وما ينتثر على رؤوس الصبيان ونحو ذلك وفي الآية حجة للقول بالجواز لعموم الآية .
قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } :
اختلف في البيوت المذكورة في الآية ما هي . فقيل المساجد ، وهو قول النخعي ، والمعنى فسلموا على من فيها من صنفكم فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء : السلام على رسول الله . وقيل يقول : السلام عليكم ، يريد الملائكة ثم يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين {[10192]} زاد بعضهم عن الحسن {[10193]} اللهم أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا . وقيل البيوت هي البيوت المسكونة ، وهو قول جابر وابن عباس وغيرهما {[10194]} ، والمعنى فسلموا على صنفكم أي ليسلم بعضكم على بعض . وذكر إسماعيل بن إسحاق أن المراد به أن يسلم الرجل على نفسه إن لم يكن هناك غيره {[10195]} فيكون المراد على هذا بالبيوت غير المسكونة ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . وهذا القول أظهر على لفظ الآية . وقول من قال إن معنى قوله تعالى : { فسلموا على أنفسكم } أي يسلم بعضكم على بعض فيه تجوز {[10196]} . وأما البيوت فأكثر ما يطلق عرفا على بيوت السكنى سكنت أو لم تسكن . وقد اختلف فيمن حلف أن لا يدخل بيتا فدخل المسجد هل يحنث أم لا ؟ .