– قوله تعالى : { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك } :
هذه الآية لا كلام فيها على قول من يرى شريعة من قبلنا لازمة لنا . وأما على قول من لا يرى شريعة من قبلنا لازمة لنا – وهو مذهب أكثر الأصوليين – فيحتاج إلى نظر . وقد قال مكي : فيها خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول المدة وجعل المهر إجارة ودخل ولم ينقد شيئا {[10247]} . والذي يقال في هذا أنه يحتمل أن أمر النكاح عرض على موسى {[10248]} مجملا ، فلما أجاب موسى إلى المصاهرة وقع التعيين ، أو لعل هذا كان جائزا في شريعة موسى النكاح بغير تعيين ويكون مفوضا إلى الولي أو إلى الزوج ولا يمنع من ذلك مانع . إلا أن هذا الوجه الآخر مرفوع بشريعتنا والأول مبقي على حكمه . وأما المدة ، فليس في ألفاظ الآية ما يدل على ترك مراعاتها بل الأمر مسكوت عنه . فإما أن يكون معلوما عندهم ولم يذكر في الآية ، وإما أن يكون مسكوتا عنه عندهم أيضا كما وقع في الآية . وإذا كان كذلك فهو من يوم العقد كسائر عقود الإجارات والأكرية وذلك في شريعتنا محكم معمول به . أو لعله كان في تلك الشريعة إسقاط تعيين وقت الإجارة جائزا ثم رفع في شريعتنا{[10249]} وأما النكاح بالأجرة فبين في الآية وقد جاء في شريعتنا وزانه وهو إنكاح النبي صلى الله عليه وسلم التي وهبت نفسها له الرجل الذي سأله إنكاحها منه ولم يكن عنده إلا آيات يحفظها فأمره أن يعلمها ما عنده من القرآن ويتزوجها بذلك {[10250]} . فهذا تزويج بإجارة . إلا أنه اختلف هل ذلك باق في شريعتنا اليوم مثل ما كان عليه أم لا ؟ فذهب بعضهم إلى أنه غير باق وأن ذلك كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم . وذهب بعضهم أيضا إلى مثل ذلك إلا أنه قال إنه منسوخ . وذهب جماعة إلى أنه محكم وأن ما كان في شريعة من قبلنا من ذلك جاز في شريعتنا . ولهذا {[10251]} اختلف في النكاح بالأجرة على أربعة أقوال . فقيل إنه مكروه وإن وقع مضى . وإليه ذهب أصبغ ورواه عن ابن القاسم وهو ظاهر قول مالك . وقيل إنه ممنوع {[10252]} . وقيل إن كان معه نقد جاز وإن لم يكن نقد لم يجز . وقيل هو جائز من غير تفصيل {[10253]} . وأما النقد فلا ينبغي أن يعترض به لأن الإجارة إذا كانت هي الصداق ، ولم يدخل حتى صنع ما استؤجر فيه ، فقد وقع النقد . ولو دخل قبل ذلك فالدخول بغير نقد ليس بحرام عندنا إذا كان في أصل العقد صداق وإنما هو مختلف فيه بالكراهة والجواز . وقد تقدم الكلام على نحو هذا . ولفظ الآية في قوله تعالى : { أنكحك إحدى ابنتي هاتين } يدل على جواز أن يكتب في الصداق أنكحه إياها {[10254]} وقد اختلف في الاختيار من ذلك . فبعضهم يختار أنكحه إياها ويحتج بلفظ الآية . وبعضهم يختار أنكحها إياه ، لأنه إنما يملك النكاح عليها لا عليه . وقد استدل مالك بهذه الآية على إنكاح الأب البكر بغير استئمار . قال لأنه لم يذكر فيها استئمارا . واحتجاج مالك رحمه الله تعالى بالآية يدل على أن شريعة من قبلنا لازمة لنا على مذهبه إذا لم يكن في شرعنا {[10255]} ما ينسخها . وإنما {[10256]} يستدل به على ترك الاستئمار أيضا فما توجه الخطاب به إلينا دون من قبلنا قول الله عز وجل : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } [ النور : 32 ] لأنه أمر بإنكاح الأيامى من الأحرار والعبيد ولم يذكر في ذلك استئمارا ولا خص أبا من غيره . فوجب بظاهر هذه الآية أن لا يستأمر الأب ولا غيره من الأولياء الأيامى من الأحرار وهن اللواتي لا أزواج لهن ، كما لا يستأمر السيد عبده ولا أمته في النكاح إذ جاءت الآية في ذلك كله مجيئا واحدا ، فخصصت السنة من ذلك من عدا الأب من الأولياء . وتخصص أيضا كذلك الأب في ابنته الثيب وبقي الأب في ابنته البكر على عموم الآية يزوجها دون استئمار كما يزوج السيد عبده وأمته . وقد تقدم الكلام على هذا بما فيه شفاء إن شاء الله تعالى . واختلف الناس في المنكح لموسى عليه السلام من هو . فقيل شعيب النبي {[10257]} وقيل ابن أخ شعيب {[10258]} واختلفوا في اسمه ، فقيل ثروان وقيل يثرون {[10259]} وقيل هو رجل صالح ليس من شعيب بنسب . وقيل إن المرأتين إنما أرسلهما عمهما وهو كان صاحب الغنم وهو المزوج ، لكن عبر بالأب عن العم في جميع الأمر إذ هو بمثابته . واختلف في الزوجة من المرأتين من كانت . فقيل الكبرى وقيل الصغرى . وقال النقاش {[10260]} كانتا توأمتين وولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار . واختلف في اسم المتزوجة . فقيل صفورة وقيل صوريا وقيل غير ذلك {[10261]} . واختلف في الداعية لموسى إلى أبيها من كانت منهما . فقيل الكبرى ، وقيل الصغرى .