41- قوله تعالى : { قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } . |آل عمران : 41|
اختلف في صمت زكرياء ، هل كان على اختيار منه أم لا ؟
فالذين ذهبوا إلى أنه عن{[2325]} اختيار منه اختلفوا في الآية هل هي محكمة أو منسوخة .
فذهب قوم إلى أنها محكمة ، ليس في شريعتنا{[2326]} ما نسخها ، على القول بأن شريعة من قبلنا لازمة لنا أولا{[2327]} . أما على{[2328]} القول بخلاف ذلك لا يحتاج إلى نظر{[2329]} فيها ، هل هي محكمة أو منسوخة ؟
وتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام{[2330]} : " لا صمت يوم إلى الليل {[2331]} " على أن معناها : لا يصمت أحد فلا يذكر الله تعالى يوما إلى الليل ، وهذا محظور في كل شريعة .
والذين ذهبوا إلى أنها منسوخة ، قالوا : نسخها قوله عليه الصلاة والسلام{[2332]} : " لا وصال في الصيام ، ولا يتم بعد احتلام ، ولا عتق قبل ملك ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا وفاء بنذر في معصية الله " {[2333]} .
قالوا : فنسخ إباحة الصمت وهذا النسخ ، إنما يجوز على قول الكوفيين ومن تابعهم .
والذين ذهبوا إلى أن صمته لم يكن اختيارا منه ، وإنما منع الكلام فلم يقدر عليه ، فلا شك أن الآية عندهم محكمة .
وقد اختلف في السبب الذي لأجله منع الكلام زكرياء{[2334]} عليه السلام{[2335]} . فقال بعضهم : إنه قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حقا فاجعل لي علامة أعرف بها صحة ذلك{[2336]} ، فعوقب على هذا الشك في أمر الله ، بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس .
وقيل : لم{[2337]} يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي يكون بها الولد وتتم البشارة فلما{[2338]} قيل له{[2339]} : { كذلك الله{[2340]} يفعل ما يشاء } سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى . واختلف هل كان منعه{[2341]} الكلام بآفة نزلت به أم لا ؟ فقيل : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث{[2342]} . وقيل : أخذ الله تعالى{[2343]} عليه لسانه فجعل لا يقدر على الكلام ؛ فهذان القولان لمن رأى ذلك لآفة . وقال قوم : لم تكن آفة ، ولكنه منع محاورة الناس ، فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله والرمز بالإشارة . وقد اختلف في من حلف أن لا يكلم إنسانا فأشار إليه بالسلام هل يحنث أم لا ؟ فقال ابن عبد الحكم{[2344]} لا يحنث . وقال مالك : يحنث واحتج به ابن حبيب في أن الإشارة بالسلام كلام ؛ لقوله تعالى لزكرياء عليه السلام{[2345]} : { قال آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } ، يريد ابن حبيب : أن الله تعالى{[2346]} جعل الرمز كلاما وهو الإشارة بعينها . وقال عيسى{[2347]} عن ابن القاسم : لا أرى الإشارة بالسلام كلاما ، مثل قول ابن عبد الحكم .
وقد اختلف فيمن حلف أن لا يكلم إنسانا فكتب إليه أو أرسل رسولا{[2348]} ، فقرأ المحلوف عليه الكتاب أو أبلغه{[2349]} الرسول ، على أقوال في المذهب فقيل : يحنث ، وروي ذلك{[2350]} عن مالك .
واحتج له بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } {[2351]} [ الشورى : 51 ] ، أو يرسل رسولا . وهو بعيد{[2352]} لأن الصحيح في الاستثناء أنه منفصل . وقيل{[2353]} : لا يحنث وهو قول أشهب وابن عبد الحكم وابن شهاب{[2354]} وقيل : يحنث إلا أن ينوي المشافهة وهو{[2355]} الذي رجع إليه مالك . وقيل : يحنث في الكتابة {[2356]} إلا أن ينوي المشافهة ، ولا يحنث في الرسول ، رواه أشهب عن مالك . واحتج أبو عبيد{[2357]} للقول بأنه لا يحنث{[2358]} بالكتاب{[2359]} ولا بالإشارة {[2360]} فقال : الكلام غير الخط والإشارة . وأصل هذا أن الله تعالى قال : { آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } ، وقال في موضع آخر : { فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } [ مريم : 11 ] ، والرمز والإشارة بالعين والحاجب ، والوحي الخط والإشارة ، ويقال : كتب إليهم وأشار إليهم وفي قصة مريم : { فلن أكلم اليوم إنسيا } [ مريم : 26 ] ، ثم قال : { فأشارت إليه } [ مريم : 29 ] ، فصار الإيماء والخط خارجين{[2361]} عن معنى النطق .